المقاله تحت باب مقالات فنيه في
04/03/2008 06:00 AM GMT
قد نختلف فيما بيننا في كل شيء وربما نتقاطع أو قد نصطدم أحيانا ... الاّ حقيقة واحدة تجمعنا
ونتفق عليها وهي أن العراق بلد نهرين عظيمين ( دجلة والفرات ), وبلد ملحمتين عظيمتين , واحدة في عصر الحضارات الأولى ( ملحمة كلكامش ) التي نقلها لنا عن المسمارية العراقي الكبير ( طه باقر ) , والأخرى قبيل نهاية الألفية الثانية بأربعين عام هي ملحمة نصب الحرية للعراقي الخالد ( جواد سليم ) , التي حملت الأخبار لنا مؤخرا أن تصدّعا يحدث الأن في أساساته الأسمنتية يهدّد بأنهياره كليّا اذا لم يباشر في ترميمه وأصلاحه وتقوية دعائمه منذ الان . والحديث عن نصب الحرية هذا ذو شجون ..... فهو لافتة العمر العراقي على سعته .. وهو بانوراما الصراع الدامي الذي خاضه ولا زال شعب العراق من أجل حريته .. وهو السبورة البيضاء التي علمتنا أبجدية الأبداع الخلاّق الذي يميّز العقل العراقي عن سواه .. وهو المانشيت العريض الذي يقرأ فيه جميع العمال والشغيلة الذين يتجمعون فجر كل يوم وسط العاصمة تأريخ جوعهم وصراعهم الأبدي من أجل البقاء ... وهو التقويم النضالي الذي يجمع تآخي العائلة العراقية على أختلاف مشاربها وتآزر أبنائها (فلاح / عامل / شهيد / جندي / أمرأة / متعلم ) ويؤكد سعيها الكفاحي للوصول الى حافة النور.. وهو الكتاب ( السوبر ) المفتوح الذي يشرق كالشمس ويلوح للعابرين على جسر الجمهورية صوب الرصافة ليروي لهم قصة رجل عراقي أذاب نفسه قرب مصاهر روما لينجز عملا خلاّقا تمثل في أعظم نصب للحرية في النصف الثاني من الكرة الأرضية , حيث أصرّ على أن يكون أنجازه بأيد عراقية خالصة , والذي لم يسعفه قلبه المتعب كي يبقى ليشاهده منتصبا ومعلقا في قلب العاصمة , فسقط عند أول قطعة علقت وهي التي ترمز الى الحرية بعد أن سجّل أسمه في سجل الخالين , رجل لم يتجاوز عمره الواحد والأربعين عام يدعى ( جواد سليم ) ... لنصب الحرية هذا بعض الحكايا التي علقت بذاكرتي التي أبت أن تنساها رغم تقادم السنين وعطب خلايا الذاكرة , والتي تكشف عن حقيقة ضحالة قوى الردّة واليمين والظلام المريرة وعماها الثقافي وجهلها المتجّذر حد النخاع وأنعدام الرؤيا الذي يطبع خيالاتهم الملوثة ...
الحكاية الأولى : تعرّض النصب الى رشقات من الرصاص بعد انقلاب شباط الأسود 1963 وبأمر من جنرالات اليمين قادة الأنقلاب , على أعتباره أحد رموز عهد عبد الكريم قاسم والشيوعيين , وظلّت آثارها ظاهرة للعيان حتى بعد أنقلاب 1968 حيث جرى أصلاحه وترميمه في واحدة من الممارسات الخادعة للسلطة لتجميل وجهها ولأثبات حسن النية .
الحكاية الثانية : روى لي الفنان التشكيلي الرائد حافظ الدروبي هذه الواقعة : ( في بداية السبعينيات زار العراق وزير الثقافة الفرنسي المفكر والكاتب الكبير ( أندريه مالرو )فأقامت له السفارة الفرنسية في بغداد حفلا كبيرا دعت اليه الكثير من الدبلوماسيين والكثير من وجوه المجتمع البغدادي , وكنت واحدا منهم , وقد ضمّت حلقتنا الدكتور احمد عبد الستار الجواري وزير التربية حينها , ولم يكن يعرفني سابقا , وحين تم التعارف بادر قائلا : بمناسبة وجود الاستاذ الدروبي بيننا , أقص لكم شيئا عن ( هاي العكاريك ) أي هذه الضفادع , المعلقة في الباب الشرقي ( يقصد بها نصب الحرية ) , حيث صدر أمرا من القيادة بعد شباط 63 هو أن تنزل مجموعة من الدبابات من جسر الجمهورية وبسرعة كبيرة نحو هذا النصب لتقتلعه من أساسه , ولست أعرف حتى هذه اللحظة كيف تسرّب الخبر الى السفارة السوفيتيه التي عرضت علينا شراء هذا النصب بسبعة ملايين دينار , وكان هذا المبلغ يعادل وقتها ميزانية الدولة , عندها أنتابتنا الدهشة وساورتنا الشكوك بأن هذا النصب لربما تساوي قيمته أكثر من هذا المبلغ ,فتم تأجيل عملية تدميره ) !!!
الحكاية الثالثة : في عام 1986 كما أتذكر , نصبت جدارية نحتية في جانب من الساحة التي تؤدي الى الجامعة المستنصرية والتي تقع على أمتداد شارع فلسطين , لأحد النحاتين المرتزقة , تمثل تعذيب وقتل الأسرى العراقيون لدى أيران , ومن المؤسف والمحزن حقا , أن هذه الجدارية كانت تفتقر الى أبسط الشروط الفنية التي يجب ان يتوافر عليها أي عمل فني خاصة اذا كان نصبا يشرف على ساحة مهمة من العاصمة , فكانت محط سخرية وتندر الجميع لمباشرتها الساذجة وسطحيتها , الاّ انها كانت بلا شك تنسجم مع عقلية السلطة العسكرية وتتلائم مع ذائقتها المتدنية . وأثناء وجودي عند مدير عام دائرة الفنون بحكم وظيفتي , دخل علينا الفنان الراحل الكبير شاكر حسن آل سعيد , وقد بانت على ملامحه امارات الغضب والسخط , ولم تمر سوى لحظات حتى بادر الى القول وبصوت مرتجف : ( هل من المعقول .. قبل خمسة وعشرين سنة نعلّق جدارية نصب الحرية , واليوم نعلّق جدارية قتل الأسرى ؟!!! أية مهزلة هذه ؟! أنها تثير الضحك مثلما تثير البكاء .. أتمنى من دائرتكم النهوض بمسؤوليتها وتوضيح ذلك للمسؤولين لألغائها بأسرع ما يمكن والاّ فسوف نشهد نهاية وموت الثقافة العراقية وسنواريها التراب بأيدينا هذه !! ) كنت أتطلع الى وجهه المحتقن وثمة دمعتين تترقرقان في عينيه .
الحكاية الرابعة : وفي مناسبة مرور ذكرى رحيل الخالد جواد سليم , قال الجواهري الكبير : ( منذ تركت النجف في العشرينات لم أحمل نعشا على كتفي سوى نعش جواد سليم ) ولعل هذا أصدق أعتراف من مبدع كبير بحق مبدع كبير آخر , ولعل شاعرنا العظيم لم يغب عن باله الراحل جواد حين قال بيته الشهير : يموت الخالدون بكل فــجّ ويستعصي على الموت الخلود
رحم الله جوادا الذي علمنــّا نحن معشر الفنانين كيف نفكّر وكيف نؤسس لأنتاج عمل فني عراقي يضاهي ما ينتجه العقل الغربي برغم الفارق الحضاري الكبير الذي يفصلنا . أن المعادلة الصعبة والشائكة بين المضمون والشكل وبين مخاطبة النخب وعامة الناس تحققت باعلى مدلولاتها ومستوياتها في هذا النصب الخالد . ان مسؤولية الحفاظ على هذا النصب لا يقل أهمية عن الحفاظ على رموزنا وآثارنا القديمة كالزقورة وملوية سامراء والثور المجنح والمتبقي من آثار بابل وسواها , لذا فالحكومة مدعوة الى الأسراع في معالجة الأضرار التي أصابت أحد دعائمه وأتخاذ التدابير الكفيلة بعدم حصول مثل هذه الأضرار مستقبلا , وذلك أحتراما للقيمة الأبداعية لهذا النصب وأكراما للرجل الذي ضحى بحياته من أجل أنجازه ليكون مفخرة تضاف الى مفاخر صنـــّاع الجمال في بلدنا .
|