المقاله تحت باب في الموسيقى والغناء في
03/06/2008 06:00 AM GMT
أحمد مختارمنذ أن أرسى الشريف محيي الدين حيدر أواسط القرن المنصرم أُسس مدرسة بغداد في العود، حتى تطوّرت وتجلت ملامحها على أيدي تلامذته من أمثال سلمان شكر، منير بشير، جميل بشير وغيرهم. هكذا، صار العود نجماً موسيقياً منفرداً ولسان حال الإنسان العراقي. بعد خمس سنوات على الاحتلال، يشهد الوضع داخل العراق انحداراً مخيفاً للحياة الفنية والثقافية. فالعنف طاول صالات السينما والمسارح، وصولاً إلى الأغنية والموسيقى وفن الراقص، كـ«معهد الباليه» في بغداد الذي كان يُعدّ من أوائل المعاهد المتخصصة في هذا المجال في الوطن العربي. أما آلة العود فلم تكن أفضل حالاً. يقول سامي نسيم الذي يقيم داخل العراق ويتولّى إدارة «فرقة منير بشير»: «لطالما عانى العود العراقي، كونه أكثر الأشياء شبهاً بنا حتى، أنّي كتبتُ مقطوعة موسيقية بعنوان «بكاء معاصر» قدّمتها هدية مواساة إلى العود. فهذه الآلة عانت ويلات الإرهاب والحروب». تلك هي رؤية مؤلف وعازف عود عاش داخل العراق. لكن كيف ينظر إليه فنان عراقي عاش في المنفى؟ يقول العازف العراقي أحمد مختار أستاذ آلة العود في «مركز الدراسات الشرقية» في لندن: «من المؤكد أنّ الموسيقى، بما فيها آلة العود، تتأثر سلباً أو إيجاباً بكل تحوّل سياسي، أو اقتصادي أو اجتماعي. بالتالي، نرى أنّ نهاية سبعينيات القرن المنصرم تُعدّ من أكثر الفترات تحولاً واضطراباً. يومها، عمدت السلطة إلى حشد الطاقات الفنية والثقافية وتجييرها لصالحها. وقد برزت في تلك الفترة مواهب موسيقية سارت على نهج المعلم الأول وتلامذته. لكنّ عاصفة التغيير السياسي والقبضة الحديدية للسلطة، لم تمنح هؤلاء المتخرجين الجدد ــــ الأساتذة لاحقاً ــــ فرصة الإفصاح عن طموحاتهم والعمل بحرية. ومنذ بداية الثمانينيات، أصبحت الثقافة والفنون، وخصوصاً الموسيقى وآلة العود، في خدمة السلطة، أو لنقل بعيدةً عن هموم الناس. نستطيع الاستدلال على ذلك من خلال الكمّ الكبير من الأغاني والمهرجانات الموسيقية السياسية التي تغنّت بـ«إنجازات» الحرب والسلطة والقائد. لقد تنبهت السلطة إلى دور العود فسخّرته لخدمتها. هكذا، ألبس بعض الموسيقيين الانتهازيين العود ثوباً عقائدياً حزبياً، طلباً للشهرة والمال. استمرت الحال على ما هي عليه، وازدادت الفرق الموسيقية العقائدية وكثر العازفون الذين دخلوا اللعبة السياسية. أما اليوم، وفي زمن الاحتلال الذي جاء مبشراً بـ«الجنة»، فبرزت حركات وأحزاب إسلامية لم تلتفت إلى الموسيقى كونها فناً لا يوافي شروط هذه الأحزاب العقائدية والسياسية. وسط هذا المناخ، هرب العازفون وتقلّصت الفرق الموسيقية وبالتالي انحسر دورها الإيجابي». على رغم ذلك، يرى أحمد مختار أنّ «للعود روحاً عراقية أشبّهها بروح الأم العراقية ذات الجذور التاريخية، على غرار الأمهات السومريات والبابليّات اللواتي افترشن الأرض وامتنعن عن الطعام، كي يدفعن آلهة الأمومة السومرية إلى إعادة أولادهن سالمين من الحروب. ومثلما يشعر المقاتل بأنّ هناك أماً وراءه تتضرع للآلهة، فالإنسان اليوم يعرف تماماً أنّ هناك فناً يحمل قيم الجمال والمحبة يتضرع للسماء وأصحاب القرار أن يكفوا الأذى عنهم، وهذا ما يفعله العود العراقي». الإجابة بهذا البعد التاريخي، وبتلك الصورة القصصية، قد تعطي بعداً حقيقياً لتلك العلاقة بين الموسيقى والأرواح المعذبة. لكن كيف يترجم لنا مَن عاش بين الناس داخل العراق وهو يتلمس أوجاعهم، الصورة التي يحملها العراقي البسيط صوب الفن والموسيقى بالتحديد؟ يقول سامي نسيم: «الموسيقى رسالة حياة، ولغة مشتركة بين سكان الأرض، وجواز سفر لا يقف عند نقاط التفتيش ومخافر الحدود. وهو لن يجد الأذن الصاغية إلا إذا سار جنباً إلى جنب مع أحلام الإنسان وأمنياته وأوجاعه». منذ زمن الحصار الذي فرض على العراق جراء اجتياح الكويت، ثم سقوط الديكتاتور تحت سرفات دبابات الاحتلال، والعراقي لا يعرف سوى وأد الأمنيات على يد تجّار الحروب. العراق يفقد طاقاته الإبداعية من الثروات الموسيقية والفنية يوماً بعد يوم، حتّى بات العود العراقي يصدح تحت سماء أخرى، خلف الكواليس وبين جدران قاعات التدريس في الدول المجاورة وبين الفرق الموسيقية العربية. في حين تفتقر معاهد الفنون وكلياته داخل العراق إلى أهم مادة، ألا وهي الآلة الموسيقية. إذ إنّ الطالب الذي لا يجد ما يسد رمقه، يتعذر عليه بكل تأكيد شراء الآلة الموسيقية، في وقت يعثر جياع العراق بسهولة على البنادق وآلات القتل.
|