المقاله تحت باب معارض تشكيلية في
01/07/2008 06:00 AM GMT
تعرف الأوساط الفنية الدنماركية ياسين عطيّة منذ تتالت معارضه الشخصيّة والمشتركة هنا قبل أكثر من عشرة أعوام. قد يجد بعضهم سرّ هذا الانتشار في اقتراب طريقة تفكير هذا التشكيلي العراقي، وكذلك عمله، من جماعة «الكوبرا» الفنية التي تأسست عام 1948، وكان لفنّاني الدنمارك نصيب مهم في ترسيخ أساساتها... لكنّ الواقع أنّ لوحات هذا الفنان المتأثر بألوان الشرق عرفت طريقها إلى أوروبا، وخصوصاً لندن، قبل أن يغادر بلده العراق. فالحالة الاقتصادية داخل بلده أغرت تجّار الفن في تصدير منتوج الفن التشكيلي العراقي إلى العالم، وخصوصاً أن الأعمال المهمّة طرحت للبيع بأسعار زهيدة. في معرضه الأخير الذي أقيم في «غاليري راسموس» في الدنمارك، عرض ياسين عطيّة (1963) أعمالاً بأحجام متفاوتة، يجمع بينها رابط اللوحة المسندية وألوان الأكريليك. الأعمال تحكي لمشاهديها قصص عشق خفية منفذة بالأسلوب التعبيري التجريدي. واللافت أنّ هناك ثلاث لوحات بأحجام متساوية (150x120 cm)، كأنّها سلسلة لقصّة علاقة بين روحين تتوّجت بحفلة صاخبة. لقد اتخذ الفنّان، في تلك الثلاثيّة، من الحشرات رموزاً لتلك الأرواح التي قررت الارتباط فيما بينها. في لوحة «علاقة»، وهي الأولى، نشاهد حشرتين وقد ارتبطتا برباط وشيج يؤسس لعلاقة روحية. في هذه اللوحة، نكتشف أنّ مضمونها يكشف عن علاقة بين روحَين. وما الطوقان الأزرق والأسود فوق رأسيهما إلا دلالة على ذلك الرابط من جهة واختلاف الجنسين، ذكراً وأنثى، من جهة أخرى. إنّ عدم البوح المباشر بما يحمله مضمون اللوحة من أمنيات وآمال بشرية، من خلال تصوير الارتباط العاطفي بين حشرتين بدلاً من روحين بشريتين، منح العمل جمالية خاصة وقرباً وثيقاً من أعمال أهمّ الفنانين التجريديين. أحد النقّاد عزا استخدام الرمز للتعبير عن حالة إنسانية، إلى حذر عطيّة وخوفه من الإفصاح بصراحةً عما تكنّه روحه، وخصوصاً «أنّ هذا الفنان تعرّض للسجن والتعذيب خمس سنوات بين 1982 ــــ 1987 في زنازين سجن أبو غريب السيئ الذكر». قد لا ينطبق هذا التأويل النقدي تماماً على الواقع، لكنّها قراءة ممكنة في هذه التجربة التشكيليّة الغنيّة، المتعددة المستويات. وقد سُجن ياسين عطيّة حقاً وقد حقّق المخرج العراقي جمال أمين فيلماً تسجيلياً عن تجربته المريرة بعنوان «قطع غيار». لكن العارف بتاريخ الفن التشكيلي الحديث، وتاريخ التعبيرية التجريدية، يدرك تماماً أنّ ما من فنان انتمى إلى هذا الاتجاه الفني، إلا واستخدم الرمز في اللوحة ليسقطه على حالة إنسانية أو فكرة بعينها. دعونا نتذكر فقط لوحة «صيحة الحرية» أو «نداء الحرية» للهولندي كارل آبيل (1921 ــــ 2006)، إذ نفّذ لوحته عام 1948 مستخدماً تكويناً لطير محتفل الألوان، يشغل أغلب مساحة العمل. نفّذ الفنّان عمله حين كانت رائحة البارود ما زالت تغلّف سماء أوروبا التي كانت تستفيق من صدمة الحرب العالمية الثانية وخرابها ودمارها. تلك كانت طريقة ذلك الفنان المبدع في الوقوف بوجه الطغيان، وهول الكوارث، فلوحته على بساطة أسلوبها، تكتنز بعداً تعبيرياً صارماً لا ينقصه التحدي والإصرار. وبالعودة إلى ثلاثية عطيّة، نجد في اللوحة الثانية من السلسلة التي أطلق عليها عنوان «الذروة»، أنّ الفنان فك لنا بعض رموز اللوحة الأولى. إذ تتضح جلياً دلالة الذكورة في شكل «اليعسوب» وهو يفرد أجنحته مهيمناً على جسد أنثوي واضح المعالم، كأنّها إشارة إلى مراسيم ليلة زفاف لا تنقصها السعادة، حيث الروح الذكورية في أوج تألقها من خلال الأجنحة المنفردة التي شغلت حيزاً مهماً من مساحة العمل. أمّا احتفالية الألوان المحيطة فقد أخذت شكل شراشف وإكسسوارات غرفة الزوجية. في الجزء الثالث والأخير من السلسلة الذي جاء بعنوان «نهاية الحفلة»، يعود الفنان إلى الإيحاءات والرموز والأشكال البعيدة عما هو إنساني مباشر، بحيث لم يبقِ إلا على جناحين من أجنحة اليعسوب لتكون الدلالة الوحيدة على حضور الروح الذكورية وبقاء هيمنتها على المشهد، مغمورة بنشوة خاصة. استعار الفنان دورق النبيذ واندلاقه على الأرض رمزاً جميلاً لنهاية حفلة ممتعة، كأن أرواحاً بشرية كانت مجتمعة إلى طاولة عامرة بالنبيذ غادرتها بعدما بلغت النشوة أقصاها. أما أرجل الطاولة بخطوطها الراقصة، فتذكرنا بخطوط تولوز لوتريك الرشيقة وتصويره الأنيق لحانات باريس وشخوصها.
|