رفعة الجادرجي .. حس الفنان وتأمل المفكر

المقاله تحت باب  محور النقد
في 
01/03/2008 06:00 AM
GMT



كتابه الفائز بجائزة الشيخ زايد :
 

رفعة الجادرجي .. حس الفنان .. وتأمل المفكر

 

في ديباجة اللجنه المشرفة على الجائزة  اعتراف بمنجزه .. وتلخيص لجهد فكري ومعماري وفني استمر عدة عقود من الدراسة والتحليل وتامل المشاريع المعمارية المنجزة .. وفي اختيار اللجنه لكتابه ( جدلية وسببية العمارة ) للفوز بواحدة من اكبر الجوائز الثقافية العربية - جائزة الشيخ زايد 2008 .. تتويج لتجربة رفعة الجادرجي المعمارية وتكريس لمنجزه المهم في الأسهام في اقامة عمارة عراقية حديثة .. وتقديم فروض فكرية تجتاز كتلتها القائمة ..

المغامر .. والتنويري ..

لابد من قراءة مزدوجة لكتاب رفعة الجادرجي ، قراءة فاحصة لمنجزه القائم من المشاريع والدور ،والتصميمات الخاصة  بالأثاث والأقمشة والمطبوعات والمشاريع الصغيرة الأخرى   وقراءة معمقه لكتابه في جدلية وسببية العمارة .. اذ  انبنت جميع المقالات التي يتكون منها الكتاب على مفهوم لبنيوية العمارة،كما يشير في كتابه  و هو مفهوم وضع مبادئه الأولية منذ  عام 1950 يوم انشغل الجادرجي بالتأسيس والمغامرة في انجاز عمارة مغايرة ، و أقدم منذ ذلك الوقت على توسيع و تطوير هذا المفهوم في مجالاته النظرية و التطبيقية، أي في مجال ممارستة العمارة. و بمرور الزمن، أصبحت لديه مفهومات مختلفة  لهيكلية البنيوية و حركتها  الجدلية، كما يصفها هو حيث يجد ان لكل ظاهرة، سواء أكانت جامدة أم حياتية متحركة ،  فكرية أم مادية،  مقومات حاضرة  في الوجود، وإلا لما وجدت. و كل ظاهرة، لا بد من أن تكون في حالة حركة و تغّير مستمر، سواء كان التغير ملموسا أم مدغما ، و لذا فهناك علاقات من تفاعل و تفعيل بين مقوماتها. و لأن هناك تفاعل، فلا بد من أن تستقطب هذه المقومات من خلال مقررات متضادة و متفاعلة في سيرورات من تفعيل جدلي- يستعمل الجادرجي مقررات بصيغة منجزات او مقومات . و فيما اعتمد مفهوم الجدلية بعامة ( مستقطبين ) لتحرك سيرورات تفاعلها، فقد اعتمدت ثلاثة مستقطبات .. اجتماعية ورمزية وجمالية ..

ورفعت الجادرجي – 1926 معماري يحمل صفة التنوير في تجربته الطويلة حيث كان همه الأول  في مطلع انشغاله مع  مجايليه الخروج بالعمارة  العراقية الى مفهومات تصميمية وتنفيذية تقترب من البيئة المحلية  وتتوازى مع متطلبات التغيير الذي اجرته حركات حديثة عالمية في مفهوم العمارة وبيئاتها الدولية ..

.. ان عمارة رفعة الجادرجي هي استهلال مبكر للعمارة الحديثة في العراق حيث حملت مقترحاته منعطفات فكرية كثيرة غيرت في القائم من المفاهيم و اثرت خبرات العديد من المتخصصين من حوله في مكتبه الأستشاري 1950 – 1977  كما انعكست على مشروعات عديدة صممتها ونفذها مجموعته ؛ اذ حررت معطياته المعمارية  مشهد العمارة العراقية الى حد ما ، وخلقت جدلا قائما حتى اليوم ،  من افكار وكوابيس تقليدية غير مهمة  بغية كشف مميزات عمارتنا المحلية .. اذ ان  خصوصية الفترة التي اجترح الجادرجي حضوره فيها هي من اهم الفترات التأسيسية للعمارة العراقية الحديثة اذ اجتمع في اوائل الخمسينات ومابعدها العديد من المعماريين المتخصصين ممن درسوا في جامعات عالمية واستلهموا من الباوهاوس وروادها .. ومن منجزهم الفكري والمعماري حصيلة مهمة لتكريس ملامح تلك المرحلة . لقد كان على الجادرجي وهو يشتغل في ذات الفترة التي ينهمك  فيها اساتذة العمارة الحديثة في العراق على اطلاق كل ماهو تنويري وممكن في نفس الوقت اذ استطاع مع رواد العمارة العراقية الحديثة نقل الفكر المعماري العالمي المجدد يوم ذاك وتكييفه بغية الخروج بملامح معمارية عراقية تعطي مدرسة بغداد في العمارة ملمحا متواصلا مع العمارة العالمية..
لقد تحدثت لجنة الجائزة عن مفكر ومتأمل وحالم وهو كذلك  في مجمل مباحث الكتاب حيث يرى كيف  تتجمع في مجال ظاهرة العمارة و المصنعات بعامة مقومات تستقطب عناصرها ، فتؤلف ثلاثة مقررات: الحاجة الاجتماعية التي تتضمن الحاجة النفعية، والحاجة الرمزية، و الحاجة الاستطيقية . كل من هذه الحاجات متأصلة في وجود الإنسان ومعيشته ، كما إنها متأصلة في سيكولوجيته القائمة. و في المقابل، هناك مقررات التكنولوجية الاجتماعية التي تتضمن المادة الخام، و الطاقة المسخرة في تحريك الدورة الإنتاجية. اذ ان الأنسان لديه هو محرك سيرورة الجدلية في العمارة وهو المستقطب الثالث وفق الجادرجي ، اذ ينظر الى  الفرد كإرادة متضمنة المعرفة و الأوهام و المزاج و القدرات الابتكارية. و تحقق هذه المستقطبات تحريك الدورة الإنتاجية التي تحقق إرضاء الحاجة عند التنفيذ والأنجاز.

وربما يظهر في اسلوبية المعمار النظرية الكثير من التلغيز او الصعوبة ذلك ان الجادرجي هو مزيج ثقافات .. توصل الى ذلك المغامر والمجدد والمفكر الذي يرى الى العمارة بمنطلقي التاسيس .. والتنظير معا ..حيث تتضمن نظرته  تجديدات بدلالة محلية، فيتحقق تنوع و إغناء للعمارة الحديثة عن طريق إغناء سماتها المحلية .
وهو يرى ان المعمار الحديث  من خلال  الفصل التجريدي و الوصل التكويني المتداخل معه في عمارة محلية محتملة ، يكون قد استحدث رؤية لوظيفة جديدة للعمارة من خلال إرضاء متطلبات حاجات وجدانية لدى المجتمع، وذلك يتخطى لديه إرضاء متطلبات محددة في جغرافية محددة او خصوصية مكانية مغلقة مثلا ، انه يرى ان تكريس نهج الحداثة على صعيد عالمي يتفاعل  مع الخصوصيات المحلية. و بهذا يتحقق إغناء التجربة المحلية بمعطيات افردتهاحركة الحداثة في العمارة العالمية، وبهذه الطريقة تتحقق لديه محلية متوازية في خصوصيتها مع كل ملمح دولي آخر ..
ان رفعت الجادرجي مجرب مغامر لذلك تراه احيانا رغم تجربته الطويلة غير متاكد من النتائج النهائية لتصميمات مقترحة او منجزة .. لأنه ينظر الى ذلك بلذائذ التجريب وحلم المتغير الذي سيتحقق على الأرض يقول :  إنها اي الجدلية  حركة تتضمن مجازفة تصميمية، لأنها لا تتمتع بمرجعية قائمة، أو تستند الى  تجربة سابقة تقوم عليها مخيلة المعمار، فيسخرها في سيرورات التجريد و التحديث و الابتكار، و إنجاب الشكل الجديد. إنها مجازفة الابتكار الاستطيقي الجمالي ، لذا لا يمكن تنبؤ جدواها، إلا بعد أن يتولد الشكل و يظهر خارج المخيلة، بصيغته ككيان لمادية العمارة.وترى اللجنة ايضا ان الجادرجي
 قد جمع في كتابه  بين حس الفنان وتأمل المفكر، وقدّم فيه منظوراً جديداً لمحددات فن العمارة بين الحاجات النفعية والرمزية والجمالية على المستويات الجماعية والفردية، مما يؤدي إلى تغليب الجانب الوظيفي تارة أو تطعيم العمارة بالعناصر التراثية تارة أخرى، ليخلص إلى بلورة رؤية جدلية للمعاصرة مشبعة بالقيم الجمالية ومنخرطة في الكونية في آن واحد.

الخروج من العمارة الى الفلسفة :

لقد انجر رفعة الجادرجي العديد من المشاريع المهمة .. كما ان قراءة في سيرته تحكي الكثير لتؤشر خروج المعمار الى افضية الكتابة والتأصيل والتنظير ايضا اننا في محاضرات الجادرجي وكتبه ازاء نظرات فلسفية متوازية بعد ان انجز الكثير عبر سيرة مليئة  ، فهو مؤسس ومدير مكتب الاستشاري العراقي 1952  ،1978 مصمم ومدير عدة مشاريع معمارية، صناعية ، أثاث، تصميم حدائق، تزيين داخلي، عمل كمدير للدائرة  الهندسية في  الأوقاف العامة  ،1954 ومدير عام قسم الإسكان في وزارة التخطيط  ،1958 واستشاري أمانه العاصمة  بغداد ،1980 وأستاذ زائر، مدرسة الثقافة والفلسفة، جامعة هارفارد 1984  ،1986 وعضو مركز أبحاث فلسفة الثقافة، جامعة هارفارد 1985  1992.

منح جائزة  آغا خان للمعماريين  1987، وله أعمال مسح فوتوغرافي للحياة الاجتماعية في العراق، ومسح فوتوغرافي لأعمال الحرفيين والمعماريين العراقيين والأجانب في العراق، ومسح فوتوغرافي للعمارة والحياة الاجتماعية في كثير من بلدن الشرق الأوسط والخليج.

كما اصدر العديد من الكتب منها “صورة أب” ،1985 “شارع طه و هامرسمث” 1985.

“حوار في بنيوية الفن والعمارة” ،1995 “المسؤولية الاجتماعية لدور المعمار، أو المعمار المسؤول” 1999.ولذلك وهو يتجاوز سنواته الثمانين ينهمك في هم فلسفي ووجداني اذ يدرس عناصر روحية وفلسفية وجدانية وعامة في كتابه ليوثق افكار المعمار وتداعياته وهو يصطدم بالمعتقد الديني للمجتمع مرة  او بالتحرز الأجتماعي او بضيق افق الفكرة التي تسود المجتمع  لقرون مرة اخرى انه يرى ان العمارة هي محتوى الذات وافق المجتمع ومنجزاته الحضارية

ويرى ان  العمارة تشكل مقوماً متأصلا في سلوكيات الفرد ازاء البيئة الاجتماعية، وهي تتمثل بالدار و المعبد و المخزن و غيرها من بنى' أخرى، أي إن العمارة أساس في تفعيل القدرات الحسية البصرية و الوجدانية للفرد في عيشته اليومية ، إضافة إلى وظيفتها كأداة ترضي الحاجة النفعية. إنها أداة فعالة في الحوار العاطفي و الوئامي في تكوين العاطفة الجمعية للمجتمع، و في صياغة همومه عامة. و بقدر ما يُسخِّر فكر المجتمع العمارة بحسب الكاتب  في إفعال حوار جمعي و صحي و شفاف بين مختلف أفراد الجماعة، بقدر ما تكون أداة فعالة في تحقيق تماسك اجتماعي متين . لذا هي أداة ترضي حاجة متأصلة في تكوين كيان الإنسان الجسدي و الفكري، والأفراد والجماعات . و لذا يرى فإن التنظير الموضوعي ليس ترفا في ظاهرة  العمارة والفنون وانما ضرورة لبناء مجتمع يتمتع بالفنون ومنجزات الحضارة  ويواكب تطوراتها وتنوعاتها ويؤمن لنفسه تماسكا اجتماعيا .. واثر ذلك يرى

الجادرجي ان الجدلية والسببية .. تتضمن داينمية الاتصال السيميائي ضمن بنيوية العمارة كما تتضمن حركات مختلفة على نحو متواتر ومتواز اذ هي حركات تبدو انها  
ـ من فكر إلى فكر ـ من رؤيوي إلى مصنِّع.
ـ و من فكر إلى مادة جامدة ـ من المصنِّع إلى المادة الخام و تبعاً لذلك المصنَّع.
ـ و من مادة جامدة إلى فكر ـ المصنَّع إلى المتلقي.
ـ و من فكر إلى فكر ـ المتلقي إلى الرؤيوي.
و كل هذه الحركة السيميائية  في توافق مع المراحل المختلفة للأنتاج المعماري مادة وبناء .. ان ثمة صعوبة وتلغيزا ترافق قراءة الكتاب لكنها صعوبة لاتخفي علاقة المعمار باللغة وبنائها .. وبالمفهومات وعمارتها ..وهو الذي تشكل قراءاته الأجنبية اساس المعرفة الى جانب قراءاته بالعربية ..
ان المعمار هنا وهوينتقل  الى تجربة فلسفية وتاصيلية فريدة انما يتحرر من فورم الشكلية الخالصة لنموذج المعمار الميداني منتقلا الى روحية المعمار الباحث المتأمل الذي يضفي على منجزه العملي منجزا فلسفيا وفكريا مهما . ان فوز  الجادرجي بهذه الجائز هو تأكيد ان منهجه الدراسي يتناغم مع منهجه العملي وقد نفذ العديد من المشاريع التي ترسم ملامح مدرسة عراقية وبغدادية خاصة تدرسها بأستمرار ..اجيال من المعماريين الجدد ..