أديب مكي .. مزاجية الاحتفاء بالتنقّل والتغيير

المقاله تحت باب  مقالات فنيه
في 
25/03/2008 06:00 AM
GMT



 
اديب مكي رسام مزاجي ، وهو ابن تلك الروح المتقلبة للتشكيلي البغدادي ، الذي لايقبل ان يرتدي قناعا ، او يختفي في قالب وحيد ..  انه وسط تجارب فنية في الرسم  انجز الكثير ..لكنه لم يوثّق الاّ القليل ، وهو الفنان الزاهد بذلك الصراع اللامجدي لطالبي مجد ومدعي مكان ...  انه ذلك العدمي ، القدري ، واللامنتمي الذي يختار ولايختار .. يرسم ولايرسم .. لكنه حين يشتغل يترك مزاياه مرمية على ذاكرة ذواتنا وهي تروي ..
 
 بيت من الكتب :
 ربما كان حظه الأوفر اذ ولد في مكتبة المنزل حيث جعل الرجل المثقف والمكتبي العراقي العتيد مكي جاسم – والد اديب  من الكتاب اثاثا  وزادا وحقيقة وحيدة لمنزل يجمع كل ثلاثاء اهم مثقفي البلاد واساتذته وعلمائه في مجلس ثقافي اسبوعي .. انه المنزل الذي  يولد فيه رسامون ومثقفون  ورواة .. هم عائلة رجل مثقف اهرق سنوات عمره من اجل الكتاب والمكتبة .. وكان   اديب مكي يشتغل وسط الحشد .. و في تجربته في اطار  الرسم العراقي، لايريد اديب مكي تصنيفا ، اذ انه يرى الى شغله بأعتباره مجسدا لكل التاثيرات التي حملتها الحركة التشكيلية في البلاد..  فقد انتهت تجربته في الرسم للأطفال كتبا ومسلسلات  لعقود طويلة ،  بنزعات اسلوبية ، هي وليدة ذلك الأنفعال الطويل مع فنون الملصق ، والكرافيك ، والطباعة ، والرسم .. وهو الذي عاش كل تجارب الستينات مشاهدا وقريبا من كل تعبيرات ذلك العقد من الموسيقى والنحت والحركات الطلابية .. كما تفاعل عن قرب مع  حركة الهيبيز ،  ومتغيرات الفن والموسيقى والكتابة .. وتنقل في الأهتمام ومن الموسيقى الكلاسيكية الى الجاز .. ومن ادوار سيد درويش الى زكريا احمد وعبد الوهاب .. وسأقول من جواد سليم الى جواد سليم الأب الروحي للفنانين العراقيين الذين اختاروا الحداثة طريقا ..لقد تقلب في فنون الرسم من رسوم الأطفال الى ايقونات لوجوه واجساد  ونساء ذهبيات .. حتى استقرت تلك التجارب على مهبط التجريد اللانهائي . ان التجريد بكل أشكاله يبدو طريقا اختاره اديب مكي اثر اتجاهات متعددة لنزعات فردية  نحو تعبيرية مفرطة او نمط من الفعل الواقعي على سطح اللوحة حيث عاش لسنوات في مشغل الزاوية - القاعة التي انشاها وهو ينكب على التجريب والتنقل واللعب .. الم يكن اللعب مصدرا لمعارف علمية وابتكارات في تاريخ الأنسانية فلماذا لايكون ذلك التجريب المسلي .. طريقا لبلوغ هذه الحداثة الحرة في بناء اللوحة .. واختيار الخط الذي يوصل اليها ..

لقد ظل التجريب عدة اديب مكي لأنه لايريد ان تتكرر جماليات .. لايريد ان يتكرر الخط .. لايريد ان تتكرر ضربة فرشاة مرة ثانية . وبهذه المزاجية المثيرة للأسئلة تأخر الرسام  سنوات طويلة ليكرس مشروعه . قد يبدو ان هذا الخيار لايشتغل الاّ  بأجتراح تجارب تشكيلية مختلفة في بنيتها ودوافعها ومظهرها المعلن وقد فعل اديب مكي ذلك بطول نفس وعدم اكتراث ايضا تاركا حريته الشخصية .. وكسله .. وفرديته البسيطة  ان تشكل مبتنياته الأخيرة . انه لمن الصعب  تفكيك التجربة التشكيلية الى مراجع وحركات واشكال اذ يصعب عزل كل اطار او مرحلة عن مجمل حركة التشكيلي ، لكن ذلك التنوع الفريد والتجريب المفرط .. والتنقل الحر قد  كشف عن  نزوع استخدم فيه اديب كل تجارب الطباعة وصناعة افلام الكارتون  واللون والملصق .. والبورتريت والتصميم واغلفة الكتب والمجلات والغرافيك .. وقد مضى بتجربته التشكيلية نحو تزويقات واستعمالات تقنية افضت الى هذا التجريد الحميم وهو يضم كل تقنية الشرق الرافديني ليسقطها على اللوحة .لقد مضى بالرسم ، وهو يتمتع بكل تجربة ،  نحو تنويعات جمالية مفردة ، وانشغالات يومية ،  تستعمل كل تأثيرات السينما والموسيقى والتصميم والأنارة .. ومن ثم ، المزاج الشخصي في انجاز اللوحة .. ان تلك الجمالية الخاصة ، تكاد تلامس مدرسة بغداد القديمة في تزويقات اديب مكي ، وتلامس كلاسيكيات الرسم عند جيل فائق حسن وتلاميذه من مجايليه في كلاسيكيات ومناظر وطبيعة  . وتتصل بالستينيين عبر منجزات مفردة ، بأعتباره شاهدا ومتأثرا ومواكبا ، كما انه واحد من جيل الحروب من التشكيليين الذين احترقت رؤاهم في الملاجيء والخنادق .. والموت الطويل في حروب لانهائية ..
 
تجريب لا يتوقف ..       
والرسام اديب مكي – 1951 ، يشتغل على نصه في جدل مرجعي يقوم على كل مايحمله من تجارب ومشاهدات ورحلات – هجرات ،  ومعارض ونكوص والأهم من ذلك ذاكرة تشكيلية وعين لمّاحة لكل ماهو خاص  .. فمنذ دشن اديب تجربته عام  في 1970  - الألّيستريشن للأطفال وهي بداية عميقة وفذة مع فيصل لعيبي وصلاح جياد وطالب مكي ومؤيد نعمة وعلي المندلاوي وآخرين ،  وقد قرر في كل خروج ان يعارض تلك المشهدية بتجديدات شملت تجارب الرسم  التي انجزها عبر اختياره التشكيلي الذي هو كناية عن  اشتغال الفنتازيا على جعل الواقع ممكنا ، حين يؤجل ذلك الواقع ، والأصح حين يرفض ذلك اللون بقوة اللون .. والفراغ الباذخ . ان اعماله تمتاز بخروج نصي متضاد مع مضمونها ، واستلهام لحداثات قائمة لديه في مراجع وتجارب فريدة ، من تلك المجلات الخمسينية الى مجاميع الفنانين الى تجاربه في قاعة الرواق 1993 وقاعة الزاويه 1994 .ان اشتغالاته تضج  بأستلهامات شفاهية ونصية وشهادات ورؤى واحلام بحيث تتلاشى تلك الواقعية في مشاهد المدينة العراقية واسواق بغداد الى مساحات لانهائية من اللون والتقنيات والفراغ والرموز المدغمة في اللون والأحلام والتداعيات والأوهام ..  هذه النزعة التي اختارها الرسام  هي نزعة جيل مختلف اذ تعود اؤلئك المؤسسين لحركات تشكيلية معروفة ان يختار كل طريقته ومدرسته ويمضي حتى النهاية كما عند جماعة بغداد احتى جيل الستينين .. لكن اجيالا من الرسامين العراقيين اختارو التجريب الطويل المرن حتى لتبدو بعض تجاربهم غير مجدية لكن البعض منهم اجتاز مصائد الأحباط واجترحوا اسلوبية ورؤية مميزتين كما فعل  اديب مكي بعد وقت من التكثيف والجهد .. انه يخلق  نصوصه ويواجهها بين جدل التكنيك والأسلوب  المكثف ثم يشتغل على تحويل التجارب الفردية والأنسانية الى مشهدية مكثفة تعرض اعماقا غامضة ، وتحاور ظلالا ، وتطلق للأشكال دلالاتها ،  في انتمائها المحلي ، و في دلالاتها ورموزها  . ان اعماله تشير  في انتمائها الأسلوبي  الى تجارب كبيرة هي مكتشفات الرسام منذ زمن حتى المهاجر حتى  استقر في الولايات المتحدة الأمريكية . ان الشعرية  عند اديب مكي وهي تلامس السحري في خطوط وكتل واضاءات هي تكييف لرؤى ومراجع محلية  بحيث تنتمي تلك الموضوعات – الأعمال الى بيئة انسانية واسعة هي تعبير عن مغادرة اديب مكي لتلك المزاجية وذلك البطء الى سرعة الأقتراب من الموقف الكوني للفنان المتجدد  وهو يتابع كل جديد و يبصر كل تغيير .. وكل خراب ايضا ..
 
تجربة  مشتركة  .. 
لقد حمل اديب مكي حقائبه وعاد الى بغداد - 2006 معتقدا انه يبادل احلامه برهانات التشكيلي ، وبدا انه يختار طريقا صعبا من الوقائع والتواريخ منذ لحظة ان ادركت قدماه ارض بلاده حين عاد . فقد  تأمل بغداد منذ خرائب  المدينة .. الى خرائب الروح بعد ان حطت به الطائرة ومضى وحيدا في الطريق حيث لاصديق ولاصورة المنزل ولا البشر ولاالحيوان ولا النبات  ولا غيرها من مفردات المدينة يمكن تشبه بعضها ، او تشبه حلمه .. بل لاتشبه ذاكرته التي اعادته الى بغداد  ومضى على دراجته حيث استحال النقل .. الى الأصدقاء يبحث عما تبقى .. كما لو انه يريد ان يكذّب المشهد .. كما لو انه يريد ان يبتكر لتجربته شهودا .. ورواة ..   إن اديب مكي الرسام خلال تجربة زيارته تلك بأعتباره  شاهدا  على المدن والناس و العمارة والتشكيل .. وروح المكان   وهي باجمعها تصبح هدفا لموت وطن .. قد اكتشف ان رهان المستحيل لايشبه حتميات لايجهد الرسام حتى ينجزها فكيف اذا صار كل شيء مجرد تراب ورصاص وظلال وكوابيس .  انه ذلك لم يكتشف   بعدته كرسام فقط بل كأنسان يكتشف النهايات الفاجعة لأحلامه حين تحول الوطن سجنا وصار الخروج منه مستحيلا كما حصل معه  حين اراد العودة الى منفاه..
 
وحيت يتحقق للرسام ان  يشتغل بخزين خياله .. وشهادات ذاكرته  .. ينشغل  .. بتفتيت لايتوقف حيث اللامرئي يصير مجسدا  لتصير لديه عناصر اللوحة نقوشا وروايات لونية وكتل متفجرة وتراكم اجرد لحقائق مرة .. كان يتساءل هل حقا ً يمكن سحق البراءة التي في قزحية المكان الملون وقد  تحولت الى بقع جرداء وخراب ومستحيل .. فيما يصير السفر مستحيلا لأنه كان يجد في مشغله البعيد   انه يستطيع اعادة اكتشاف البلاد التي عاد اليها ولم يعرفها .. وهو في انشغالاته التجريدية الأخيرة .. يرسم حلم  التشكيلي حين يعيد بناء البلاد .. وان غدت المنافي ملاذات للحلم .. والمستحيل..