سالم الدباغ بالأسود والأبيض رسم عالما مكتظا بالألوان
المقاله تحت باب مقالات فنيه في
17/08/2014 06:00 AM GMT
الرسام العراقي سالم الدباغ كان إصراره على نهجه الغارق في شكلانيته الجمالية مثاليا إلى درجة، امتزج من خلالها الأخلاقي بالفني.
كل من قابله من الإعلاميين سأله عن المربع الذي يظهر في لوحاته، كما لو أنه اخترع تلك الوحدة الهندسية. لهم الحق. فما من لوحة من لوحاته تخلو من ذلك المربع. الشكل الذي شكل مصدر حيرة للكثيرين وهم يتساءلون عن سر شغف الرسام به. ربما لأننا نميل دائما إلى أن يكون لكل ما نفعله دافع خفي إذا لم يتم الإعلان عنه.
سحر المربع ما من شيء يقع عبثا. وهو ما كان يوقع الرسام سالم الدباغ في الحرج وهو يحاول أن لا يصطدم مشاهدي رسومه بخلو مربعه من المعاني التي يتوقعونها. كانت ابتسامته الصامتة أقرب إلى الصبر المتعفف منه إلى المكر المتبرم. ربما لأنه لا يرى في الرسم التجريدي مشروعا نخبويا، وربما لأنه لا يزال يملك أملا في أن يتخلى الجمهور عن ولعه بإعادة رؤية ما رآه في الواقع على سطوح اللوحات ليبدأ في البحث في الرسوم عمّا لن تكون رؤيته ممكنة في الواقع.
أتذكر أن منيرة موصلي وهي رسامة سعودية رائدة حين قابلته في بيتي بالدوحة قبل سنوات قالت لي “هذا رسام يثق بالرسم بطريقة نادرة. كما لو أن الرسم نبوءته”.
جملة موصلي هي الأكثر تعبيرا عن حقيقة انتماء الدباغ إلى عالم الرسم الخالص. الرسم وحده كان بالنسبة إليه هو العالم بكل غنى تشعباته. لقد ارتبطت حياته بالرسم بطريقة يبدو معها كما لو أنه خرج من لوحاته لتوه وسيعود إليها في وقت قريب. التجريدي العراقي الأول
لا يحيل سالم الدباغ رسومه إلى انشغالات روحية غامضة. الرجل الذي فوجئ حين رأى المكعب الأسود في البيت الحرام فشعر كما لو أن ذلك المكعب يعيده على عجل إلى رسومه كان في حقيقة اهتماماته منشغلا في إدراك ما تظهره التجربة البصرية من جماليات نادرة وتحليلها، يتخطى الفن من خلالها الطبيعة روعة ودهشة وتمنعا.
الرسام الذي ولد (1941) في الموصل، وهي مدينة خضراء لم تأسره الألوان، بقدر ما قاده خياله إلى اختصار المسافة الهائلة التي تفصل بين حدّي تلك الألوان التي يتضمنها الأخضر العميق، فصار لا يجد متعة بصرية إلا من خلال ما يحدثه ارتطام الأسود والأبيض، بعضهما بالبعض الآخر، وهي خلاصة إعجازية انتهى إليها في وقت مبكر من حياته. الطبيعة والفن
رأيته في أحد اللقاءات التلفزيونية يتحدث عن تأثير الطريق التي كان يسلكها بين الموصل وبغداد يوم كان طالبا في معهد الفنون الجميلة وبعده في أكاديمية الفنون الجميلة. كان يسعى إلى تأثيث فكرته عن الجمال بشيء من الجغرافيا المحلية، في محاولة منه لإفهام محدثه شيئا عن العلاقة بين البيئة والفن. غير أن ما لم يقله المعلم إنما يتعلق بقدرة الرسم على أن يكون طبيعة بديلة. لقد نجح سالم الدباغ منذ بداياته في أن يفصل الرسم عن عالم الطبيعة فكان الرسام التجريدي الأول في تاريخ الرسم الحديث في العراق.
يعود تاريخ أولى لوحاته التجريدية إلى السنوات الأولى من ستينات القرن الماضي يوم كان طالبا في الأكاديمية ليؤكد وجوده المنفصل من خلال مشاركته في معرض جماعة المجددين 1965 (من أعضائها علي طالب، عامر العبيدي، طالب مكي، فائق حسين ونداء كاظم) وهي الجماعة الستينية الأولى التي أعلنت عن تمردها على سلطة رواد الحداثة الفنية في العراق.
كانت تجربة الدباغ عنوانا لتحول خطير ستقف أمامه الحداثة الفنية حائرة. سينافسه في ذلك الموقع الريادي فنان قدم لتوه من روما هو إسماعيل فتاح. ولكن السبق التاريخي يظل للدباغ طبعا.
لم يرسم بعد لوحته الأجمل درس سالم الدباغ الفن في بغداد وفي العام 1969 ذهب إلى لشبونة في البرتغال في منحة من مؤسسة كولبنكيان. هناك تفرغ لفن الحفر الطباعي (غرافيك) وهو ما ظل يدرسه بمعية صديقه رافع الناصري في معهد الفنون الجميلة ببغداد زمنا طويلا. ولكن الدباغ كان قد ذهب إلى لشبونة بروحية فنان غرافيكي. كانت رسومه قد مهدت لانتمائه المبكر إلى ذلك العالم الحبري المتقشف الذي يستخرج كائناته في اللحظة التي ينفصل فيها النهار عن الليل. لم يكن الدباغ رساما نهاريا ولم يكن رساما ليليا. فهل كان مزيجا من رسامين لا يعرف أحدهما الآخر؟
الدباغ كان هو الشخص الثالث. يرسم الدباغ بأناقة. يخرج من الرسم مثلما دخل إليه نظيفا، لا يعلق به شيء من الأصباغ. في المطبخ يفعل الشيء نفسه. غير مرة رأيته يطبخ. ما كان يهمه أن يكون وحيدا في انشغاله. يلهمه سطح اللوحة الفارغ ما لا يلهمه الواقع. كل حركة من يده يمكنها أن تنتج رسما. لا يكف خيال ذلك المربع عن الانبعاث، صغيرا كان أم كبيرا. “أما آن لك أن تتحرر منه ومن الأسود والأبيض، لتكون رساما آخر؟”.
بالنسبة إلى سالم الدباغ فإن الوقت لم يتأخر لأنه لا يزال يرسم باعتباره رساما شابا، غير أنه لم يصل بعد إلى لوحته الأخيرة. وهي لوحة من وجهة نظر المعجبين بفنه كان قد رسمها منذ سنوات. كل من أقتنى لوحة من الدباغ يحق له أن يقول إنها لوحة الرسام الأجمل. لوحته الأخيرة. خلاصة فنه. ولكنها ليست الحقيقة. فهل أنجز سالم الدباغ لوحته الأجمل؟
سخاء الموصلي المبدع
ابن الموصل هو. غير أنه الرسام الموصلي الوحيد الذي لم يلجأ إلى الأناقة المتكلفة، بل والمتحذلقة أحيانا. قبله كان نجيب يونس، ومعه ظهر راكان دبدوب وضرار القدو، وبعده عزام البزاز ومخلد المختار. لم تعرف رسومهم الزهد الذي عرفته رسوم سالم الدباغ. الفرق بين الدباغ وبين الآخرين لا يكمن في التقنية التي لا تخطئ الطريق إلى قوتها والتي تعلمها من فن الحفر الطباعي وحدها بل في طريقة النظر إلى العالم والفن معا. وهما بالنسبة إليه مشروعان جماليان منفصلان.
من وجهة نظر الدباغ كان العالم كاملا، لذلك أدار له ظهره وصار يستخرج من الفن جماله الشخصي. في المقابل فقد كان الآخرون قد اشتبكوا مع العالم في علاقة، كانت غاصة بصخب الأشكال والأصباغ، من أجل أن لا يبقى العالم ناقصا، كما تخيلوه.
كان صمت العالم يزعجهم ويقلق رؤاهم فيما كان ذلك الصمت محل احتفاء من قبل الدباغ الذي لم تأسره الكثير من المقولات النظرية التي كانت شائعة بين الفنانين ونقاد الفن. فهو على سبيل المثال لم يلتفت إلى ما كان يتردد بين الفنانين ونقاد الفن عن الأصالة والهوية واستلهام التراث، وهي المصيدة التي نصبها العقائديون ووقع الفن ضحية لها. كان إصراره على نهجه الغارق في شكلانيته الجمالية مثاليا إلى درجة، امتزج من خلالها الأخلاقي بالفني. فحين صدر قرار رسمي هو الحماقة بعينها بمنع عرض الرسوم التجريدية، تحت ذريعة انتسابها إلى الغرب وعدم انسجامها مع الذائقة الشعبوية كان الدباغ يفضل أن لا يرسم على أن يخضع لذلك القرار ويرسم واقعيا، كما فعل البعض.
لقد اتصفت حياته بالصرامة والانضباط. وهو ما يفسر غزارته في الإنتاج الفني. كان صارما في كل شيء إلا في أسعار لوحاته التي ظلت حتى هذه اللحظة دون المستوى الذي يليق برسام كبير مثله. وهنا أشعر بضرورة الإشارة إلى كرمه. فما من رسام عراقي ينافس الدباغ في سخائه الذي غالبا ما دفع به إلى إهداء لوحاته لمن أعجب بها ولا يملك ثمنها.
حدثني ذات يوم عن نعمة أن يكون المرء رساما، وهو يشير بسعادة إلى لوحاته التي كانت تسر مَن ينظر إليها. وهو ما ينطبق عليّ تماما. لقد أسعدت لوحاته التي كنت حريصا على تعليقها في بيتي أينما حللت الكثير من الزائرين، على اختلاف درجة علاقتهم بالفن. وهو ما يجعلني أردد دائما “شكرا سالم الدباغ. لقد أمتعت بشرا عاديين”.