المقاله تحت باب أخبار و متابعات في
23/05/2008 06:00 AM GMT
في هذا الوقت الذي كثر فيه الكلام عن تصادم الحضارات وحوار الحضارات، لم أجد طريقا غير الفنون تعطيني منفذا فعالا الى قلوب الغربيين وعقولهم. ومن سلبياتنا المؤسفة امتناع الكثير من المسلمين عن تسويق الموسيقى العربية والاسلامية كأداة حضارية وروحية في الاوساط العالمية. هذا تقصير مؤسف في رأيي. فكما نعرف تاريخيا، ما يبقى من الشعوب بعد انقراضها فنونها، اعمالها التشكيلية والموسيقية والشعرية. الشيء المؤسف الآخر، هو ان الاوساط الاعلامية في الغرب تركز على عيوبنا وما يقوم به سفهاؤنا وجهلتنا من عمليات ارهابية وإجرامية، ويتجاهلون المساهمات الجزيلة التي يقوم بها الكثير من ابنائنا المغتربين في ميادين الفنون والفكر والعلوم في شتى البلدان الاوروبية. من هذه المساهمات العولمية التي اطلعت عليها اخيرا، اسطوانة مدمجة من انتاج فرقة «أهوار» العراقية في هولندا. اهدتني اياها الباحثة الالمانية فكتوريا فالس خلال زيارتي للأردن. قالت استمع اليها جيدا وفي خلوة صحيحة لتتحسس انغامها الساحرة. فعلت ذلك ويا له من سحر ما فعله هؤلاء الموسيقيون العراقيون الضاربون في تيهان الغربة بين المانيا وهولندا وبلجيكا. سعد شاكر من خريجي معهد الفنون الجميلة في بغداد. درس وقام بتدريس البيانو وتاريخ الموسيقى قبل تشرده ورحيله الى هولندا، حيث نال جائزة «الوان جديدة» الموسيقية. اما باسم حوار فقد درس الكمنجة في معهد الدراسات النغمية في بغداد، ثم انتقل الى تلك الآلة التقليدية المعروفة بالجوزة. جمعتهما حفلة خاصة بالموسيقار البلجيكي فريه دسموتر، المتخصص بموسيقى الجاز. هذا فرع من الموسيقى العالمية تمتد جذوره الى الزنوج في الولايات المتحدة. تميز بقدرته على التطبيع والاندماج بموسيقى شتى الشعوب. سرعان ما جر سعد شاكر الى مصاحبة فريه دسموتر بألحانه العراقية الجنوبية واغاني المقام العراقي. بين هؤلاء الثلاثة تأسست فرقة الأهوار على اسم تلك المنطقة الجنوبية من وادي الرافدين التي استوحوا منها هذا التنغيم الموسيقي الجديد. راحت هذه الزمرة الموسيقية الصغيرة تتعيش من الكدح اليومي في النهار والعزف في اعراس العوائل التركية ليلاً. بيد ان موسيقى الجاز لا تسلم بدون آلة الكونترباص، التي لم يكن بينهم من يحسن العزف عليها. كان سعد ثامر يؤدي عمله اليومي ككادح في دكان فكهاني في مدينة كولون في المانيا، عندما التمس منه شاب آخر ان يساعده في تحميل كنبة زرقاء اشتراها من الدكان المجاور. تطوع لمساعدته. جرى حديث بينهما في الطريق، فاكتشف كل منهما مهنة الآخر الحقيقية: الموسيقى. سأله الموسيقار العراقي، وما هي آلتك؟ اجابه الرجل، انا دينمار فور، عازف الكونتراباص. يا الله! هذا ما كانوا يبحثون عنه. واكتمل الرباعي الموسيقي: فرقة الأهوار. موسيقى الأهوار تعتمد في ثيماتها على الأغاني الشعبية للفلاحين والكادحين في جنوب العراق، مثل «حبيبي راح وما جانا... دا دلوني على مكانه». وكلها صاغتها الفرقة بقوالبها الحداثية الجديدة، التي تعتمد على ايقاع خفيف خجول يكمن وراءه انين الاغنية العراقية التراجيدية، الذي وجد الآن وطنه في تراجيديات الجاز لهذه الفرقة. وكان كل ذلك تعبيرا لهموم هؤلاء الفنانين العراقيين الذين شردتهم مصائب بلادهم. وفيها انسجمت ضربات البيانو الغربي مع الآلات الشرقية الشعبية بشكل يستدعي أعمق التقدير والاستحسان.
|