في واقعية ابراهيم العبدلي أطياف الرؤية وجذور الرسم

المقاله تحت باب  مقالات فنيه
في 
11/12/2007 06:00 AM
GMT




      مخيال النص البكر :

        ليس بدافع استذكار انساق بناء النص القديم ، يولد، في عمق تصادمات وتحولات الحداثات ،من ناحية ، أو عبر مأزق إثبات الذات ، بفعل التناحر وانتزاع الملكيات ومحو الهويات ، تتكون  الاساليب ، من ناحية ثانية . ان ابراهيم العبدلي ، كما في كل حداثة تتمسك بهاجس ازدراء الرداءة ، واثر السوق ، والاغتراب ، لا يتخلى عن سياق الفن في بناء نصه الواقعي .. فهو لم يختر مرئيات الموجودات ، والوجود ، كما تشتغل العدسات والآت حفظ المشاهد ، بل لأنه يجد ، في كل نص ، علاقة حميمية ، شفافة على صعيد الاسلوب ، لجعل الجدل طريقة في الاداء . فليست الحداثات وحدها ، في خطاب الحداثة وفلسفتها ، كمت يلفت ( هابرماس ) النظر الى ذلك ، تمتلك الصدق . صحيح ، ان الانغلاق ، والعمل الاحادي ، والتحجر ، يخلع التجربة الوطنية – القومية ، ولا يجعلها رافدا ً للابداع الكلي .
 لكن كيف ستشكل وعيا ً صادقا ً ، واخلاقيا ً ، خارج مخيالها ، وخارج قانونها في الامتداد ، والتذكر ؟ ان العبدلي لا يتمسك بمقولة ( هايدجر ) حول الوجود( المقذوف ) وكوننا غرباء ، أو ، كالذي يعثر على خروف تائه يستدل به ، كما في قصة لكافكا . ان معنى الوجود ، في الفلسفة الواقعية ، لا يقترح اسئلة تتوقف عند اسباب الوجود، بدايته  ونهايته . انها تتوقف عند الانسان المحاصروالمهدد بالابادات ، ومحو الذات ، وشل مهارات المخيال والتذكر . والحداثات العاملة دفاعا ً عن الابتكار ، لا يسعفها شعار التحديق في العدم .. لأنها وان زعمت كلية التفكير ، فانها لا تفعل شيئا ًقي انخلاعها .. لأنها مهجرة ، ومغلقة داخل فضاءات اللامعنى ، وبعيدا ً عن عناصر بنيتها الفعالة . هل اختار العبدلي ، اخلاقيا ً ، جماليات تعيد الاعتبار لومضات المنجز الواقعي عبر الحضارات ، القديمة والمعاصرة ، خارج هذا المأزق ، اي فعل المحو الحاصل بدافع تراكمات ما فوق رأس المال ، والقوة ، والاقنعة ، أم بالوعي التام للتناحر حد الفناء ، اختار اخلاقيات النص واهدافه المعلنة ، وغير المعلنة ، بجعل جماليات الباث ، خارج التجريد والعلامات السلعية ، خارج الابتكار على صعيد الربح ، وانتزاع حقوق الاخر ..
 عمليا ً ، دمج ابراهيم العبدلي الواقعي بالجوهري ، المشهدالاستذكاري للامتداد ، بالمخيال غير النخبوي ، وغير المعزول عن مصائر الوعي الجمعي . فالرسام لا يعزل اهدافه .. انها تتجمع ، كما في كل أثرتتآلف و( وتتألف ) فيه الذات والشمولية ، الرموز وعلامات الخطاب المشترك : المكان / وخصوصية الزمن / وشفافيات المؤانسة الوجودية . فالهاجس الاخلاقي لا يرتد بنا الى الانغلاق ، وحدود الذاكرة الاحادية . لكنه لا يتخلى ، في كل نص ، عن مغزى الباث هذا ، للنص في خصوصيته ، من الذات نحو الاخر . فجسور الحوار لا تلغي مغزى التقنيات الشفافة ، المنفذة خارج لعب التقنيات ، بل يبقى الفنان اكثر انشغالا ً باطياف الرسم : المعنى والطريقة . فالانسان لم يمت ، ولا الفن ، ولا المطلقغدا وهما ً . ان واقعية العبدلي تبدأ وكأنها تفتتح مشهد الرسم البكر : ذاكرة اليد مع ملمس الكائنات ، وروائح المكان في جدل الامكنة .. انها اخلاقية الوحدة ، لا اخلاقية القطيعة والهدم . فهو لا يجعل ذاته – فلسفيا ً – في موقع العداء والهدم .. ولكنه لا يبني نصوصه فوق الرمال . ثمة لوعة لا تريد ان تكون نهاية الطريق ، ولا اوله . انها لوعة عاشق لا يبعد مغزى الحتميات ، والملغزات ، ولكنه لا يجعل منها واقعا للتصادم ، والعمل الحر حد التدمير . فالبنية عنده تضع نصوصه في جدل الحوار ، وعمقه ، بعيدا عن احتمال نهاية الارض ، تحت أثر الهيمنات . ان الرسام يرسم كل الذي بدا غائبا ً ، في المرئيات ، وكل الذي يريد ان يغيب ، على صعيد شفافيات القلب الكلي . فهولايرسم بغداد أو عمان أو القدس أو مكة ، الطيور او النساء أو الاطفال ،
لا يرسم المشاهد الواقعية جدا ً بدافع محاكاتها ، وتدوينها ، كعناصر ابدية ، بل لأنها ، مع انها تحمل اطيافها ، تتكلم ، فصار يصّور الاصغاء ، بينها وبين من تتفتح لديه قدرات الاستلام ، وشفافيات المحاورة . ان العبدلي يطرد أرث الغابة : شراسات العداء ، وجنون ما فوق القوة . فثمة ، في اختياره للواقعية ، فلسفة تتمسك بالذات البشرية ، في وحدتها ، وفي مصيرها . فالواقعية  لا تصير اسلوبا ً في ترتيب عناصر النص ، بل تجعل العناصر اكثر نطقا ً بما تريد المخفيات ان تقوله : الوجود ، لكن ، عبر رهافة الموجودات . فالواقعية ليست ايديولوجية ، وليست مرآة ، وليست سلعة للمنافسة : انها تتمسك بما يريد الباث ان يوصله عبر تقنيات لا تلغى فيها القواعد : قواعد اليد ، والبصر ، قواعد الشعر  والمخيال الكامن داخلها . انها ذاكرة ، ربما ، لا تتحدى زوالها ، حيث الابدي ، بالمعنى الهيغلي ، يتظاهر حسيا ً ، كي لا تكون الواقعية ، عبر الفعل ، الا بعداص للجوهر ، وليس سطحا ً خال ٍ من خفاياه وتشفيراته وخبرته في خطاب الرسم ، وتقنياته المتوارثة .

   ·       مفتاح الحلم

 

     لا تحذف بدائية فائق حسن في صياغته للمكان ، فالذات ، في النص ، تعثر على سكينتها : نسوة داخل حقل القمح ، وبدو امام الصحراء ، خيول وخيام وخرائب ، صقور مع مخلوقات ، ستتجانس ، مع اسلوب فائق في رؤيته للاشياء . ومحمد عارف ، بنزعته التعبيرية ، هو الاخر ، لا يتخلى عن الجبل : الاسطوري ، والواقعي ، والمشفر .. فالعلاقة تصنع نصا ً لا تكونه الاشياء ، بل الاحلام والشعر . ومحمد علي شاكر ، لا يصور غرفة الا وطنا ً للهمس ، وما ترويه النار ، ولذائذ الحماية بعيدا عن صخب الخارج ..

     وابراهيم العبدلي ، الرسام ، مثل الشاعر عبد الستار الراوي في انحيازه  السحري – الحميم ، لعالم الكرخ ، نراه يعيد بناء ذاته فضاء ً للطفولة وباقي العمر . فهو لا يسترجع ، بل يضعنا في حاضر دائم : حاضر المكان الذي اكتسب ديمومة . فالكرخ ، في تاريخ بغداد ، يتأسس شعرا . والرسام  لا يبني ، الا في حدود تقنيات الواقعية ، ولكنه يصنع اعيادا ً .. كأن العبدلي يقاوم الزمن ، أو يتمسك به ، مثل شرارة توقد ، ويعيدها الى بيتها الابدي . ان واقعية الفنان ، في التصوير العراقي ، لا تؤدي دور العدسة ، بل تجعلها تعمل بحساسية الرائي . فالمكان رائحة .. وحتى ان المغزى الظاهاتي للاشكال الهندسية يفرض علينا قصده المباشر : اننا نعيد سكننا في المكان الذي  لا يريدالرسام ان يغادره . فهذا الانشداد ، لا تتمثل فيه البديهة ، كتعلق العصفوربعشه ، بل بالافصاح عن وعي شفاف للمكان الذي صار تاريخا . بيد انه ليس مجموعة استرجاعات وتحنانات للمكان الاول : بيت الطفولة ، أو رمزية الرحم ، أو الانشغال البصري .. بل المكان – الذات – اللاؤية – التي صارت نصا ً . فالنخيل ، وواجهات المنازل الكرخية القديمة ، وضفاف دجلة ، وزوارق الصيادين ، والازقة ، والمساجد ، والزخارف .. الخ كلها تتآلف : انها علامات تتضمن اعلانا عن ابتكار علامات .. فالرسام يمنح اشكاله لغته الداخلية . لكن هذا لا يتكون الا بالوحدة .. ثمة :

     اولا : عناصر المكان البكر : الكرخ ، رمز المدينة – بغداد التي ستمنح ذاته موضوعا للحضور .

     ثانيا ً : تكوّن الذات داخل باثات المدينة – الكرخ – بغداد ، بكل مكونات الفنان الشعرية – والغنائية .

     ثالثا ً : النص الذي يصير علامة له ، وللمدينة – الكرخ .. النص بصفته واقعة  روحية .   

 

     ان العبدلي لا يرسم الا وكأن الرسم منفذه الوحيد للخلاص : فالنص لا يروي ولا ينقل لنا المرئيات وقد اعاد لها خفاياها فقط ، بل يعلن عن سكنه داخل ذاكرة النص . هكذا تشتغل يده لتحكي همسات العناصر ، وحوار الذات مع موضوعاتها الاليفة . ان مفهوم الواقعية يأخذ مداه بصفته لغة حواس .. لكن الحواس لا تتعطل ، انها تنبثق ، وتسكن معمار لوحاته . فالفنان ، 

 

كما ( الاسطة ) البغدادي بما يمتلك من أرث بالغ القدم ، يبني . انه سومري آخر على صعيد المغزى الفلسفي . فالسومري ، في حضارة وادي الرافدين ، جعل الحكمة لا تكمن في عشقها ، بل ن يضاف لها ، ان الحكمة هي العشق ذاته . انه البناء ينبني بارادة المعجزة . فلا تتهدم اشكاله ، بل تتطهر . انها ، كما في الختم والمصغرات السومرية ، لا تكترث للاذى والزوال . فالفنان يتمسك بالمكان في امتداده ، مع انه ، يغدو مركزا ً في التأمل . هذه الواقعية ، تسمح للمجاز والاستعارة والاحالة ان لا تنغلق ، بل ان تمتد ، لكنها لا تغادر الا للحفاظ على سكنها المشّفر  والواقعي . وهذا الانشغال ، حتى عندما غاب الفنان عن بغداد ، اكثر من عقد من الزمن ، لم يغب المكان عنه  . انه واصل سكنه فيه ، اينما رحل . فالبعد ، لم يعد رباعيا ً ( الطول والعمق والعرض والزمن ) بل صار امتدادا ً ، وتعلقا ً لا يخضع للقطع  والانفصال . وبعيدا عن رمزية المدينة ، فالذي صار يتجدد ، هو انشغاله بما تركه المكان فيه : فيض الحواس وعبثها الجمالي ، لذائذ الرائي الذي مكث خارج الزمن ، واصداء همسات لا تكف عن الحضور .. كلها ، اعاد الرسام رسمها كوحدات داخل حلمه . فالعبدلي لم يجعل منها محض اشكال هندسية ووحدات للبناء ، بل ، كبناء يتكون توا ً . انه لا يفسر ، ولا يبحث عن اعذار ، بل يقاوم المحو . فالنص يكوّن ماضيه مصيرا ً ، لان الرسام يرسم ، يشتغل ، جاعلا ً التأمل الشعري والجمالي فعلاً للهوية ، فهو يقدس العمل الذي لا مناص يمنح الواقعية ، عنده ، حكمتها في زمن الرسم المعاصر في العراق . لأن الرسام  لا يزخرف ، ولا يجعل من استذكاراته انسحابات ، ولا يستعير فعل الدليل السياحي ، بل يجعل زمن النص منفتحا ً : مشغولا ً بالوحدة بينه وبين مكوناته . فالمدينة / الكرخ / يغداد ، تبزغ دامجة الحلم بالحالم ن وبهما معنا عبر علامات النص : فالعناصر تستقر ، مهما بدت بالغة القدم ، ومهما ظهرت عتيقة ومتفرقة ، هندسية وعضوية ، براقة ومعتمة ، جامدة ومتحركة ، قريبة ونائية ، مقدسة ودنيوية .. الخ لأنها لا تغادر مخياله في صياغة السكينة : انها انبثاقات حواس شيدها بناء ً للديمومة ، وليس للرحيل . 

 

·       الصورة / الفكرة [ مرور الذي سيبقى قادما ً ]

 

     هل تسبق الصورة ، عبر تفردها أو تراكمها ، الفكرة ؟ يتساءل باشلار ، منحازاً الى الوعي الحالم ، أو الروح ، في ظاهرية النص . ان العبدلي ، كوريث لتراث قرن من الرسم ، والرسم  الواقعي ، لا ينحاز ألا لجدلية الباث والمشاهد .. فالنص ذاكرة ، بيد أنها لا تتقاطع مع البناء العقلي . فالفنان يعمل على تحقيق توازنات بين أفكاره وأشكاله . ومع ان جدلية العلاقة بينهما لا تجادل اليوم ، ألا ان تشبث الرسام بإطياف المعنى ، وهي أطياف الرسم ، ستجعل من الظاهراتية لحظة أنبثاق للمحرك الكلي ، غير المرئي ، والمجسد عبر الصور والأشكال والتكنيك . ونظرياً فأن أثر الروحي في الفن قضية ليست جديدة , لكنها غدت بارزة في عصر هيمنات عصر مابعد الصناعة . ان العبدلي  في مسيرته غير القصيرة ( 1940 ) لا يدفع بالفن الى الحداثة وقد أختارت التحديق في العدم ، أو التدحرج نحو المجهول – حسب التماعة للفيلسوف نيتشه – بل جعل واقعيته ، ذاكرة للروحي الكامن في أعماق الواقع ، أو في التاريخ  ، فالواقعية التي أختارها ، تنشد الحفاظ على شفافية القلب الثري : الحلم . فالشعر لا يعلن عن أصواته ، داخل تجاربه ، بل يومض ، يبرق ، ويثب ككائن خارج الرصد والمراقبة . لان الموضوعات التي تعلن عن نفسها ، موضوعات المكان ، لا تتخلى عن تاريخها ، فهي تنبثق صريحة عبر الآف النصوص العربية التي لا تريد ان تقول شيئا ً : عبر الحداثة وقد أمتلكها هاجس مابعد التقنية ، والتجريد ، ظهور القطيعة مع قضايا القلب . ان هذا الأتجاه لا يلغي مهارات الذات وتألقها ونشدانها المستحيل ، أو الوقوف ضد إلعاب الأصابع ومحنة الوعي ، وعبر مأزق الحداثات الأكثر عزلة عن البشر أو الناس ، وإنما يحافظ العبدلي على الأشكال المعترف بما تمتلكه من خزين وتراكمات . فهو لا يمحو ، لا يزيل ، ولا يدحض الذاكرة لصالح عصر بلا مطلق وبلا فن وبلا بشر . وهو لا يتشبث بالواقعية جزافاً ، بل لأنه ، فيها ، لا يعمل من أجل زمن غائب ، أنه يدخل محنة الزمن ، لان الأخير ليس قضية خالصة ، وإنما لا يمكن فصل الزمن  عن الصراع وصلته بالبشر . هذه الواقعية ، لا تهمل الأسئلة ، ولكنها لا تتوقف عندها : فالمكان ذاته أجابة ، أجابة تتضمن إعادة النظر ، والشك بما هو سائد . وألا فإن الفوتوغراف ، في أطار المحاكاة ، يتمتع بإداء هذه الرسالة . ان واقعية العبدلي ، من ناحية ثانية ، تجرجرنا إليها : أنها لا تتخلى عن المركز ( المكان أو الإنسان أو الموضوع ) .. فهي تعرف أنها تعرف ماهو أبعد من المعرفة . ( أي التعرف ) لأنها لا تتخلى عن التتابع . فالتذكر يغدو فعالاً شعرياً ، فهو يخص الخيال . وجدلية  العبدلي ، الأرضية ، التاريخية ، تتمسك ضمناً ، وبعناد ، بالأطياف . فهو لا يرسم ماضي الماضي ، الذي هو بحكم العدم ، ولم يقذفنا وراء كل الأشكال ، بل نراه يناور بواقعيته بين ذاكرة عارية ، وجماليات تجاور الطيف : حمامات يحّومن بين الأرض والسماء ، حشود بشرية تصير فيها المركز روحاً رفرافاً في عمان أو بغداد أو القدس : أنه مكان تسكنه الذاكرة : الحوار مع الزمن ، وقد صارت الأشكال أكثر شاعرية وشفافية . أسواق ومدن وأزقة تحكي تحولاتها ، لكنها ، لا تكف ان تتوغل في عناصرها ، عناصر تاريخها ومادتها الجمالية . ان واقعية العبدلي ، في هذا السياق ، لا تسبق دهشته ، وانجذابه للمرئيات .. وفي هذا  السياق ، لا يرسم لأنه لا يريد الا  ان يرسم ، لأن الرسم ليس علامة أستهلاك ، أو لغة إخفاء . أنه يبث . فالنص ليس مدفناً ، أو باباً تنغلق . النص ، على العكس من ذلك ، ينفتح . أنه يرسم مرور الهواء ، النفس ويرصد الذي لا يرى ، والذي صار ملمساً ، ومكاناًً تسكنه الصبوات . ان المفارقة ذاتها تجمع أسرار الليل وقد ولج النهار كيان النص : هذا التصالح للأضداد يتوحد برسم يمنح الواقعية شرعية مائة آلف سنة ، منذ أقدم فعل للأصابع فوق الطين ، ذلك العشق المشوب بالأسئلة والكتمانات ، العبدلي ، في كل نص ، يحفر ، ويترك أصابعه تعلمنا الرقص ، بعد ان صارت جسداً ، وصوتاً . فهل ثمة واقعية تتمتع بالعذوبات ، والنشوة ، بإمكانها أن تغّيب مصير التعاقب ، ومرور الأزمنة ، لا تسمح للمخفيات ، ان تأخذ دورها ، في الظهور ، وتصوير مرور الذي سيبقى قادماً .

 

 

 

·                      جغرافية الخيال :

 

     في عمق التذكر ، تنشط المخيلة ، فالعبدلي ، في صياغته لأسلوبه ، يمكث في النص  .. أنه لمح أطياف المكان \ المدينة \ فراح يجاورها ويقيم معها . واقعية  متحررة من المحاكاة ، أمام تكرارات مستعارة لحداثات أماكن مغايرة ( في الرسم العربي عامة )  ، تفصح عن فضاء مختلف : أنها تفسر وضوح مساره الفني ، لكن هذا الوضوح ، ظاهراتيا ً  وشعرياً  ورمزياً ، يشتغل بباثاته . أنه لا يريد ان ينقل لنا السطوح والمساحات والأبعاد ، بل يسكنها ، فالأسلوب ، كما ذكر فلوبير هو الفنان . هو " انا مدام بوفاري " عند الروائي الفرنسي  . وهو : المخيال المكاني عند العبدلي : العربات  والأرض والأشجار والناس  ... الخ  حيث تستعيد  الواقعية ملامح تحديداث الرسم العربي في فاتحة القرن العشرين ، مضافاً إليها ، بفعل خبرة أكتشاف ابعاد  الإنسان وعلومه ، وما لا يمكن رصده . فالرسام يرسم كأنه يكتب مصائر أحلامه ، وكأنه لا يعرف السكينة والسكن ألا داخل النص . ان واقعية – هذا نسقها – تدلنا على الذي يخاطب مساحة بلا حدود . ومع أنها ، لا تشبه متاهات المهارات التقنية في الحداثات واقنعتها ، ألا أنها لا تتخلى عن خفايا العلاقات الأليفة  بيننا وبين الذي يذهب – ويوثق – يبرز أمامنا جمالياً . ان العبدلي يرسم موسيقى – شعر ، المكان : فالألوان عنده ، في مختلف مراحله ، تختزل فعل الحواس : البصر والشم والأصغاء و ... يضاف إليها ، مركزية الموضوع . فالرسام يختار موضوعاته بدقة ، ولا يترك لفرشاته ان تذهب ألا في تمثل الحساسيات النادرة ، المصادفات التكنيكية ، حيث فعلها الخيالي يتجانس مع الخبرة ، والمعرفة . هنا ، نستذكر جغرافية هذا الطريق . لأننا بتذكر الاسماء  نستدل على المسافة . فمنذ( فلاسكيز ) و ( كوربيه ) و ( مانيه ) و ( رابين ) .. الخ ، ومن سبقهم أو لحق بهم ، لا نجد الواقعية فائضة ، بل ستمثل نزعة مقاومة الانخلاع ، وصلابة الدفاع عن المكان الروحي . فاذا كان التجريد ، وشتى اساليب الحداثة وما بعدها ، بلا وطن  وبلا ذات ، فان اهمية الواقعية ، لا تكمن في الانغلاق ، بل في عالميتها اصلا ً . فخطابها وخصوصيته يؤكدان انها علامة  لا تكتسب دلالاتها الا بالمقارنة وتمثل التوازن الذي يفضي الى الوحدة والى تماسك النص الفني . والمكان – وانطلاقا من البيت – يتسع ، كحلم يقظة – على حد قول باشلار - : هو المدينة / الحي / الوطن / وهو العالم كله .. فالاجزاء تكوّن المجموع ، ولا تعمل عمل التفكيك  ، والمحو . انه يرسم رؤيته المتنوعة ، بابعادها المختلفة ، وبضمنها كائناته التي عاشت معه ، وتركت تاريخها يحاذي – ويندمج – بتاريخ المكان . ان النص الواقعي الساكن في عمق الزمن ، يتوغل داخل المكان الذي يصير علامة للاتساع ، والمؤانسة . انها واقعية السكن في القلب .. لأنها – هذه الواقعية – لا تصير اعلانا ً ، أو دليلاً للسفر . انها السفر ، لكنه داخل امبراطورية الخيال . فالنص الواقعي الذي لا يغادر المكان [ الخيمة عند فائق حسن / والجبل عند محمد عارف / والغرفة عند محمد علي شاكر ] قد صار مدينة وقد نزع عنها الفزع والتلوث . فالمدينة تحمل رائحة طفولة لا تريد ان تتصلب ، وتتعرض للاذى والتلف . لكنها طفولة البراءة بعيدا عن التصادم والقسوة ، لان الفنان، في تجارب استلهام الموضوعات الانسانية ، يوثق الانتماء بشفافية نادرة .

     ان تجربة العبدلي المكانية ، داخل بغداد وخارجها ، ترصد مدرجا للرفيف والاطياف ، وللانسان الذي  لمح ، في المجاز ، والجاذبيات ، واللامرئيات ، عبوره واقامته . فالنص صار لغة متوازنة ، بعيدا ً عن التطرف والتدحرج في عمق الهاوية ، بين البذور الكونية التي صنعت فاتحة الذاكرة ، والحياة ، وبين عصرنا الذي  لا يتعرض فيه المكان للالغاء ، بل الكائنات للتهميش والزوال . هكذا يتدفق اسلوبه باضاءات – باثات – لا تتمسك بجغرافية الحلم ، وامبراطوريته فحسب ، بل بالكائن الذي يموت مليارات المرات ، ولا يتمتع بالنعيم الا مرة واحدة تكمن في مقاومة الحذف . اننا امام تجربة يقاوم فيها الاسلوب كل اذى يعمل على زعزعة مخيال صنعته الصبوات ، والاصالات ، والحكمة .

 

   

·       التصوير الشخصي ( البورتريت )

 

     لا تمثل الواقعية ، حتى تلك التسجيلية ، توازنا ً بين الخيالي والوثائقي ، فهي ليست حلا ً وسطا ً أو اعترافا بالذاكرة الخارجية . انها ، منذ ملامح الوجوه الطينية الفخارية ، والنحتية الضاربة بالقدم ، مرورا ً بالعصور كلها ، برهنت انها تذهب نحو المركز : الداخل . انها الختم والبردية والاثر الذي ضمنا ً تتجمع فيه اصوات واشكال التعبير ، لتصبح ، في الوقت ذاته ، علامة مرور الرائي بالمرئيات  ،  وقد ترك الكثير الذي يحمل الغاز القوة وسحر التملك وتكنيك الحوار .

     ابراهيم العبدلي ، في التصوير الشخصي ، يوثق ملامح عصر كانت فيه التحديات والتحديثات والتصادمات قد تبادلت – وبدلت – احكامها . لقد صار الرسام يرسم مرور المحنة داخل اختياره لشخصيات ما زالت تعلن عن امتدادها في الحضور . فالشخصيات المنتقاة ، هي ذاكرة  معلنة ، ذاكرة واقعية  ورمزية معا ً . فالهاجس الذي شغل الفنان ، هو ذاته الذي انشغلت به تلك الشخصيات : انها كانت تحمل صراعها ، وديناميتها في قلب ديمومة الزمن ، لا تغادره ، بمعنى : انها تنبثق كأنها الوجه البكر الذي يسأل اسئلة آدم : ما الوجود .. ولماذا ضربت العزلة على الكائن حتى سكنت مناطق الاستحالة ؟ فالرسام يختار مشروع التجدد، والمغزى البعيد للمعنى عبر الجوهر التوليدي . فثمة بدائية غائرة تجعل المشهد اليفا ً ، بعيدا عن ان يتقاطع مع المعاصرة . فالرسم يتدخل ضمنا بايصال لغة – علامة – ما داخل النص . ان الوجوه تكتم الحياة المستعادة بالرسم .. انها تولد .. كلا .. انها تقاوم انحدارها وزوالها مع انها  لا تنوي الاقامة ابدا ً . فهناك ، كما في المكان ، تتجلى لغة الاطياف معنا . حيث المشاهد – في التأمل العميق – ينتقل من الخارج الى الداخل : انه يغدو مرئيا في الوجوه : المحنة ، الصمت ، والحكمة .. فاعادة صياغة المشاهد – كما يفعل القاريء في قراءة النصوص – يصير مشروعا – شرعيا – لواقعية يجدد عبرها خطاب الرسم ديناميته في تأمل علامات الوجود : الموجودات التي كونتها الافعال والاغترابات والعمل والمؤجلات . لقد صار الفضاء الداخلي علامات استعادة ، واسئلة ، صار مرئيا في الاحداق ، وفي الصمت ..في الشرود وفي الصلابة . فالفنان ينظر بزوايا وابعاد مختلفة مؤلفا ، عبر النص ، نبض الشخصية . فهو لا يرسم نفسه – كمافعل فان كوخ أو رامبرانت – كما انه لا يستنسخ الاخر ، بل يجعل الحياة قائمة على تدفقها وعلى توقفاتها . فالفوتغراف  لا يروي الذي صار ارثا لخامات الرسم أو تاريخا لمهارة الاصابع فوق الجدار – القماشة ، كما لم يعد تدفق المشاعر كافيا لا لتقاط مرور السر بين الاسرار أو عبر المشاهد الاعتيادية .. ان الرسم الذي اختاره ابراهيم العبدلي ، لا يحكي ، بل يدوّن روح الحاكي ونسق الحكاية . فالنص بنية لها شروطها ، ولها ، في المعنى ، ابعاد الرمز . فقد اختار الفنان مجموعة من الشخصيات البارزة في الثقافة والمجتمع ، وجعلها لا تكف عن كل الذي كانت تريد اعلانه : برقها الداخلي المكتوم ، وكل الذي كان مؤجلا ً وقد صار علامة تبتكر ديمومتها .

       

·                      الامل : ذاكرة المودّة

 

     ماالذي يفعله الفن ،ان  لم يفصح عن الاصوات الداخلية : الديمومة وامكانات استبدال الرداءات بمعالم أقل قسوة .  العبدلي ، في هذا المنحى ، يصّور مشاهد تغدو حفرا ً في ذاكرتنا : الاذى والقسوة والخراب . فقد تركت الحروب ، في اختياره لموضوعات  مثل ( الحضارة والانسان ) و ( امل العودة ) و ( صبرا وشاتلا ) و ( ارزاق المعركة ) و ( نطاق العريس ) .. الخ ظلا للحزن والامل . فهو يرسم ، كما كتب الفنان والقاص حمدي مخلف الحديثي  - في كتاب [ واقعية ابراهيم العبدلي ] مغزى البعد الواقعي في سياق روح العصر . فالامل / الطيف / وكل الذي ينتمي الى مادة الوجود ، يتقاطع مع الانغلاق : مع الافكار أو مع الاسلوب .

 

1-   فالرسام يحتفل – ويحتفي – بالانسان مركزا ً في  الوجود .. ومركزا ً في النص . انه الانسان الذي يصنع مصيره ..

والاسلوب ، يتمثل هذا المضمون ، بمهارة الرسام الواقعي .. فالعبدلي ، يرسم خبرته ببعد مضاف للابعاد المتداولة ، انه بعد الالفة  ، وصناعة الخطاب برهافة الانامل الدقيقة . هذا الانتماء ، فكرا ً وتقنية للواقعية ، يحرر النص من ضرورات الشرح . فالمكان الذي اكتسب جغرافيته ، وتساميه الجمالي ، وبعده الوثائقي ، هو بيت القلب : هو المأوى  المشيد بالذاكرة والعمل . فالنص لا يصير اعلانا عن قرب نهاية الوجود ونهايات الفن وموت الانسان أو قتله وسحقه – بل املا يكمن في انفتاح المشهد ، فالمكان المشيدى بنبضات القلوب هو المكان – النص الذي  يروي شاعريته . انه السر الذي يبقى دافعا لفتح الاقفال ولا ينغلق . فالرسام تحركه الجماليات ، جاعلا من الموضوعات اشارات للتذكر ، والتوثيق ، في مغزاها الذي يحمل اثار التعبير ، وصوت الصمت الذي يبقى يشتغل ببناء ذاكرة الحلم : ذاكرة اللاعنف أو المودات .

  [ وانا اكتب ، اتصل الفنان سلام عمر – 10/ 12 / 2003 / ] فقلت له : ان النص الذي يحمل ديمومته ، النص الذي يرسم مرور الذي يأتي ، هو الذي تكونه جدليته الكونية  : الاسباب والمعالجات .. ونصوص العبدلي – كبنية مترابطة وتوليدية – تتحدث عن الجدل الذي تتمثل فيه التصادمات ، ولكن ، التي تبقى تلفت نظرنا الى المكان المشّيد بنبضات القلوب : الارض أو الوطن . وهذا ما نراه عندما ستتعرض جماليات والغاز اعشاش الطيور ، المبنية بدافع الالفة  وسحر نظام دقات القلوب ،حيث بعض الطيور تبني اعشاشها على هيئة اشكالها الداخلية  ( كما ذكر باشلار في كتابه : جماليات المكان ) . حيث لا يمكن استبعاد اي عش من الاعشاش المشيدة بروح انظمة الوجود  والموجودات  .. فالمكان / المأوى / الوطن / يصير النبض متكاملا كسيمفونية تتآلف وتتألف فيها عناصر البناء ، واهدافه الابعد : هذا الذي نبقى نترقب  شفافيته التي توقف عندها ( تودوروف ) كثيرا ، حيث الحوار دال يشتغل على قهر النزعات المتوحشة  والاحادية .. وهو الذي يظهر ، في تجارب العبدلي ، كصوت فيروزي يقف صلبا ضد قهر وايذاء الروح . إننا أمام لحن مرسوم بصلابة الواقعي امام الايذاء والدمار .

     وهذا الاتجاه ، في واقعيته الشعرية – النقدية ضمنا او مباشرة – يحمل تطوره الداخلي ، ولا يتكرر . لان ( العش ) ذاته ، ليس النص ، في مجال المقارنة . بيد انه لا يمكن التخلي عنهما    امام القوى الخارجية .. ألا يحمل  الفن ، في مغزاه الواقعي الفريد ، هذا المعنى عبر الزمن : التحدي . فهل ستتخلى الطيور – احلامنا البكر وحتى نهاية العمر – عن اعشاشها من اجل عش لا تجد فيه الاحلام مكانا لاعيادها فيه ؟ ان سر ديمومة الواقعية ، بدءا ً بالتشخيص ، مرورا بدوافع بناء التجربة وتفردها ، وليس انتهاء ً بما تمتلكه من خصائص شفافة ، تشكل محتوى  لا يمكن الاجهاز عليه ، الا عندما تكون النهاية غير قابلة للتأجيل .

 

·                      عمان : الذاكرة في مدى الشعر

 

     بعد أن غادر إبراهيم العبدلي مدينة طفولته وصباه ، كتم مفهوم زوال الزمن الذي عاشه ، والذكريات التي سكنته وسكنها . ان الماضي لديه ، في الفن ، مكث يشغله ويعيد تصفحه كتدفق خارج الحركة والغياب . فكانت عمان – ومدن الاردن الاخرى – ترتب خياله وتعيد اليه سلامه المفقود . فصارت المشاهد ، على مدى عقد كامل ، تأخذ مكانها المشحون بالشعر  والالفة  . هو ذا يرسم المسجد الحسيني ، وشارع الحمام – في السلط – ويرسم المدن ، والقصبات ، ومنها مدينة السلط ، وعمان ، والمسرح الجنوبي .. الخ ، كعلامات لا تخص المكان ، والتاريخ الا لأنها تحقق فكرة التدفق : الانبثاق . وتشتغل كمراكز للالفة والاقامة . ان المكان الغائب ، في معظم تجارب الرسامين العرب ، تجارب التحديث والتجريب  وغوايات استنساخ انظمة الحداثة ونصوصها التجريدية المبعثرة او الهندسية والتولع بالثقوب والحرق والشقوق .. الخ لم تجد صدى عند العبدلي .. فقد مكث في قلب المكان – الذي يمتلك سحره ، وجاذبيته ، وتاريخه . وعلى العكس من التحولات الحادة ، بحسب تيارات العولمة ، حدد اتصاله بالجغرافية والبشر ومغزاهما في الحفاظ على الهوية . انه أعطى مفهوما كلاسيكيا للاسلوب ، ولكنه لم يصر عقبة امام الابتكار. فالفنان غير منجذب للموضوعات والتقلبات وطرق المتاهة .. انه ، على العكس من هذا الشرود والدوران ،  راح يستلم باثات المدينة ، وهي تغدو موضوعا للسكن والمصير .. فهو لم يجعل منها زمنا للعبور ، بل للتنقيب والتدوين . فصار الواقع جوهرا ً ، جوهرا ً للازمنة في تيارها المتدفق  ، لأن المكان ذاته لا يستعاد كماض ٍ ، بل كزمن للامتداد . فالمأساة تغيب ، تتوازن مع صلابة الفنان ( البّناء ) بما ورثه عن اسلافه البغداديين ، حيث ذاكرته – كما يظهر ذلك بتولعه بالمقام العراقي – لا ترثي ماضيها ، بل تصنعه ، في اطار الولادة والانبثاق .

     عمان ، الذاكرة المحصنة بالرمال والصخور والبراءة العنيدة ، تقاوم اغراءات التفكيك ، وتأخذ في بنائها التجدد ، علامات عصر آخر ، حيث صارت ، في رسومات العبدلي مزيجا من الجمال السحري ، والتراثي ، والشعري . فالماضي ليس محض ازمنة دفنتها الرمال ، وغاب في البوادي ، بل تقف – عمان – ناطقة بإرادة تقاوم تحديات الزوال . ان نصوصه ليست مكانية فحسب ، بل تغدو ، بواقعيتها ، فضاءات للتأمل . فكما تولع بازقة الكرخ ومشاهد ضفاف دجلة ، فان صلابة مدن الاردن ، وتشكلها الهندسي ، صار شعرا : جماليات ليست للترف.  ونصوص عمان ، في تجاربه الاسلوبية الواقعية الحديثة ، لا تصير أدلة سياحية . انها مصنوعة كاجزاء في مكان امتلك تاريخه التليد : ذاكرة المعابد والحضارات المتعاقبة .  لكن حاضر النص ، كما في تجارب استلهام المدن الاخرى ، كالقدس  ومكة وبغداد ، تأتي كبنية تتكامل فيها العناصر : التوق والانبثاق والالفة . فالرسام ، عبر واقعية لا تتكرر فيها الاشكال ، بل تتجذر ملامحها ، تصير مسرحا ً لرؤية تبتكر  اضافاتها ، حيث الرسم ، على صعيد الاسلوب ، يتوحد بجماليات الرؤية ، وبالفن الذي  تتكامل عبره التجربة وعناصرها التقنية .

 

   

·                      تقنيات / سعادات احلام الرسام

 

     ما الذي يجعل الرسم الواقعي ، في زمان تصادم الاساليب ، لا يلفت النظر ؟ هل لأن الواقعية ، بعمقها وتقاليدها لا تنتظر ذلك ، ام لأنها غدت عتيقة ، كمدرسة عفى عليها الزمن .. أم ، في نهاية المطاف ، لا تمتلك نبض العصر ؟ عمليا ً ، اذا لم نعد نفكر بصفة الفن ( علامة ) أو رمزا ً نخبويا ً .. فان الواقعية لم تمت . والرسم الواقعي ، في هذا الاتجاه ، شديد الصلة بكائنات ما زالت تتمتع بحواس سليمه ، والعبدلي ، في تنويعاته التكنيكية ، لا يكرر موضوعاته . انه اغناها باستكمال الواقع : ولم يرسم ، الا عبر احلام اليقظة  وشفافيات الحواس . فحرية التعبير مكثت تتحدث عن مهارته كملون ، فضلا عن تكويناته الهندسية ، وموضوعاته الاجتماعية .. فالتكنيك يأخذ مداه بالاستفادة من تاريخ الرسم العام ، عبر وقار المنجز لا عبر تدميره . فالتعبيرية تتجانس مع سعادته في تصوير صفحات ومشاهد الثراء الروحي للاشكال البصرية : تفاحات أو ورود أو أزقة أو نسوة أو زوارق عند ضفاف دجلة أو الجامع الحسيني في عمان ، أو القدس أو مشاهد اخرى في السعودية واسبانيا .. الخ ، الى جانب تجاور الرسام الانطباعي الحديث : خفايا الظل وثراء النور..فالأسلوب لا ينغلق ، في حدود احادية المعالجة ، بل يشتبك ولاء ً للعالم في موضوعيته ، وتشكيلاته المتنوعة . بيد أن ذات الرسام ، في الرصد ، تبلغ حد انها تتفتح مع هذه التتابعات . انها تصنع تفتحها . فالعبدلي ، لا يبرر اسلوبه أو منهجه  الا عبر الذي يصلنا رسما ً . فالرسام يترك الرسم يفكر ، ولكنه ، يفكر رسما  حد سماع مرور فرشاته فوق سطح اللوحة : انها شاعرية الرسم التي تصنع خطابا متوازنا مع انضباطات الحواس  ، وتجلياتها في هذه الحدود . ان هذا التكنيك الذي تعرض للتصدع ، منذ ستينات القرن الماضي ، أو في فاتحة الالفية الثالثة   ، لم يفقد ما يمتلكه من شرعية .. فهو لا يسهم بخراب جغرافية الارض .. أو جذور التاريخ ، امام تيارات شغلتها التفكيكات . فالواقعية عنده ، تاريخيا ً ، تعلن عن ثراء لا ينفصل بناء الذاكرة الشعرية للارض والانسان .. وإسهام تكنيكه في الرسم الواقعي ، على صعيد التصوير الشخصي ، أو المدن ، أو الموضوعات الوطنية والقومية  ، سيرتبط عميقا بتجارب عربية جديرة ان تتوقف عندها الدراسات النقدية ، منذ تجارب راغب عياد واحمد صبري ومصطفى فروخ ومحمود سعيد واسماعيل شموط ونجيب يونس ومحمد عارف  ، وغيرهم من الاجيال التالية .. لان ابراهيم العبدلي ، لا يشيد تقنياته في الرسم الواقعي الا تطويرا للاسس التي ولدت بفعل تفاعلات – حوارات – خبرة قرون من الوعي الواقعي ( عالميا – عربيا ً ) بمصائر الاساليب .. فتجاربه لم تكتف بالواقعية الغنائية ، بالرغم  من عناه الموسيقي وحساسيتها الادائية شعرا – وغناء ً [ لأن العبدلي بشهادة الاستاذ سلمان شكر داود يتمتع باداء ينتمي الى اصالة الغناء المقامي الذي ظهر في صدر الخلافة العباسية داعيا الى دراسة فنه الغنائي على نحو مستقل ] وانما جعل من الواقعية مشروعا لا لترميم الاجزاء أو اعادة صياغتها بل لمنحها مكانة حلم اليقظة المدّون بما يمتلكه السطح منى ابعاد . فالسطوح  لا  تختزل الواقع ولا ترمز له ولا تكون بديلا عنه .. انها ، بعلاقتها معه ، تمتلك مفهوم : التقنية تفكر ، لكن ، تفكر في كونها تصلنا شعرا ً . انها تحرر الرسم ، بما يمتلكه من حدس أو مجهولات  لا تغدو الا واقعا يصلنا عبر جمالياته ، ورهافاته  المرئية .. فالذي مازلنا نكرره حول (( الشيء في ذاته )) و (( ميتافيزيقيا الوجود )) و (( الظاهراتية )) – فلسفيا – لا يمكن عزله عن الواقعية – كجوهر  باث  - أو – كمطلق وجد وجوده عبر الصورة – حيث الجدل ، لا يتقاطع مع مادة الرسم ، أقول ، ان الذي يقع وراء السطح ، لا يمكن عزله عن نظام التعبير ، وعن السطح ذاته . هذا التكنيك – في الواقعية – عند ابراهيم العبدلي ، يلخص خبرة وجدت بعدها البنائي ، الحسي ، في جعل الفن ، كما تعلمنا الحضارات ، يدوّن كل الذي  لا يريد ان يذهب : اننا امام خطاب يحفر في ذاكرتنا كل الذي لا يمكن حذفه