المقاله تحت باب محور النقد في
14/09/2008 06:00 AM GMT
مع أفول شهر آب/أغسطس وفي التاسع والعشرين منه تكون قد مرت علينا ودون ضجيج اعلامي يذكر، الذكرى الثانية لرحيل الفنان التشكيلي العراقي المبدع خضر جرجيس المولود في 1938. وكما عاش بهدوء، رحل بصمت بعد ان فاضت الوانه تسابقه نحو الخلود، فمذ غادر شمس العراق وارضه في التسعينات من القرن الماضي بساق واحدة وصحة متدهورة صوب منفاه المتجمد في السويد وكأن احساسه ينعكس متضادا مع طبيعة الاشياء فيحول كل تلك الظروف المأساوية الى فيض من الالوان تختزن نكهة عراقية شرقية تشع بالامل والفرح، ليؤسس لمدرسة لونية متميزة تفجر امكانيات اللون التعبيرية من خلال خلق توازن تجريدي بين العلاقة الشكلية والتعبيرية الباطنية.
ان حجية الفن عند خضر جرجيس تأتي من ادلة روحية، وما هو كفنان الا وسيط يحمل رسالة جمالية مهتديا برسالته الصوفية في التامل بما تحويه الطبيعة من عوالم جمالية لا تعثر عليها الا عين الفنان المتامل فيعيد صياغتها وفق ذائقته الفنية بعيدا عن الاشكال الهندسية، فهو يبني حلمه الاسطوري محاولا الامساك بما لا يمسك -قدر الامكان- وقد كان له ذلك.
فايقاع اللون يتكاثف ليشكل سمفونية تحاول ان تجمع أزمنة متفاوتة في لحظة واحدة من خلال هارمونية بصرية تعيد رسم معالم الواقع وفق رؤية فلسفية، تحمل الجوهر لتحيله الى ماورائية قصدية تتناغم بين الصفاء الروحي والتأمل العقلي.
انه يحاول ان يلملم اللحظات الهاربة الاكثر اشراقا ليخلق المتعة، حيث تتداخل الذاكرة على شكل استرجاعات حلمية مشحونة بطاقات لونية متفجرة تختصر المسافة بين الحلم والواقع، في عوالم مستعارة تعيد للمشاهد نوعا من البهجة المدهشة لتفرد الفنان في تعامله مع اللون وفي اسلوبيته.
ان الفنان في جهده الابداعي يحاول ان يعطي مفاهيم وتصورات ورؤية معاصرة للفن، بما يعني العودة الى الذات التي قادته الى البحت في وجعه الروحي القلق فلم يجد غير تلك الصوفية الشفافة لاملاء شعور الاحباط والانتكاسة واعادتها الى بهرجة لونية فرحة لكنها موجعة في ذات الوقت، فهو مسكون بعوالمة الداخلية اولا، وبالعالم الطبيعي الذي يواجهه في دوامة البحث للامساك بالحقيقة الوجودية المعمقة فإن لم يستطع فلا بأس من التعلق في اطرافها.
وهو لا يتحدث عن النهائية او التمامية في العمل الفني بل انه يجاهد للوصول الى مفاتيح تفكك أو تقرب من الوصول بخلق منهج كياني متفرد يتوسل بنهج اهل المعرفة الروحية والاقتراحات الصوفية للتأويل، من هنا يظهر لنا هذا البعد في عدم تجاوز الافق غير المنظور في اللوحة.
انه يحاول ان يبدع قراءة معمقة للوصول الى اشارات سردية لا متناهية من فيض ياتي من سرمدية الوجود.. انه صوت باطني يتجلى في عيون الرائي مثل ظلال تتمخض بالتفجر الروحي لاثمار الخصب اللوني في جسد اللوحة، ليفصح شاء ام أبى عن مكنون الذات ويحفز طاقة التفكير لدى المتلقي، اذ لا تقتصر المعرفة على ما هو مألوف من المثيرات الشكلية المباشرة بل يتطلب الامر استثارة افق التفكير والانتباه الى ما قد يغفل من معطيات الواقع في تنمية قدرات التخيل لتجاوز محدودية هذه المعطيات.
يقول الفنان بول كلي في هذا الشان ‘ان العين تتحرك بسأم عندما تتأمل ما تعودت عليه من الاشكال’. ومن هنا تبرز قدرة جرجيس على ارساء جذور ملَكة الابداع للوصول الى الاثراء الروحي عبر الخلط المبدع بين التجريد والواقع لخلق نمط جديد من الخصوصية في استغلال طاقة اللون غير المحدودة للتعبير في مساحات تجريدية تزخر بايحاءات متكيفة مع الامتداد البصري بين المرئي واللامرئي الكامن في عمق العمل الفني فهو يحاول دائما ان يجري حوارا بين الكتلة اللونية والمشاهد.
فالفنان ككائن من نوع خاص لا يهمه في اخر الامر سوى الوصول بدعوته من اجل كون مليء بالقيم الجمالية النبيلة.
ان خضر جرجيس لاينكر ابدا تأثره باستاذه الفنان والملون الرائد فائق حسن وبفكر التصوف لدى الفنان شاكر حسن ال سعيد بعد ان تخرج من معهد الفنون الجميلة ببغداد عام 1956 ليعود اليه أستاذا لمادة اللون، مختطا لنفسه منهجا واسلوبا متفردا وبعيدا عن التقليد لخلق ظاهرة لونية عراقية التميز عالمية الاتساع.
وألوانه المبهرة الحامية تعكس جرأة الفنان في قصدية خلق تناقض صارخ بين الضوء والظل وحرية اللمسة الانطباعية التي تجعل انبثاق تألق الضوء من داخل المادة.
انه يملك حساسية مفرطة تجاه الواقع وجوهر الاشياء عبر تجريدية تفاجئ المشاهد بزخم الايحاءات لتكثيف الامتداد البصري متخذا من هارموني الالوان قناعا للوصول الى العمق ومبتعدا عن الرمز المكشوف وكل مظاهر التشخيص عبر دلالات غير محدودة في الخيال الابداعي . فاسلوب الفنان باستخدام السكين بدل الفرشاة خلق نوعا من التفاعل الروحي بينه وبين سطح اللوحة.
ان اعمال جرجيس ستبقى دائما تثير الجدل بقدرتها اللونية على ايقاظ المشاعر ومنح المشاهد فرحا تأمليا ومتعة للغوص في تأويل اللون، فهو يكلم الصامت فينا. ويبقى التميز في الابداع هو جوهر الخلود الدائم في تاريخ الفن.
|