المقاله تحت باب مقالات فنيه في
01/12/2007 06:00 AM GMT
(مالم نكن أطفالاً نكون ميتين)
برانكوزي
تمثل التجربة الإبداعية حالة من الإسقاط الواعي الممنهج لما يحدث للإنسان في واقعه وهي خلاصة لمجمل الضغوط والتراكمات التي تقع عليه مخلفةً صورها في نتاجه وسلوكهُ الإبداعي، وما الفن الا رد فعل صادق وغامض لحركة الحياة مشكلاً عاملاً موازناً لإيقاعها الخفي، ومعادلاً عكسياً لعجلتها الجارفة، مرتقاً بذلك ثوب الحياة، ولا يمكن للفن أن يظهر إلا بوصفه بصمة على طين التدوين بإصبع الحياة الضاغطة التي تطبع أثرها بسلطة قاهرة عتيدة إذ لا يمكن لأحد أن يتخلص من ظلالها أو نسف وجودها المهمين بكل ما تحمل من وجوه متعددة، فلا يوجد النص الجمالي إلا بكونه مزيجا من الإيحاءات لمكنونات الوجود وخليط أحداثه، قادما كنسغ يحمل نكهة الحياة وملامحها وهو القالب المنظم والموثق لواقع الحياة، والفنان تحديداً يمثل ذلك المجس، أو شوكة الحياة الرنانة الأكثر رهافة وفصاحة، في التوصيف والإدلاء بما يقع على مناخه من أحداث تمس وجوده وتهدد حضوره الإنساني واكثر ما يمكنه ان يكون مؤثراً في ذاته تلك الأحداث الكارثية التي تقهر انتماءه وتبدد ديمومته فهل من المشروط ان يكون النتاج الفني مظهراً مباشراً من مظاهر الحياة المعيشة بوصف الفن عدسة لاقطة تحاكي الحياة وتسرد أحداثها مدونة ما لا يطاق من حوادثها واحوالها او للاحاطة بما لا يستساغ من ظروفها أم أن هناك فسحة للمنتج الجمالي يغتنمها في عالمهُ، ليشكل الهروب من الواقع وإعلان العصيان عليه، والامساك بالغائب منغمساً في الحلم باحثا في الجانب الآخر مستدعياً ما غاب عن الكون تحت سلطة الوهم الذي يمثل في اغلب الاحيان أريكة تشبه أريكة (ماتيس) وهو يسعى لإنجاز لوحة هاربة من زمن الحرب لتكون بمثابة اريكة لاستراحة المحارب.
(مشت الخيول على العصافير الصغيرة... فإبتدعنا الياسمين)
محمود درويش
جيل من كارهي الحرب... يمارسون العصيان ضد الخوف والخبث والدخان والعتمة ثملين باحثين عن عالم الطفولة، منغمسين بمائه الملون... لاهين بطائرات ورقية وعصافير وعجلات يربون قططهم وحملانهم على خاصرة اللوحة يركضون تحت مطر ابيض بمظلات مخمل سالكين أزقتها اللينة عائمين في ظلالها القزحية بعيداً عن سياط الحرب. يفتشون عن السلام ممسكين بالدعة رافضين أن تحمل أعمالهم روح الكارثة كما فعل (بابلو بيكاسو) في عمله (جورنيكا) فقد أداروا ظهورهم للحرب واشاحوا بوجوههم عنها يقصدون البراءة ، يمسحون بالبياض وجوه المدن الملوثة بدخان الحروب مضخمين صوت الحياة بوجه الموت وفيما يقوله عاصم عبد الأمير (حيث تضيق بك الحياة ذرعاً، ويصبح لا مفر أمامك سوى الصراخ يكون هو أحد الحلول لتوصيل الرسالة، واللوحة هي صراخ بوجه الخطيئة والرزايا).
ذلك ما حدا بمجموعة من الفنانين العراقيين للاصطفاف في صف واحد بحثاً عن عالم من الشعرية الخالصة، وبأساليب متباينة ذوات مقاربات تقنية منهجية تنحو في سياقاتها منحى واحداً ممثلاً بعفوية الشكل وطراوة التكوين مستعيدين كل ما يربط بعالم الطفولة البكر من رموز واشارات كلٌ حسب مرجعيته قابضين باليد الأخرى على الإرث العراقي لينتمي النتاج الى أرضٍ واحدة، تلك الأرض الأولى وهو ما يعد ظاهرة لافتة للانتباه تليق بالتساؤل والمراجعة فلماذا يقترب هؤلاء من عالم الطفولة الغائبة سائرين عكس ما تؤول إليه الحياة منهمكين بالبحث عن الفطرة الأولى ينظرون الى الكون بعين حانية ليستعيدوا عذرية العالم مفتشين عن النقاء وبياض السريرة معربين عن حاجتهم لعالم كعالم الطفولة الضائعة عالم يرسخ فيه السلام وتنام على كتفه السكنية ساعين الى تفخميم صوت الفطرة تحت أيقونات وإشارات ومراجع دلالية تحيل القارئ الى الايمان بذلك الفضاء الغض الشفيف.
مناخات عابثة... وفضاءات قزحية
يرتكز المشهد عموماً على استعارة الارتباط الوثيق بين الشكل وتقنية انتاجه او اخراجه فالتجارب عموماً قائمة على الإخراج الفني ذاته في سبك اللوحة لونياً وترصين شكلها برصف المساحات اللونية المتداخلة والمرصعة بشكل موزائيكي ذي منحى تعبيري ينسجم مع ما جاء من اجله العمل اصلاً متخذاً من اللون العنصر الأساس والفاعل في إنجاز اللوحة بروح شعرية متدفقة على وفق التناغمات اللونية معتمدين في مجمل التجارب على البراعة في استثمار اللون وتناقضاته والتي تهيئ لها ذلك التوهج والاتقاد اللذين يصلان بالعمل الى عالم الدفء والوداعة.
في تجربة (فاخر محمد) يكون للون القدرة على الإحاطة بالسطح وترصيع سطحه فعمله يحمل بينة شكلية لونية متواترة إذ تنكفئ اللوحة على فضائها متماسكة لا تقبل التبدد أو التجزؤ او تقفل اللوحة ذاتها كما يفعل (عاصم عبد الأمير) ليكون اللون مهميناً ناشطاً ومتساوياً على ارجاء السطح من حيث الأهمية والحضور فيما نجد (محمد قريش) يرسم بروح الطفل أكثر مما يشير اليه على وفق خطوطه اللينة وبناءات لوحته التي تشبه لعب (الميكانو) فيما نجد أن( هاشم حنون) يمنح كائناته فضاءً واضحاً لتدور فيه، فهو لا يحشر كائناته التي لا تتعدى في أكثر الاحيان وجوه أطفال في فضاءات ضيقة بل يسعى لمنح أشكاله متنفساً من اللون شاعراً بروح الطفل لديه وحاجته للمكان فيما يغيب الطفل عن لوحة( ضياء الخزاعي) ليحضر بحضور ما يمثله أو يشير اليه, عجلات و قطط و مظلات ساعياً لحذف أو ترك أو تهميش جزء من السطح التصويري لإبداء الفرصة للمشاهد لاكمال النص مشيرا بذلك الى الغياب من جانب والى تحفيز وحث المتلقي لإحضار ما غاب عن السطح من تهويمات مثيراً بذلك لعبة التخمين أو التخيل و طرح الأحجيات .
إشارات متعددة... وطفولة واحدة
قطط و ديكة . صبية ووجوه , غزلان ودرجات مظلات ، طائرات ورقية، أقمار وقناديل وأعشاب ، ورموز تنتمي في أصلها الى عالم أليف طيع، وترتبط ارتباطاً وثيقاً بالإكتشاف الاول وبين خليط تلك الإشارات تتكثف روح الطفولة التي اثرت التجربة مشتركين في تأسيس عالم من الرموز والدلالات يفضي في منتهاه الى طفولة راسخة تبنى في كافة التجارب على استخدام الخط اللين الرهيف والمستعار من لدانة الخط لدى الطفل والممثل بعفوية التكوين لتذكرنا بخربشات الأطفال على الكراريس والجدران والتي دعمت المشهد عموماً و أثرت صورته مغذية روحهُ ومؤكدة ما جاءت من أجله على وفق بناء صريح.
ان مادفع هؤلاء للانخراط في عالم الطفولة لا يعني فقط الاشارة الى عالم بدا ضائعا او التصريح بالحنين اليه او الظمأ لفتنته . وانما هو الحاجة الاولى لممارسة الطفولة في اللهو على سطح القماشة واستعادة متعة الطفولة بعيدا عن لعبة الموت والحرب التي لم نتفق على ممارستها قط ، وتحت غمامة المخاوف و سنوات الرعب ما زال الفنانون يمارسون طفولاتهم تحت ظلال الوهم مؤسسين تجارب مهمة تندد بالموت وتستنكر الخطيئة لائقة بروح الانسان من جانب وبالإرث الرافديني من جانب آخر.
|