خالد القصاب بين الفنانين

المقاله تحت باب  محور النقد
في 
18/02/2008 06:00 AM
GMT




 


يعرف أكثر أهل بغداد الدكتور خالد القصاب كجراح مختص بأمراض السرطان. ويعرفه القليل منهم كرسام وفنان. هكذا عرفته طيلة حياتي. ولكنني لم اكتشف حتى الاسبوع الماضي، أن خالد القصاب، رحمه الله، كان ايضا اديبا بليغا. وقد جمع مهنة الطبابة والفن والادب في تصوير وتحليل شخصياته من رواد الفن العراقي. هاكم نموذجا مما كتبه عن صديقه الفنان والدكتور نوري مصطفى بهجت:

«كان لنوري شعر اسود، كث حالك السواد. يغطي رأسه كالكرة الملساء. وكان له شاربان ثخينان لا تجاريهما شوارب اخرى. وكانت عيناه الكبيرتان تبحلقان عندما يسرح بأفكاره بعيدا (يضرب دالغة)، فيبدو كما لو كان غائبا عن الوجود. إنك تعرف ذلك حين تراه ينتف شعر شواربه بيده اليمنى، فيدرك الناظر اليه انه في مأزق صعب. ذات مرة، وفي يوم امتحان عصيب، رمى نوري بقلمه على دفتر الامتحان، وراح ينتف شاربيه بيديه كلتيهما».

تبينت وتجسمت هذه المقدرة الوصفية في هذا الكتاب الجميل الصادر من دار الحكمة في لندن بعنوان «خالد القصاب ـ ذكريات فنية». قامت بتحرير هذا العمل المشكور مي مظفر، مع مقدمة ظريفة من زميلنا نجدة فتحي صفوة. وصفت هذا الكتاب بعمل مشكور لأنه يستعرض المرحلة الذهبية من تاريخ الفن العراقي المعاصر على لسان رجل صاحب تطورها، وعاشر ابطالها عن كثب وعلى مدى حياتهم الفنية والشخصية. كان قد صاحب فايق حسن الأب الشرعي للفن العراقي الحديث، اكثر من اي رجل آخر فكرس الكثير من مذكراته لحياة هذا العملاق ومسيرته الفنية. مضى ليعطينا هذا الوصف الدقيق له: «كان فايق رشيق الحركة، قوي العضلات، له سحنة سمراء غامضة، وفي خطوط وجهه خشونة الرجال. له عينان غائرتان في محجريهما. يعلوهما حاجبان كثان مبعثران. وكان له صوت غليظ اجش يقارب سفلى الطبقات الصوتية في موضع ما يسمى بالباص. وقد لا تتمكن من فهم كلامه اذا ما بالغ بالنزول بصوته الى ادنى درجاته. كان يتمتع بصحة جيدة بصورة عامة، باستثناء ما كان يعانيه من داء التراخوما المزمن، الذي عرضه لآلام مبرحة عند معالجتهما بالكي بكبريت النحاس».

يتعرض الدكتور القصاب في مذكراته الى معظم الاحداث والتطورات التي صاحبت مسيرة الفن العراقي المعاصر، كتأسيس جمعية الرواد ثم الأس بي وجماعة بغداد وجمعية الفنانين العراقيين. ويكشف الكثير عن خبايا حياة الفنانين من زملائه كتلصصهم على الراقصة الاوربية في الفندق المقابل عندما كانت تنزع ثيابها وتسير عارية في غرفتها. وفي احتفالات رأس السنة الميلادية، كانوا يقيمون حفلة كرنفال تنكرية في بيت فايق، اثار ضجيجها سكان المحلة فدفع الحارس الليلي (الجرخجي)الى طرق الباب والتحقق من الموضوع، فخرج اليه الاستاذ فايق بلباس قرصان على عينه قطعة جلد أسود وبيمينه مدية طويلة. ما ان رآه الحارس حتى تمتم قائلا «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم». في مناسبة اخرى هجم خالد الرحال على فايق حسن وراح يضربه كالمجنون، لأن فايق رسم فتاة احبها خالد الرحال وتصور أن استاذنا الكبير قد سطا عليها!

وخلال هذا السرد التاريخي، يورد الدكتور القصاب الكثير من التفاصيل الدقيقة عن اسلوب كل فنان والوانه ونزعته ومساهماته ويربط كل ذلك بما كان يجري في الساحة الاوربية، وما كان يقوم به الفنانون الاوربيون.

بيد ان الكاتب لا يتوقف هنا في إطار الجيل الحديث، بل يذكرنا ايضا بالرواد الاوائل الذين تعلموا الرسم في العهد العثماني كفتحي صفوة والحاج سليم وناصر عوني وسواهم. يجد القارئ الكثير من تفاصيل ذلك في هوامش الكتاب الغنية بالمعلومات الدقيقة. يضم الكتاب ايضا عدة صفحات من اعمال المؤلف بالألوان. الغريب فيها انها جميعا تصور جوانب من الريف العراقي والمناظر الطبيعية، ولا سيما مشاهد من بساتين الجادرية. كنت اتوقع من طبيب جراح ان يمعن في تصوير الانسان، ولكن ربما عانى هذا الطبيب الجراح ما فيه الكفاية من مناظر اورام السرطان ومشاهد الموت فهرب الى عشق الاشجار والاعشاب والانهار. ومن يلومه؟ هذا كتاب لا يستطيع أن يستغني عنه أي شخص مهتم بالفن العراقي الحديث، ومسيرة رواده وحياتهم وانتاجهم.