الفنان العراقي: هيمت محمد علي، "رجل الشمس والأيام المسرعة"

المقاله تحت باب  مقالات فنيه
في 
15/11/2007 06:00 AM
GMT



غالبا ما يبدو بين حالتين من ذهول ودهشة حتى وهو يتحدث يتأملك طويلا قبل الرد، مستخدما الصمت برقة النسيم وذاهبا للسكوت كأنه نوع من القصاص لا أعرف لمن، ربما لذاته. يداه إلى الوراء دائما ككهل حكيم بالرغم من انه ما زال في سن النضوج والنضارة الروحية ونحن نتمشى في دروب باريس في طريقنا لزيارة المعرض الفلاني أو اللقاء بأصدقاء يظل منطويا ونحن الذين نسحب منه الكلام الجميل وعلى دفعات. الفنان العراقي هيمت محمد علي قطف نجاحات متميزة في جميع ما عرض وعمل فتأخر هذا الحوار طويلا لرحلاته المتكررة. فمنذ تعارفنا قبل أعوام شغفت بلوحاته ذات الحسية الطافحة والألوان النارية بعتمتها وسريتها أما التشاؤم فقد كان نهائيا داخلها. لست، بالطبع كصديقنا المشترك الناقد والشاعر العراقي فاروق يوسف حين قدمه في رسالة صوفية تحت عنوان تمائم العزلة فصدر كتابا شديد التنوع والإثارة والقوة لتوثيق مراحل من تطوره وانجازاته. كتاب ثمين بورق صقيل وطباعة فاخرة وتصوير للوحات تقترب من الأصل وإخراج غاية في الاتقان والجمال، أهداه إلى شاكر حسن آل سعيد على هذه الصورة:
 "إلى أستاذي وصديقي. إلى كل من أخذ بيدي وسار معي في هذا الطريق". قدم هذا الكاتالوغ / القصيدة الفنان العراقي الكبير شاكر حسن آل سعيد برسالة شخصية تصدرت الكتاب وبخط اليد. خط آل سعيد لوحة لوحده كاتبا لهيمت ما يلي: "لا شك أن اقتصار الألوان لديه حينئذ على لون واحد أو لونين سيجعل من الخط "دوره الاساس في تصعيد الوجد الروحي للمرئي وهو في حالة تجاذب مع كل من المسموع والمرئي والمتصور" الشاعر أدونيس أهدى له قصيدة ضمت للكتاب: "هيمني على جنونك الكريم الذي يعّلمك ألاّ ترى في صحرائنا غير البحر".
 

 فاروق يوسف كتب قائلا:
"يبدأ صباحه مباشرة مع الشمس ليرى ما انتهت إليه يداه ليلا. وكأن نومه متعبا فاصلة بين حلمين. هيمت ابن لكنته الكردية وتقاطعات الكلام على لسانه. رجل الشمس الذي وجد نفسه محاصرا بعتمة الغيوم والأيام المسرعة". قلت له: 
1- الفنان شاكر حسن آل سعيد أول ما تعرف عليك وشاهد أعمالك كتب قائلا "هيمت يرسم بعفوية مثلما يتحدث أو يعبر عن نفسه؟" أما زلت هكذا؟
- نعم لكن بوعي وحساسية مختلفين. حين تقابلنا شاكر حسن وأنا كنت قادما للتو من الشمال وكانت رسومي التي شاهدها آل حسن هي صور البيت الأول. بالتأكيد تغيرت، من قبل أخذتني العاصمة بغداد وصخبها ثم أوروبا فبدأ الحنين والغربة والفقد يؤثر علي" عندما تتسع الرؤية تضيق العبارة "كيف تحافظ على عفويتك؟ للبيئة الأولى تعود ثم تصير في قلب أوروبا فيتوسع مجال الرسم والرؤية وهنا تبدأ بيئتك الأولى بالتبعثر قليلا ثم يتم الاحتفاظ بها وعدم نسيانها ولكن بطريقة أخرى، ربما حديثة يضحك بصوت خفيض "لكي أتلاءم مع واقعي الحالي. هنا مثل أي فنان أو كاتب يرسم ويكتب وأعماله متوازية مع أعمال فنانين أوروبيين يحيون هنا وبدون قصد حافظوا على جذورهم. أتذكر مقولة لفنان من الباسك (اسبانيا) هو ادواردو تشليدا تقول: "أنا كشجرة جذوري هنا في الباسك وأغصاني تدور في العالم" أشعر أنني هكذا فعلا .

2- الهجرة والترحل والنفي الطويل ككردي عراقي وتعرضك للمحن الشديدة كيف دخلت مجال لوحتك؟
- في إحدى زياراتي للبحرين قدمت بعض اللوحات مستخدما فيها لون التركواز. الفنان رافع الناصري شاهد هذا اللون وأعجبه كثيرا فقال لي هذا لون صعب واستعماله أصعب. سألته، وأنا كيف استعملت هذا اللون برأيك؟
أجابني: لأنك كردي فقد كان ممتازا. أنا امتلك مهرجانا من الألوان لبيئتي الطبيعية ما زالت تسكنني ولذلك فهي تظهر من حين لآخر في لوحاتي. أينما عشت وأقمت يظهر عليك ذلك الجزء من وجودك في اللاوعي، أما الوعي فربما لدي استخدامات لونية بها عتمة وألوان محترقة .

3-هذا التعرض للفقد للوطن والعائلة دفعك للبحث لاكتشاف الآخر حتى لو كان في اليابان. ترى كيف جاءت اليابان إليك وأنت بباريس؟
- أول خروج من العراق للخارج كان في العام 1990.سفرة لليابان ولمدة شهرين وبسبب الأوضاع في بلدي طالت رحلتي لحد اليوم. تركت كل ما أملك هناك وكان علي البدء من جديد. بناء علاقات وصداقات ولوحات. عملت كل هذه العلاقات حتى أحيانا أحاول بناء أو أعادة بناء بلدي مجددا من خلال حياتي وعيشي هنا وهذا، ربما، مستحيل. في اليابان التقيت بمجموعة أصدقاء منهم الشاعر كوتارو جنازومي. في باريس مثلا التقيت أول وصولي بأدونيس وفي كل بلد التقي بكتاب وفنانين ورسامين. في المغرب التقيت بمحمد بنيس وفي البحرين بقاسم حداد. كنت أؤسس وأعمل وأبني من الصفر. فهذه الصداقات لم تكن عابرة وفي كل لقاء وحتى هنا بباريس نلتقي سويا بمجموعة من الشعراء والكتاب الفرنسيين وفي كل لقاء نفكر ونبني مشاريع حتى لو كانت وهمية أو لا تتحقق لكن الذي تحقق فعلا هو الصداقات وثمرتها عمل أكثر من خمسين كتابا فنيا مشتركا ما بين نصوصهم ولوحاتي وعرضنا أكثر من عشرة معارض مع أدونيس واندريه فليتير. يعني كل هذه اللقاءات كان الفن هو الموضوع الأول فيها بعد ذلك تتوطد الصداقة .

4- منذ أواخر الثمانينيات تدرجت في تجربتك الفنية بتراكم تعبيري أخذ خطا محتدما جدا وحين شاهدت صورك وأفراد عائلتك وصورتك أمام مرقد لسيد له شفاعة دينية، بدوت واقفا هناك بباب المغارة أو الكهف، كأنك آتٍ من بطن المكان للتو؟ هل يعود ذاك المكان لرأسك وشغلك؟
- حالتان تحددان وضعيتي ككردي سلبية وايجابية، الأولى شعرت بنفسي ومنذ الطفولة أنني غريب في جميع المعايير ؛ اللغة وطبيعة العيش. مثلا، كنا نتحدث الكردية بالبيت وفي المدرسة نتخاطب بالعربية فأتساءل لماذا؟ هذا في حد ذاته يدعك مشطورا إلى نصفين وهو الذي أثر علي حين وصلت بغداد وأبسط الأمور لغتي العربية لليوم مضعضعة ولكنني أقدر على التعبير بها. الأمر الآخر، منذ شبابي كانت لي رؤية رحبة تستوعب الجميع، حتى الاكراد ببغداد كانوا ينظرون لي بريبة، بمعنى ؛ لماذا أسافر للعاصمة واترك الشمال وحتى اليوم ما زال هذا الأمر مستمرا لأن علاقتي بأهلي وأصدقائي العرب ظلت قوية ولذلك غربتي بقيت مقسومة على أكثر من واحد. الأمر الايجابي هو، منذ الطفولة ولليوم أبحث عن أجوبة عن أسئلتي الصعبة: سؤال الوطن، الهوية والأهل وهو أمر نافع جدا في عملية البحث عن المرجعيات فمنذ الطفولة جيراننا على اليمين من العرب وعلى اليسار من الاتراك. أما تلك المغارة فأشكرك لأنك انتبهت لها فهي لم تبرح خيالي قط لأسباب عديدة لكن ألطفها هو أن داخل هذا البناء كانت توجد قاعدة مربعة وعليها سبعة أحجار مدورة وهي تحكي قصة، فإذا لديك أمنية ما تذهب داخل المرقد وتضع هذه الأحجار واحدة فوق الثانية فإذا نجحت ولم تسقط الأحجار يكون مرادك قد حصل وهذا بحد ذاته عمل فني لا مثيل له وهو أيضا عمل نفسي وعاطفي لا زال يسكنني .

5- من أية مدينة في الشمال أنت؟
- كركوك. منذ الطفولة كنا نتحدث ثلاث لغات حتى لو كانت مكسرة .

6- أظن هذه الأمور التي ذكرتها تغني التجربة الوجودية والفنية لأي فنان. في خضم العلاقات الكثيرة واللغات المختلفة والوجوه المتغيرة والاعراق التي بلا عدد كلها تدخل في الأخير نسيج أعمالك لأنها دخلت وجدانك، أليس هذا ما حصل معك؟
- أجل هذا صحيح تماما .
 


7- حين زرتك في مرسمك قبل أيام أطلعتني على آخر أعمالك مجزرة شارع المتنبي الأخيرة. كتب مفتوحة على الجحيم وآتية من هناك. كيف حضر ذلك الشارع في اللوحة، بل ماذا يفعل الفنان التشكيلي إزاء ما يحصل في تلك البلاد؟
- منذ أكثر من ثماني سنوات كنت أريد أن أقدم شيئا أو مشروعا لبلدي وكعادتي، هذا الشيء أفضل أن لا يكون مباشرا بل أريده أن يكون عميقا مركزا جدا ولذلك طلبت من أصدقائي وهم شعراء عرب وفرنسيون أدونيس، برنارد نويل، قاسم حداد، محمد بنيس، ميشيل بيتور وممكن عبدالمنعم رمضان الشاعر المصري، طلبت من هؤلاء كتابة رسالة إلى عشتار وتقريبا الجميع أجاب بالموافقة ولدي القصائد وأنا بصدد انجاز هذا المشروع - الكتاب. منذ ذلك الوقت عملت كتبا عديدة لكن ظل هذا المشروع في رأسي ولم يتحقق وكأن الكتب التي عملتها سابقا كانت مجرد تحضيرات وتجارب لكتاب رسائل إلى عشتار. منذ شهر مارس الماضي بدأت المجزرة في شارع المتنبي ببغداد، وأنا أعتقد أن الحي ذاك قد ترك أثرا لا يمحى وحزنا عميقا لتاريخ الشارع والكتاب والثقافة العراقية بصورة عامة.
 بعدها بأيام وخلال محادثة مع الفنان ضياء العزاوي اقترح علي عمل كتاب عن الشارع وبدأت بالفعل التحضيرات والبروفات. لملمت أشياء مبعثرة وكانت لدي مجموعات من أوراق بحجوم مختلفة قديمة جدا في البيت مكتوبة بخطوط مختلفة قديمة جدا، وبدأت أرسم كولاجات وأستعمل أوراق هذه الكتب وبحثت عن الصور الحقيقية الفوتوغرافية للشارع قبل وأثناء وبعد المجزرة. بدأت العمل ورقة بعد ورقة وأخذني الألم والمشروع فترة شهور. منذ مارس ولليوم لم أنته بعد. رسائل إلى عشتار تأجلت أيضا وأخذني الشارع إليه تماما وكأن حزن عشتار هو ذاته حزني على الكتب والمجلدات فظهرت الأوراق والكراسات ولم تنته لحد اليوم .

8- أنت تشتغل أيضا مع الشعراء والكتاب حدثنا عن أولئك، كيف تهزك القصيدة وبماذا يتحدث اللون والتشكيل؟
- هذا يعود لفترة شبابي قبل البدء بالرسم كنت أكتب الشعر ولفترة طويلة، لعامين على ما أظن ولدي قصائد ودفاتر عدة لكني اكتشفت في النهاية أنني مشروع شاعر فاشل فانتقلت للرسم لكن ظل الكتاب والقصيدة في داخلي كمشروع لم يكتمل أو هو مؤجل. قبل لقائي بالشعراء كنت وحدي أعمل كتبا فنية وفي نفس الوقت أقرأ قصائد لكثير من الشعراء. أعجبت بشعر التصوف للحلاج ورابعة العدوية وابن عربي. وحين قرأت للشعراء المعاصرين كان أيضا مشروعا صعبا. وحين اقتربنا بعضنا من بعض وعلى الخصوص، الشعراء الذين كانت قصائدهم قريبة من نفسي كنا نتفاهم بسهولة، أفهم قصائدهم ويفهمون لوحاتي ولذلك تم العمل بيسر شديد .
 
 

9- من كان الأقرب إليك من الشعراء، ومنح لوحتك شعرية شديدة الغنى؟
- عملت مع شعراء كانوا قريبين مني وهم ليسوا كثيرين بالطبع. تم اختيارهم لأنهم أصدقائي وأعمالهم قريبة من أعمالي. يظل أحدهم تأملي والآخر يمثل حنيني للبلد والثالث أحببت عمقه الفلسفي والياباني منهم شغفت بحبه لطبيعة بلده، الزهور بالذات ولقد كتبت تلك القصائد تحت عنوان زهور من السماء واصدرناه في كتاب سويا بعدما عرضت لوحاتي من وحي قصائده في معرضي الأخير بالمملكة الأردنية عمان وأهديته له ونجح نجاحا غير مسبوق لأي معرض من معارضي. تصوري هذا المقطع من شعر الياباني كوتارو جنازومي:
عندما تصل الأزهار إلى أوج الأناقة،
وتهجر الأغصان


"كم تبدو صافية نوايا شجرة الكرز" 
10- قال لك صديقك الياباني: أريدك أن ترسم كما تحب هل سمعت وصيته جيدا؟
- قبل أن يقول لي هذا الكلام قال لي قولا بديعا على هذه الصيغة: هذه لوحات لست وحدك من يرسمها وانما شخص آخر في داخلك هو الذي يقوم بالعمل. هذا الشخص الذي يعنيه الشاعر الياباني هو الحب الذي يطلبه مني حين أبدأ بالرسم . 

11- هذا الغرب وبدون أن نضع وراءه أية نعوت، ما هو بالنسبة إليك وأنت كما أظن فنان شرقي؟ لا أدري ربما هذه النعوت بها أخطاء إجرائية؟
- حين أزور المتاحف ونحن نمشي في الشوارع مع أصدقاء فرنسيين وأقرأ لكتابهم وأزور مسارحهم وأعيش حياتهم خارج مرسمي، أشعر أنني في الغرب وهذا الغرب انتفع منه بتنظيف بصري جماليا ومعماريا ونهضويا وحين أعود إلى سكني أشعر أنني عدت لبيتي لوطني وبلدي، بمعنى أنا الفنان الشرقي فعلا .

12- أخيرا عندما تشاهد صفحة بيضاء اللوحة بماذا تفكر حالا؟
- حين أرى صفحة بيضاء أو كارتونا في الشارع العام أو بابا أو شباكا كل ما يخطر ببالي أحد أجزاء ما يشكل اللوحة وهو الشكل، الكتلة واللون. وهذه حالة صادفتني حين كنت بالمغرب. لقد دعيت لمهرجان أصيلة وطلب مني رسم جدارية في مكان معين وهذا المكان لم يعجبني الرسم عليه. قلت لهم ذلك واخترنا موقعا آخر، وأنا أبحث اكتشفت ما يقارب من عشرين مكانا صالحا للرسم ولذلك طلبت منهم الرسم على جميع ما عثرت عليه من أمكنة وكان بالنسبة إلي يشبه الصلاة. ففي الصباح كان المكان خاويا من السياح وحين بدأ مزاجي بالتوهج وأنا أرسم والسياح يكتشفون ما رسمت سعدت جدا . فيما بعد حصلوا على معرض داخل المدينة مكون من خمس عشرة جدارية في مدينة أصيلة. هذا ما عملته في البحرين واليابان أيضا .

- هوامش عن الفنان هيمت محمد علي:
- عضو الرابطة العالمية للفنانين .
- حصل على ميدالية في المدينة العالمية للفنون بباريس .
- قدم 17معرضا فرديا ما بين كركوك اليابان والاردن وباريس وسويسرا والبحرين .
- اشترك ب 18معرضا مشتركا على طول السنين منذ 1982إلى
2003بالاضافة لعشرات الكتب الفنية لشعراء عرب وأجانب