المقاله تحت باب محور النقد في
14/04/2007 06:00 AM GMT
يعتقد الفنان عبد الامير الخطيب منظم معرض «الثقافة الثالثة» الذي شهدته هلسنكي مؤخراً، ان الاعمال الفنية التي ينتجها الفنانون المهاجرون، تمهد لظهور ثقافة جديدة، هي الثقافة البينية التي قطعت جذورها بالثقافة الام، وفشلت في الوقت نفسه في الاندماج بالثقافة المحيطة بها. الخطيب الذي عاش الجزء الاكبر من حياته متنقلا بين البلدان بعيدا عن بلده يسعى من خلال طرح هذا المفهوم الى لم شمل أكبر عدد من الفنانين تحت سقف شبكة الفنانين المهاجرين في اوروبا التي انشأها عام 1997، وها هي تعاند وتنتعش.
الشبكة تلك التي أنشأها عبد الأمير الخطيب بمشروعاتها الفنية تعكس خبرة الرجل في التنقل بين الامكنة كما بين الثقافات. وهي خبرة تظهرها أعماله الفنية، حيث تتجاور وتتقاطع التأثيرات الغربية والشرقية في محاولة متعثرة للامتزاج العضوي. "هناك قلة نادرة من الفنانين المهاجرين استطاعت ان تنفذ من العزلة المفروضة عليها، وهي قلة غالبا ما أنكر أفرادها أية صلة لهم بثقافاتهم الاصلية ليكون هذا الانكار ثمنا لقبولهم كجزء من ثقافة الغرب". مفهوم الثقافة الثالثة وفق الاسلوب الذي يتبعه الخطيب يتخذ طابعا احتجاجيا هادئا، يستلهم لغته الحائرة من صنيع فني تتقاطع فيه طرق الهجرة بكل اسئلتها. المعرض ليس النشاط الاول الذي تقيمه الشبكة، فإضافة الى المجلة الفنية التي يصدرها فصليا، حمل الخطيب في اوقات سابقة بسيارة النقل التي يملكها أعمال الفنانين الى مدن اوروبية عديدة ليقوم بعرضها هناك.
في الباخرة العملاقة التي اقلتني من استكهولم الى هلسنكي كنت اتخيل المعرض الذي ساهمت في كتابة دليله الضخم والانيق نوعا من مخيمات الهجرة النابتة على الحدود. مزيجا شاسعا وغير منضبط من اللغات والاشكال والمعاني والاساليب والتقنيات. 22 فنانا جمعهم الخطيب بانتقائية ليكونوا عينة لفكرته. حضر الفنانون من بلدان المهجر الأوروبي، لا ليمثلوها ولا ليعودوا بذاكرتهم المتشعبة الى اماكنهم الاصلية. لذلك فإن معظم الاعمال الفنية خرج على مفهوم الفن التقليدي وسعى الى أن يكون مرآة لحياة يغلب عليها التشظي والحيرة والمواجهة المتوترة مع الآخر. أعمال تنتمي الى فكر ما بعد الحداثة من غير أي ادعاء تبجيلي بما تفعل.
من الهند حضر افترجيت داهانجال وارسمال غوش، ومن هنغاريا فيفيان بوندي، ومن العراق محمد عبد الله ويحيى الشيخ وعلي النجار وحقي جاسم، ومن روسيا اندريا غيناديف ولودميلا جيزوفا، ومن بولندا أنا زادروس، ومن سويسرا ساشا هوبر، ومن الصين زهاو شاورو وزهانغ هونغ لايو ومن بريطانيا نيك وتلي.
حمل بعض الفنانين أعمالهم جاهزة، ليكتفوا بتركيبها داخل قاعة العرض، التي هي جزء من مجمع ثقافي كبير، كان في السابق معملا وحول الى مجموعة كبيرة من الورش والمحترفات والمدارس والمكاتب والقاعات الفنية. اما البعض الاخر فقد حضر صفر اليدين ليقوم بتجسيد رؤاه الفنية مباشرة في القاعة، وهو ما يفعله عادة عدد كبير من فناني اليوم. ليست هناك اية مجازفة في ما يفعله فنانو النوع الثاني، فعلى سبيل المثال فان البولندية أنا زادروس فعلت ما تفعله في كل مرة: ملأت جزءا من فضاء القاعة بخيوطها الملونة. كان عملها عشوائي الحركة ليس له حدود واضحة، ولا يرى دائما، بل قد يقطعه مرور أي عابر يسعى الى الاقتراب من الاعمال الفنية الأخرى. اما العراقي محمد عبد الله فقد كان عمله حشدا من القطع الورقية والطينية ليعرضها في اماكن متباعدة من القاعة. ما يجمع بين العملين رغبتهما في أن يتواريا، وما فعلاه انما يؤكد ان الفن الجديد يقيم في رأس منتجه مثل فكرة محلقة لا جسد سابقاً لها. الفن الجديد يحقق بذلك مقولة برانكوزي: يداي تفكران وأنا احلم بالمادة. وبالنسبة للعراقي عبد الله كانت المادة هي الاخرى غير جاهزة وغير مفكر بها مسبقا. عمل عبد الامير الخطيب الذي استلهمه من الفجوات الكونية السوداء هو الآخر يحتل مساحة يتخللها الفضاء. فذلك العمل يمتد بين الارض وواحدة من زوايا سقف القاعة، كما لو أنه يسعى مثل طيوره الى الفرار من قدر غيابه. البولندية فيفيان بوندي وضعت في متناول عيون المشاهدين فصولا من سيرتها الشخصية على هيأة صور متلاصقة ومتداخلة، يغطي بعضها البعض الاخر ويشف عنه. اما الصيني زهاو شاورو فقد عرض مجموعة من صوره الشخصية لتكون دليل المشاهد في التعرف عليه في حالاته المختلفة. نوع من انكار الواقع والنظر الى الوجه بصفته قناعا كما كان نيتشه يقول، وهو ما حاوله علي النجار لكن بطريقة أكثر باطنية، حيث حل الجسد المعرض للهلاك محل الوجه. الهندي افترجيت داهانجال كان أكثر الحاضرين هدوءا حين عاد الى التجريد وهو الذي عرف بشغفه في استعمال المواد ذات الخصوصية الهندية. اما يحيى الشيخ فقد انحاز الى الصانع بدلا من أن يلتفت الى الرسام. سحرته مادة اللباد فصار يتماهى مع تحولاتها التي لا ترى بيسر.
كان معرض "الثقافة الثالثة" صورة عن فكرة هي مرآة لاسلوب هامشي في العيش. وهو اسلوب وجد في الفن ضالته ليقول ما لا يمكن قوله مباشرة في ظل التجاذب الثقافي الذي يعيشه المهاجر بين مجتمعين وذاكرتين وكفتي ميزان. ولان الفنان المهاجر يعيش حيرته الاستفهامية وهو يسعى الى احتواء العالم المحيط فقد جاءت الاعمال الفنية لتجسد رغبة في التعبير الانشائي المقتضب والمتوتر والعازف عن أية محاولة حكائية. فن لا يستفيض في شرح اسباب شقائه بقدر ما يكتفي بالايحاء والذهاب مباشرة الى الهدف.
هلسنكي: فاروق يوسف
|