المقاله تحت باب في الموسيقى والغناء في
27/09/2008 06:00 AM GMT
في الذكرى الثلاثين لرحيله جميل بشير هوالشكل الذي يتوازن فيه طموح الشريف محيي الدين حيدر وتجديداته الشكلية المغرقة في تجريديتها وبين تقليدية الاتجاه البيئي الذي لايفرط به تحت ضغوط اغراءات التجديد
هذا الاسلوب يذكرنا باسلوب موسيقي ظهر 1500 في العام يجمع بين البوليفونية والرابسودي المرتجل وهو أتجاه لعب عازف اللوت الشهير( بيتر بونو) دوراً في بلورته. يقترح علينا جميل بشير دائماً ان نفسح المجال لخيالنا ليؤثر في المادي اذ من دون هذه الآلية تكون الموسيقى عبثاً لامبرر لوجودها. ولهذا فان جميل بشير يلعب دائماً لعبة تجزئه العمل الفني. إنه يؤسس لفكرتين تقودان هذا العمل في اللحظة نفسها وفي هذه اللعبة الفنية يعتقد جميل بشير أنه قد أوصل نتائجه المعرفية الى المتلقي ضمن تضادات الرؤية التي لايستطيع ان يتخلص من هيمنتها. ولد جميل بشير في الموصل العام 1921 في بيئة يشكل العود اساسها الذوقي(بشير عبد العزيز) يعزف على العود ويصنعه ما اتاح للفتى الصغير ان يقترب بكليته الى هذا العالم المضمخ بهمس المشاعر. اما الحاكي الذي كان يمتلكه والده فقد لعب دوراً مهماً في تعميق الخط الوجداني في ذهن الطفل جميل بشير من خلال مايستمع منه الى أعمال لفنانين كبار، بعد احساسه بنمو ادراكاته الفنية حزم حقائيه الى بغداد وهناك أستمع اليه حنا بطرس عندما عزف أمامه سماعي رست لطاطيوس أفندي. دخل معهد الموسيقى الذي تأسس العام 1936 ودرس العود على يد الشريف محيي الدين حيدر وآلة الكمان على يد ساندو آلبو. في العام 1943 تخرج في فرع العود وفي العام 1946 تخرج في فرع الكمان بدرجة امتياز وقام بتدريس العود ثم مساعدا لتعليم آلة الكمان. عين في الاذاعة كعازف وقائد فرقة ثم اصبح رئيس قسم الموسيقى في الاذاعة. من اسهاماته المهمة تأليفه لكتاب (العود وطريقة تدريسه) العام 1961 بعد ان وافقت وزارة المعارف على تدريسه لطلبة المعاهد الموسيقية وكان للاستاذ حبيب ظاهر العباس في الثمانينيات من القرن الماضي دور في اعداده وتقديمة للطلبة بصورة حافظت على مدوناته ملتزما بأمانة علمية هي جزء مهم من شروط البحث العلمي. كتب جميل مؤلفات كثيرة منها (بشرف سيكاه / سماعي نهاوند / سماعي صبا / اندلس / قيثارتي / فردوس / عيناك / بداية حب) واعمال موسيقية اخرى وفيها اخرج جميل بشير العود من دوره التقليدي كمرافق للمطربين الى آلة يمكن ان يكون لها دور في عزف الكونشرتو شأنه شأن الآلات الاخرى كالكمان والبيانو. يتميز المنهج الموسيقي لدى جميل بشير بكونه تمثل الاساليب التي سبقته وهو اسلوب يبتعد عن اسلوب الاقتباس او المحاكاة الفجة اذ هو يتعامل مع المعطى المعرفي للافكار الموسيقية باعتباره تراكما وجدانيا ينحا باتجاه تشييد بنى معمارية تكون الهيمنة فيها لروح العازف التي تقوده الى ذرى اللامتوقع بموازاة قدرته على تطويع تقنيات العزف المبهر. ان جميل بشير هو الامتداد الزمني لمدرسة الشريف محيي الدين حيدر وهذا يعني ان المنجز الاول المكتمل والمفتوح على امكانيات الاضافة اللاحقة وجد في فكر جميل بشير ما يجعله اكثر قدرة على خلق توازنات وانشاءات جديدة اعطته صفة الديمومة اذ لو لا هذا الفهم الجديد لكان لمنجز الشريف محيي الدين حيدر ان يبقى اسير شكلانية لا تلامس نبض الواقع الذي يلح على انتاج حاجات جديدة. في اعادة التراث الغنائي والموسيقي العراقي يذكرنا جميل بشير بالموسيقي الهنكاري بيلا بارتوك الذي حاول اعادة صياغة الاعمال الشعبية لبلده واعطائها صفة التأثير. وفي هذا الاتجاه قام جميل بشير بتنويط مقام الرست في خطوة جريئة لا يقترب منها اكثر الموسيقيين جسارة وكذلك قام بتنويط بعض الاعمال التراثية وعزفها بطريقة مبتكرة. من الخصائص الكبرى في موسيقى جميل بشير انه لم يضح باللحظة الراهنة التجديدية لحساب تاريخ غير واضح المعالم، لقد استوعب جميل بشير المنجز الحديث من دون ان يفقد ملامح شخصيته بل على العكس كان ثمة حوار مستمر بين لحظتين زمنيتين استطاع بمهارة عالية ان يلجم تضادهما التاريخي. ان التجديدات التي جاء بها جميل بشير تجيء دائما من رغبة في اضافة لمسة شعرية لما هو سائد ولهذا يتبلور العمل الجديد بنسق معماري مغاير للمألوف الذي ينشط في ذاكرتناولكنه مع ذلك جزء من استمراره التاريخي قال الباحث الفرنسي (جان كلود شابرييه) عن جميل بشير: (كان يستطيع ان يجعل ادنى الناس يبكي او يفرح وكان عازفا فذا ومدرسا عالي الكفاءة). اذا كان عود زرياب يتميز بانه اخف وزنا من عود استاذه اسحاق الموصلي كما قيل لهارون الرشيد ـ فان عود جميل بشير الذي اهداه له الشريف محيي الدين حيدر الذي صنعه (الاسطة) علي العواد كان غاية في الاتقان الامر الذي جعل من ادارة متحف اللوفر في فرنسا تطلب عرضه في احدى قاعاتها، الامر الذي رفضته عائلة جميل بشير التي ابدت رغبتها في عرضه في المتحف العراقي. كان لجميل بشير دورمهم في بلورة الخط الفني الجديد لناظم الغزالي الذي وجد في الرؤية المبتكرة لجميل بشير انجازا يمكن ان يبلور من خلالها اتجاها حداثويا في الغناء العراقي المغرق في تقليديته وسيكون لهذا التأثير بعض من الفهم عندما نعلم ان جميل بشير كان يتمتع بصوت عذب. يوم 27 / 9 / 1977 في لندن رحل عن عالم العود جميل بشير ملتحقا بعالم اشد موسيقية من عالمنا المليء بالبغض والحسد اقول ذلك وفي ذاكرتي عندما كنت طالبا في معهد الدراسات الموسيقية لحظة معرفة نبأ رحيله بعض المعلومات غير المعلنة عن بعض التفاصيل لخلاف بين جميل بشير وبين المسؤول الاول عن الموسيقى آنذاك. هل كان جميل زرياباً بغدادياً آخر يغادر شواطىء دجلة وليلها المتخم بنجوم الألفة حتى لا يوجعه سيف (بروتس) هذا السيف الذي أدمن الولوج في لحم الابداع العراقي وما زال يشهر بؤسه وقبح مقاصده.
|