المقاله تحت باب محور النقد في
25/03/2008 06:00 AM GMT
في معرضه الشخصي الجديد (قاعة البارح/البحرين) يؤكد النحات العراقي، المقيم في قطر، أحمد البحراني أن الموضوع لا يصنع فناً مثلما هي الأفكار تماماً، وأن الجمال الذي يحاول استخراجه من مادة ميتة لا يمكن العثور عليه إلا من خلال عينين مغمضتين، لذلك نراه يتشبه بكل ما ليس له إلا الظل على هذه الأرض: طائره الفاتن الذي يصنع من خفقة جناحه قفازاً ليد لا تزال تبحث في الفراغ عما يمكن أن يملأها لقى وأحجيات وألغازاً وتمائم. تلك هي يد الساحر التي تنتظر مكارم الغيب. لذلك فإن أشكاله التي لا معنى لأية محاولة لتأويلها، هي في حقيقتها محاولة للتذكير بالوعد الذي ينطوي عليه وجودنا الحائر بين الحضور والغياب. كل حركة هي في الكثير من معانيها إنما تحيلنا إلى السكون الذي يحيط بها. ما تفعله الجملة الموسيقية حين تكون مطلقة السراح، توترها الداخلي يهب الفضاء الذي يحيطها سعة لا يمكن حصرها. وهو ما يفعله بالضبط الخط الذي يفلت من شبكة التقاطعات البصرية التي ينسجها البحراني بمادة صلبة، قاسية، ذات حدود جارحة. لكن تلك المادة ما إن تلمسها يد الساحر حتى تتخلى عن كل صفاتها. بل انها تذهب أبعد مما يمكن أن تتوقعه الحواس. هل يكمن السر في طاعة يلهمها تلذذ شاعري ينتقل كالعدوى من جسد النحات إلى الفراغ الذي يسعى النحات إلى أن يملأه صوراً؟ لكن الصورة لدى البحراني هي الأخرى تأتي منتحلة، كما لو أنها لا ترغب في أن تذكر إلا بوجودها معزولة عن كل معنى. يمكنني أن أضيف مجازفاً «عن كل شكل». فالبحراني هنا يظهر قدراً واضحاً من عدم الاكتراث بما ينتج في محاولته من أشكال. ذلك أن تلك الأشكال التي نراها تشي بقدرتها الكامنة على التحول المستمر، وهو تحول لا تكفي نظرة واحدة للقبض عليه. نرى من دون أن نكون مطمئنين إلى أن عيوننا تقع على الشيء الحقيقي الذي ينبغي النظر إليه. فما لا نجده حسياً يكاد يسلب قدرتنا على أن نكون موجودين فعلاً في مواجهته. معادلة يبرع البحراني في التحكم بعناصرها، ليأخذنا من سباتنا البصري في اتجاه عالم يقظته المتحرك. هناك حيث تدعم الحركة المرئية من جسد العمل الفني الكثير من الحركات التي لا يمكن اقتناصها إلا من طريق الخيال البصري. كما في أعماله السابقة يفصلنا البحراني عن مصادره الواقعية ليقول لنا شيئاً مختلفاً عما يمكن أن نقوم به ونحن نرى. خياله يصحبنا في مكابدة المشاهدة كما لو أنه يرعى أشياء حضرت لتوّها من رحم مادة نجهلها. تلك الأشياء التي يعجنها البحراني بصبر بعاطفته لا تسلي إلا عيناً قررت أن تستعيد صفاءها. ففي كل مراحله الأسلوبية حرص البحراني على ألا يكون شاهداً، كانت لديه دائماً طريقة في النظر هي بمثابة طوق نجاة ينقذه من موضوعه ومن كل فكرة تعلق بذلك الموضوع. لقد حفر هذا النحات ببراعة من خلال طريقته الفذة في النظر تلك نفقاً يصل يده التي هي من فولاذ بقلبه الذي هو من حرير.
|