المقاله تحت باب محور النقد في
31/07/2008 06:00 AM GMT
ما عدا مشاركته في بينالي بغداد والشارقة فإن القاعات الفنية في مختلف المدن العربية لم تظهر أي اهتمام يذكر بتجربة الفنان العراقي المقيم في أوروبا فاضل العكرفي بما ينسجم وحضوره في المشهد الفني العالمي المعاصر.
عرف هذا الفنان الذي يعرض أعماله الآن في «كونست هال» في زيورخ بتفاعله العميق مع مستجدات الوعي المعاصر بالفن ومن خلاله. وهو ما انعكس على حياته الشخصية، بحيث صارت تلك الحياة بمثابة مرآة نقية لفكر ما بعد الحداثة، بتشظيها وتمردها على المتع واللذائذ الجمالية الجاهزة وامتزاجها بالمنفى في صفته خيار مصير. ففي كل مرة يصلني فيها صوته من خلال الهاتف لا بد من أن أسأله السؤال نفسه: أين أنت يا فاضل؟ في أية مدينة تقيم الآن؟ فمنذ أن تخلى هذا العراقي التائه عن لقبه وأضاف إلى اسمه (ال) التعريف ليكون اسمه من بعدها صفة، صار يتخلى تدريجاً عن أشياء كثيرة، كانت لصيقة به، بل جزءاً من شخصيته.
لا عنوان ثابتاً لديه فلم يعد يقيم في المكان نفسه دائماً. أما عنوانه على شبكة (الإنترنيت) فإنه يزيد وجوده غموضاً والتباساً حيث يجعله ذلك العنوان نوعاً من الكائنات الافتراضية. ليس لديه هاتف ثابت، في كل مرة هناك رقم جديد، يشير إلى مكان مختلف. لا يزال محترفه في لوكانو السويسرية يغص بأعماله التي لم يعد يستهويه تقليبها. غير النظارة الطبية وحقيبة السفر التي يرعى محتوياتها بأناقة كوكتوية (نسبة إلى جان كوكتو) وكتب الشعر الصغيرة الحجم التي يبذل جهداً كبيراً في اختيارها، لم يبق منه ما يمكن القبض عليه مادياً. قلقه القديم لم يفارقه، لكن ذلك القلق لم يعد يتجسد من خلال اليد التي تعبث برماد خيالها على الدفاتر البيض. (احتفظ في بغداد بعدد كبير من تلك الدفاتر بما يشكل ثروة). صارت عيناه هما فضاء ذلك القلق.
«لم يعد الرسم ممكناً» قال لي ذات مرة ونحن نجلس متقابلين في مقهى «فلور» في باريس. «حاولت أن أرسم مؤخراً من أجل العيش على الأقل، غير أن يدي لم تعني» حتى منحوتاته ونصبه صار ينفذها بلغة رقمية. لم يعد الرسم يعني له واقعة محتملة. لذلك عبرت يده عن إخلاصها لمزاجه المعرفي حين امتنعت عن الرسم.
تحول العالم المرئي بالنسبة الى هذا الكائن المتلفت والذي يعشق الإنصات بعمق ووله إلى مجموعة من القيم والمفاهيم التي لا تستحق الثناء دائماً، لكن الاعتراف بوجودها صار بالنسبة اليه نوعاً من المساءلة. «أنا موجود لا لأرى فقط، بل لأفكر وأتخيل أيضاً». يقول لي وهو يقصد أن أفكاره صارت هي مادة شقائه التعبيري. من خلال الفيلم المتحرك والصورة الثابتة والإنشاء والتجهيز بمواد مختلفة وجد الفاضل الطريق سالكة أمامه إلى الكلمة. فصارت جمله التي يكتبها أحياناً بالضوء بمثابة المزار الذي تبدأ وتنتهي به جولة السائحين بين لقى المعارض التي يشارك فيها. يبقى جوهر تلك الجمل الاستفهامي عالقاً بعين المشاهد فيضطر بعد حين إلى العودة إلى الصانع ليعينه على فك الطلسم.
حتى صوره الفوتوغرافية فإنها لا تقدم لنا مشهداً جاهزاً للنظر. ذلك لأنها لا تنقل ما يمكن أن يلهم العين جمالاً يشي بفكرة تلك الصور. بل العكس يقع تماماً: متعة بصرية يتبعها سؤال وجودي من نوع «ما الذي يحدث فعلاً؟» لا تصرح صوره بمضامينها، وهي على العموم تتشبه بأبطالها المنفيين والمشردين والمطاردين والمخيبين والباحثين عن أرض تليق بتواريهم. «ليست صورتهم ما يهمني، بل فكرتهم عن تلك الصورة» مشهد الفتية المذعورين الذين يقادون إلى الإعدام في أحد أفلامه هو نوع من الذهاب إلى قيامة لا يمكن ارتجالها في كل لحظة. كانت تلك المشاهد حقيقية (حدثت في العراق)، ولم يفعل الفاضل سوى أنه صنع لتلك المشاهد الحركة التي تليق بالموت. ببطء شديد كان الموت يجيء ليذهب المشاهد بإرادته إلى حفلة إعدام لم تكن متوقعة. في كل أعماله يبدو العراق مثل درس عميق في الارتجال الصوفي. لا يسعى إلى اختزاله بقدر ما يحاول أن يتعرف عليه من خلال لغة ألمه.
في احدى أسواق تايوان صنع هرماً، لكن المرآة التي ألصقت بالسقف كانت تظهر ذلك الهرم مقلوباً. يمكنني أن أتخيل الحيرة التي ينتجها فعل البصر وهو لا يرى الشيء وحده بل وأيضاً صورته السالبة في الوقت نفسه. لطالما لجأ الفاضل إلى المرآة. تسليه فكرة أن يكون كل شيء يراه موجوداً في المرآة، حتى وإن كان ذلك الشيء هو من اختراع خياله الشخصي. حينها يكون كما أرى كمن يرتقي سلماً في اتجاه مصيره الشخصي، يتحقق من خلالها من أن هذياناته كانت واقعية. لقد قادته تجربته في التعرف على خلاصات المواد التي يستعملها إلى منطقة يكون فيها الفنان سيد جسده وسيد كل المواد التي تنجذب إلى ذلك الجسد بسبب رغبتها في الانتساب إلى الجمال. وهو جمال متقشف وزاهد وعار إلا من رغبته في أن يهبنا ما نحتاج إليه في لحظة تخل.
يمكننا أن نفهم الآن لماذا يرفض الفاضل توقيع أعماله. حياد تلك الأعمال يصنع منه مشاهداً هو الآخر. موقعه وهو يراها مثلما نفعل نحن لا يعطيه الحق في امتلاكها. وليس غريباً أن يتخلى الفاضل عن ذلك الحق. لم تفعل أعماله ما هو غريب عنه. لقد استجابت فلسفته في التخلي. فرجل لا يملك بيتاً ولا عنواناً بريدياً ولا هاتفاً ثابتاً لا يمكنه القبول بما يقيده إلى صنائع يعثر الآخرون عليها بالصدفة. وهي صنائع تصف لحظة عابرة من حياته. لحظة لن يعود إليها بحكم سيرة المشاء التي تمكنت منه.
|