المقاله تحت باب سينما و مسرح في
28/04/2009 06:00 AM GMT
على الرغم من العدد القليل من الأفلام الخليجية المثيرة للنقاش النقدي، بدا «مهرجان الخليج السينمائي»، في دورته الثانية المنعقدة في إمارة دبي بين التاسع والخامس عشر من نيسان الجاري، الحيّز الثقافي/ الفني الوحيد، الذي يمنح تحقيق الأفلام البصرية في دول مجلس التعاون الخليجي فرصة التواصل مع جمهور متواضع، يغلب عليه الضيوف المدعوون من أرجاء مختلفة من العالم. ولأن المهرجان المذكور، المنطلق في العام الفائت كامتداد طبيعي لـ«مسابقة أفلام من الإمارات»، التي أسّسها الإماراتي مسعود أمر الله آل علي (مدير المهرجان الخليجي) في إمارة أبو ظبي («المجمّع الثقافي» سابقاً) في مطلع الألفية الثالثة هذه؛ بدا المشهد الخليجي واضحاً في طرح أسئلة الإبداع البصري الطالع من البيئة الجغرافية والحضارية والثقافية الخليجية، وعلاقة هذا الإبداع بالمحيطين الاجتماعي والإنساني في تلك المنطقة، ومدى قدرة المجتمعات الخليجية على صناعة الصورة، من دون المسّ بالتقاليد الحياتية المتحكّمة بها. شكّلت الأفلام القليلة تلك مساحة متواضعة للإبداع، معلنة أن صناعة الصورة محتاجة إلى عوامل متفرّقة يُمكنها، عند تضافرها، أن تؤدّي إلى الطريق الصحيحة لهذا الإبداع. فالطموحات الشبابية، المعطوفة على حماسة وحيوية لافتتين للنظر لدى عدد من الشباب الخليجيين إزاء السينما وطقوسها وعوالمها وثقافتها، ركيزة فاعلة في حثّ هؤلاء على تطوير أدواتهم ووعيهم المعرفي، وعلى تهذيب ثقافتهم البصرية واشتغالهم الميداني. والإمكانيات المالية متوفّرة، ليس لأن دول الخليج العربي «ثرية» (الأنظمة/ العائلات الحاكمة هي الثرية، وليس المجتمعات والناس)، بل لأن الحصول على ميزانيات متواضعة سهلٌ، ما يسمح بإنجاز أفلام بسيطة وجميلة في آن واحد، إذ إن الإبداع الحقيقي لا يحتاج، بالضرورة، إلى ميزانيات طائلة، بل إلى مخيّلة حيوية، قادرة على ابتكار فيلم سينمائي متواضع للغاية، بمضمون جدّي ومعالجة سليمة واشتغال فني سوي، إذا انبثقت هذه كلّها من حبّ عميق للصورة، ومن رغبة أكيدة في القول الفني، ومن التعاطي الجدّي مع شؤون الفن والثقافة، بعيداً عن التصنّع والمظاهر البرّاقة للاحتفالات السينمائية الدولية، التي يطمح إليها شباب خليجيون وعرب سريعاً، فور إنجازهم «الفيلم الأول» لهم.
تعاون غربي في المقابل، هناك شباب خليجيون أدركوا كيفية الاستفادة من أي دعم مالي أو تقني أو فني يأتيهم من مؤسّسات أوروبية متفرّقة، فأنجزوا أفلاماً عكست شيئاً من براعة المخيّلة في كتابة نصّ والاشتغال الإخراجي عليه، على الرغم من أن هذه الأفلام تحتمل نقاشاً يطال المضمون والأشكال البصرية معاً. ذلك أن حيوية العمل الفني كامنة، في جانب منها، في مدى قدرة الشاب العربي المقيم في أوروبا على استيعاب الاختبارات التقنية والجمالية والثقافية الغربية، والاستعانة بها في إنجازه عملاً مستلاً من الواقع الإنساني العام (في السياسة والاجتماع والحياة اليومية وشتّى أمور العيش) الخاصّ ببلده وبيئته المحلية وأفق علاقته بالمحيط العربي. وعلى الرغم من أهمية هذه المسألة، فإن الأمثلة قليلة جداً، للأسف، في لائحة الأفلام المُشاركة في الدورة الثانية لـ«مهرجان الخليج السينمائي»، تحديداً. هناك فيلمان عراقيان، أُنتجا بدعم أوروبي، مالي وتقني، يُمكن اعتبارهما مثلين أساسيين في هذا المجال، إلى جانب فيلم إماراتي ارتكز على إنتاج مجموعة تلفزيونية عربية في قراءته حالات إنسانية عامة. الفيلمان العراقيان هما: الروائي الطويل «فجر العالم» لعباس فاضل (العراق/ فرنسا، 2008) والروائي القصير «أرض الرافدين» لفنار أحمد (الدانمارك، 2008). والفيلم الإماراتي هو الروائي الطويل الأول لنواف الجناحي، بعنوان «الدائرة» (الكويت/ الإمارات العربية المتحدة، 2009، مع مشاركة إنتاجية من مجموعة «أم بي سي»). إذا تغاضى المُشاهد عن هنات تاريخية وجغرافية وقع فيها عباس فاضل في إنجازه فيلمه الروائي الطويل الأول «فجر العالم»، فإن أموراً سينمائية عدّة تستحقّ النقاش، لتمكّنها من شروطها الفنية والتقنية. فالتصوير (جيل بورت) متقن، إضاءة وألواناً وظلالاً؛ والتوليف (سيلفي غادمي) مسهّل بصري لابتكار التسلسل المشهديّ في سرد الأحداث؛ والجمالية البصرية واضحة في اختراقها الذات ومشاعرها وسط الحرب والخراب والموت والألم. في المقابل، بدا التمثيل عائقاً أساسياً أمام اكتمال العمل الإبداعي. فإذا تجاوز المرء مسألة التعاون القائم بين عباس فاضل وممثلين غير عراقيين (خصوصاً في الأدوار الرئيسة) يُفترض بهم أن يتكلّموا بلكنة منطقة الأهوار العراقية (الفلسطينية هيام عبّاس واللبناني كريم صالح والتونسية حفصية حرزي)، فإن الأداء الضائع بين بطء غير محتمل وميل إلى الاستعانة المنقوصة بالتقنية المسرحية المُسقطة على المشهد السينمائي، عاملٌ سلبيٌ لافتقاره إلى وضوح الرؤية والتصميم الأساسي للشخصيات. أما الجغرافيا (شيّد فاضل منطقة الأهوار في إحدى القرى المصرية، واستعان بالقاهرة بديلاً من بغداد) وارتباطها باللحظة التاريخية، فواقعة في الخطأ، لأن الأهوار جُفّفت قبل اندلاع حرب الخليج الأولى في مطلع التسعينيات الفائتة (فترة أحداث الفيلم)، والمنطقة نفسها لم تكن «ساحة» حرب في تلك المرحلة، كما أوهم الفيلم مشاهديه.
الحرفية حمّل عباس فاضل النظام العراقي السابق مسؤولية الانهيار التام، لأنه توغّل في العلاقة التصادمية الدائمة بين المواطنين ونظام صدام حسين، المشهور بالقمع والإبادة. أراد أن يُخفّف وطأة الألم، فابتكر قصّة حب بين جندي وشابة، وسط الانهيارات القاتلة التي تعرّض لها أبناء تلك المنطقة جرّاء الحروب والبطش والقهر. استعان بنسق هادئ في صناعة المشاهد، لإخفاء قوّة التوتر والغضب والغليان المعتملة كلّها في الذات والعلاقات والبيئة. مع هذا، لم تتحوّل جمالية التصوير والمناخ الإنساني العام إلى السياق الدرامي والشخصيات والممثلين، فبدت الهوّة سحيقة بين هذه الجمالية وذاك النقصان الواضح في البنية الحكائية والأداء التمثيلي ورسم الشخصيات وانفعالاتها وعلاقاتها. في المقابل، أنقذ فنار أحمد فيلمه القصير «أرض الرافدين» من شوائب العمل الروائي الطويل الأول، معتمداً على فريق دانماركي ترجم له، بالصوَر والتقنيات، رؤيته المتشائمة لمستقبل العراق. فهو، بانتقائه المناخ العام لـ«أندرغراوند» أمير كوستوريتزا مثلاً (سطوة رجل واحد على مجموعة من الناجين من حرب ما، وإغلاق المنافذ كلّها التي تؤدّي إلى الخارج، بل إلى ما يحدث «فوقهم» على الأرض)، برع في التحرّر من الجماليات المتفرّقة للفيلم البوسني، لأنه تمرّغ في الشأن العراقي البحت، الذاهب بناسه إلى الجنون والهذيان والتمزّق والفوضى والعفن الذاتي. وهو، باستعانته بالتقنيات الدانماركية في إنجازه صورة سينمائية شفّافة وقاسية، منح حبكته الدرامية أبعادها الإنسانية والفنية والجمالية المطلوبة. ثم إنه تعاون مع سيناريست آخر (جاكوب كاتز) لكتابة النصّ السينمائي، بدلاً من الادّعاء ببراعة الكتابة، ما يُعرّض العمل لتشويه ما. في حين أن «كثرة» الأسماء الغربية في لائحة الفريق التقني قد تدفع المُشاهد، أمام قوة الجمالية البصرية، إلى التساؤل عن الدور الفعلي لفنار أحمد، الشاب المقيم في الدانمارك منذ العام 1986. مع هذا، لا يُمكن التغاضي عن أهمية «أرض الرافدين»، صورة ومونتاجاً ومعالجة درامية وإدارة ممثلين وشخصيات وحبكة مصنوعة كي تكون فيلماً قصيراً أعلن، ببساطة، ولادة مخرج موهوب. من جهته، قدّم نواف الجناحي فيلمه الروائي الطويل الأول «الدائرة»، الذي حافظ على نسق سينمائي يشي بوجود مخيّلة واعية وحرفية متواضعة في صناعة الصورة المتحرّكة، قابلة لتطوير نفسها. ارتكز المخرج على اختبارات تجريبية سابقة في أفلامه القصيرة («على الطريق» و«أرواح» و«مرايا الصمت»)، لكنه سلك درباً مغايراً في إنجاز الروائي الطويل هذا، إذ رسم ملامح إنسانية مفتّتة بسبب الخراب المجتمعي/ الإنساني، ومرتبكة جرّاء الانهيار النفسي، وقلقة نتيجة التمزّق الروحي. اختار الليل زمناً شبه دائم لمسار أحداث متداخلة في ما بينها، وانتقى شخصيات بعضها واقعٌ في البؤس والانكسار والخيبة، وبعضها الآخر منشغلٌ بوهم الحياة والحبّ. جعل الصورة انعكاساً للنزاع النفسي، ومنح العلاقات القائمة بين أصناف متناقضة من الناس تشكيلاً نوعياً للواقع والتفاصيل المتشابكة بين الجريمة والحبّ والفساد والقتل والشقاء. فالأصدقاء الثلاثة ينفّذون أعمالاً قذرة لرئيس عصابة، والصحافي المتحوّل إلى عالم المال والأعمال مصاب بمرض قاتل لا يقلّ قسوة عن مرض المجتمع المتمثّل بخيانة شريكه السارق. أحد هؤلاء الأصدقاء مهموم بشقيقته، والصحافي عاشق لزوجته، والصدفة تجمعهما، والنسق الإخراجي يجعل رحلتهما إلى النهاية مشوّقة، وإن احتاج الفيلم إلى بعض التشذيب من هنات قليلة، كعدم الانتباه إلى تفاصيل صغيرة بدت واضحة في عدم تناسقها والمشاهد.
منافي العراق في الجانب الوثائقي، برزت أفلامٌ عراقية عدّة، إلى درجة أن البعض وصف الدورة الثانية لـ«مهرجان الخليج السينمائي» بالدورة العراقية البحتة. ميسون باجـــه جي رافقت مسار دورة تدريبية خاصّة بالتصوير الفوتوغـرافي، أقيمت في دمشق مع نساء عراقيات، في فيلمها الجـديد «عدسات مفتوحة في العراق». ظلّ التصوير الفوتــوغرافي ركــيزة ثابتة لحكايات أولئك النسوة القادمات من الجنون العراقي الناتج من الاحتلال والذكريات الدموية والفلتـان الأمني؛ إذ بدت ورشة العمل هذه وسيلة بوح إنسـاني قاس وشفّاف، جعل النسوة منطلقات في رواية قصصــهنّ وتوثيـقها بالصورة الفوتوغرافية والنصّ المكتوب. هذه التجارب الفردية القابلة لأن تكون مرايا البيئة والجماعة والحكايات الأخرى، من دون أن تُسقط حقّ الفرد في سرد حكايته الخاصّة، تحوّلت إلى سيرة عائلة رواها العراقي قاسم عبد في «حياة ما بعد السقوط»، عندما روى بالصورة التوثيقية عودته إلى عائلته في العراق بعد أعوام طويلة أمضاها في المنفى البريطاني. كأن العودة منطلق لإعادة رسم الملامح الإنسانية لواقع مدمّر، إذ جعل عبد آلته التصويرية نافذة للإطلالة الذاتية على الوجع الجماعي، من خلال أفراد عائلته جميعهم. والمنافي العراقية حاضرة في فيلمين وثائقيين آخرين: «جبر ألوان» لقيس الزبيدي (مقيم في ألمانيا)، و«عكس الضوء» لقتيبة الجنابي (مقيم في بريطانيا). غير أن هذه المنافي ليست حكراً على المخرجين العراقيين جميعهم، المذكورين أعلاه، فقط، لأن فنانين عراقيين اثنين اختارهما الزبيدي والجنابي يقيمان في المهجر/ المنفى أيضاً: الأول جبر علوان (روما) والثاني محمد صبري (براغ). إذا اقترب الزبيدي من السيرة الذاتية والفنية لجبر علوان، مطارداً إياه في الشوارع والمحترف والعلاقات الاجتماعية والمعارض الفردية، ومتحدّثاً معه عن اللون والصورة والذاكرة والآنيّ؛ فإن الجنابي، المبدع في التقاط الصورة (السينمائية والفوتوغرافية على حدّ سواء)، اكتفى بجعل الصورة نفسها لغة وحواراً وإشارات.
|