علوان العلوان :طقوس النحت وتشفيراته

المقاله تحت باب  مقالات فنيه
في 
01/12/2008 06:00 AM
GMT



 
     إذا لم يتخل المثّال عن نحت الجسد، وبضمنه الوجه، فلا مناص انه سيجد في التجريد، وعمليات الاختزال، والتشفير، طريقا ً له. بيد أن علوان العلوان(1962ـ بغداد) تمسك بأصول فنية واكبت نشوء [ البيت ـ المعبد ]. فلم يتخل عن تلمس أبعاد الوجود كمجسمات، وفي الوقت ذاته، كعلامات تروي ما تريد خارج مفهوم السرد. فإذا كان ( المقدس)  القديم بمثابة مركز: الكتلة وصلتها بالفضاء، فان النحت غدا أكثر صلة بالعادات المجتمعية الأخذة بالاعتراف. فلم  يغادر النحت بمختلف مناهجه، العادات الشعبية، حتى عندما ازداد انحيازا ً للنخبة.

     ففي منحوتات العلوان، تنصيصات لم تهمل، ظاهرياتها، في الغالب، ولكننها، بما قصده النحات بفعل عمله المتواصل، اكتسبت أسلوبها، أو علاقتها بما قصده النحات، وربما مكث يمثل حضور النحت إلى جانب ذاكرة المكان.

     فالنحات لم يتخل عن نحت نماذجه باختزال مناسب: فهناك شخصان:  امرأة ورجل، يفرضان حضورهما في أعماله. بيد انه لم يتخل عن نحت الشخص الواحد، تلبية لأساطير لم تفقد لذّة سردها. هذا الشخص، ذاته، سينشطر. انه سيغدو حركة قد اختزلت إلى ما يدل على التشخيص: حركة تتضمن مغزى التشذيب: الترميز. ولكن العلاقة بين المباشر والمجرد ستبقى تصوّر حركتها بما تضمنته من تأملات وأفكار.

     هذه الخلاصة ستسمح للنحات بمعالجات منحت فن النحت قدرة الاحتفاظ ببذور الفن البكر: الإنسان وقد غدا رمزا ً لوحدته( عزلته ) ورمزا ً لديناميته، إلى جانب ما لا يستطيع البوح به، إلا في حدود الاختزال.

     فالشخص ( الإنسان المجسم ـ الفكر ـ الجسد ) يبقى، كالذرة، وحدة للقياس والمعرفة: انه الذات في علاقاتها المتعددة والشائكة بالمحيط الخارجي، وبالآخرين أيضا ً. فلم يسمح للاختزال بالذهاب إلى ذروته: التجريد المطلق، والتخلي عن ذهنية مغذاة بتاريخها السحري والشعبي.

    فالعلاقة بين [الجسدين] ليست علاقة خصب، أو بحث فحسب، بل تأخذ حتمية مغزاها الواقعي ببساطة. فالنحات لم يسمح للمؤثرات المعاصرة، إلا بالتمسك بذاكرة المجسم، وإبعاده، وشفراته. فهو لا يسرد، أو يروي، ولا يحكي، بل ترك الرموز تتداخل بما تريد أن تكونه. فهي شديدة الاتصال بمكوناتها: ماضيها الفني، إضافة إلى حاضر النحت في العراق. فالنحات اتخذ من مجسماته طقوساً، ولكن بوظائف جمالية. وفي هذه العملية(الطقوسية) لم يهمل مفهوم التجريب، بل أكده في الغالب: فهناك استعراض للمكان: سلالم.. وأقدام.. ووجوه. كلها وسعّت من معان النحت، كعلاقة مشفرة تخص الكيان أو الكتلة: الذات وقد سمحت لحضورها بتنويعات في الحركة، والأشكال. ذلك ـ بفعل التجريب ـ لم يغلق حيوية استقصاء التنويعات وصلتها بالكائن: وقد كف أن يكون منغلقا ً. يضاف لهذا الانشغال، عفوية تركت الأصابع ـ كما عند الرحال وجواد سليم وطالب مكي والترك مثلا ً ـ تؤدي عملها، في حدود حرية الأشكال، وما تضمنته من وحدة بين التشخيص والمختزل في الكتلة النحتية.

     بيد أن تنصيصات علوان العلوان، ستؤكد أن التجريب ـ في سياق تنويعات الحداثة وتعددية الأساليب ـ لا يذهب  ابعد من قواعد حافظ عليها النحت العراقي القديم، إلى جانب انجازات أساتذة تضافرت لديهم عوامل التحديث، ومغزى فلسفة النحت بعيدا ً عن الاستهلاك واشتغالاته المعقدة.  فالنحات يرجعنا ـ كما عند الرواد ـ إلى جذور العلاقة بين المخفي والظاهر: فالشاخص لم يعد علامة ميت، بل علامة بين فضاء ومخفيات، وهي التي تعيد للذات تتابعها بالخامات الأكثر مقاومة للتفتت والزوال. وقد تجتمع الفنون القديمة، منذ النحت المصري القديم حتى جايكومتي،بخاصية الذكرى، لكن النحت العراقي، لم يتطرف بدفعها إلى التجريد ـ والمثالية ـ : أو، للانشغالات الذهنية. فمكث يعالج مفهوم الذكرى بتقاليد وعادات المعبد القديم وثوابته: المركز. وعلوان العلوان، بشعور عفوي وبآليات بحث متواصلة، منحه التجريب ذاته هذا الدافع: الحفاظ على الشكل البشري، بعد عمليات الاختزال حد الرمز. وفي جانب آخر، فان علوان العلوان حافظ على ضرب من (العذرية) ـ في سياق عمل وراثة النحت وتشفيراته: فالرهافة مكثت بعيدة عن الدافع الجمالي ـ ألتزييني. فمجسماته لا تمجد ترفا ً وإنما انشغلت بصياغة تأملاته في حدود تقاليد الماضي وتحديثاته المعاصرة. وأعماله النحتية، بما تضمنته من ذاكرة للأشكال والرموز، حافظت على مغزاها في البناء: انه يستعيد مفهوم الصعود إلى الأعلى، وليس الدوران ـ أي عدم الاكتفاء بالمنظور التقليدي ـ حيث يتنافى النحت مع المحرمات، ويغدو، في هذا السياق، كتماثيل الأسس: ذاكرة لا تقبل المحو، وفي ذات الوقت: مخيال مشفر بقوة تهذيباته  وتدشيناته المعاصرة.
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* عضو رابطة نقاد الفن [ الايكا]
• النحات في سطور
•  ولد في بغداد عام 1962/ بكالوريوس فنون جميلةـ بغداد/ شارك في عدد من المعارض الجماعية داخل العراق وخارجه.