عزوفها هذا، كان حالة تشبه الغياب، أمر لا بد له أن يصل إلى ضفة النهاية، متخليا عن كل بداية جديدة، أي كان الوعد الذي يتطلع إليه.

امرأة لم تعد لها قدرة ارتياد الخيال والقدوم منه حاملة في قلبها قصصاً لا تصدق، عن عالم عجائبي هي وحدها من تفردت دون نساء الأرض بابتكاره. لقد حدث ذلك مرة واحدة وللأبد. ولكن يبقى عزاؤها في كونها عاشت بهناء ة في التاريخ كأفضل من روى الحكايا.

سيدة ضاعفها الخيال، مرة حينما أوجدها ومرة ثانية حينما أوجدت حضورها بذريعة أنها كائن متخيل قادر على الإتيان بأي شيء. لقد مارست فعلا يخص جوهرها الاستثنائي كأنثى، وهو الكلام، فالطبيعة لا تقدر أن تلبث صامتة بمفردها تعيش كثافة الوحدة، فيما الحكي مشاركة، اكتشاف ما يُجهل، في أن تغدو المعرفة معه التقاء، وليس هناك أكثر من المرأة من يدّل على تلك الأسرار.

ما الذي فعلته 'شهرزاد' !!.. قامت بسرد روايات متخيلة، دونما نهاية. فهي كانت تعلم أن حياة دونما دهشة أشبه بوجود لم يكتمل بعد. حتى وان تطلب الأمر إشغال ملك كان يتزوج كل ليلة بإحدى العذارى ليقتلها بعد ذلك فجرا، عبر التواصل بسرد قصص في ليالي تالية كي تعيش، وما كان من 'شهريار' إلا أن يستمع لها، مأخوذا ومتغافلا عن رهانه المشؤوم بالقتل.

وحدها ' شهرزاد' من احتفظت بخيال لم يرجئ وعد ملك بل أبطله. كانت أدرى بصناعة نهايات سعيدة، بعد أن قايضت الحياة بالكلام وأجّلت نهايتها، إذ ليس بمقدور احد سواها أن يحكي كي ينتصر أو يقترح بداية جديدة للخلاص. يكفي

انها عاشت في عالم كان رئيفا بالعارفين.

لا شك أن مقدمة كهذه قد تصدق في الأدب وربما يجعلها التاريخ أمثولة لأحداثه، ولكن في الفن لا يعوّل عليها كثيرا،كونه مهنة لا تنتهي إليها الحوادث والموضوعات بل على العكس تبدأ منه، كما أن الفن أيضا لا يستسيغ التوقعات، بل يعمل خارجها، حتى في مجالاته الأكثر عيانية، مثل مجال النحت، الذي لا يستطيع الايمان بكلام يغيب في اللغة، قدر ما يؤثر معاني يتمثلها في أشكال صلبة تسعى للبقاء في المكان. النحت فن يتجنب توصيف الحكايا، لكنه يثق بالمادة لإبقاء فعل التعبير خالدا، وهو مكرس ليدوم زمنا أطول من التاريخ. تصور كهذا، أدركه النحات 'محمد غني حكمت'، حين أراد أن يعمل نصب 'شهرزاد وشهريار'، حيث كان عليه الاهتمام بتدابير أخرى، ومنها، عدم الاحتفاء بعلاقات الخطاب، وإنما السعي إلى ابتكار نموذج لا يعبر عن القول بل عن القائل. فانشغالات النحات ليست كانشغالات السارد وهو الأمر الذي فعله بامتياز.

النحات 'حكمت' لم يبق 'شهرزاد' شائهة في خيال الليالي تحكي وتتمنع، قدر ما أراد لها الهجرة خارج حكايتها، والخروج من جميع الليالي الالف وليلة التي سكنتها. ليبقيها أبدا في الليلة الأولى، عند بدايات ذلك الزمن الذي شرعت فيه أن تكون نساجة وحيدة لفطنة الحكايات وحكمة الخيال. أن تبقى موضوعا تتجلى فيه العزلة، يصف امرأة اختارت لوجودها مغامرة لا تتكرر، مرة بذريعة افتراضها في التاريخ وأخرى لكونها حاضرة في خيال فنان.

مفارقة أوجدت مصيرا جديدا لها، هو خلاصة ذلك الفارق بين الفن والتاريخ. فالأول يكتشف الذرائع فيما الثاني يسوّغها. نصب 'شهرزاد وشهريار' امتيازه حكاية تم التعبير عنها بالنحت، فكل قول قابل على النسيان إلا المرئي الذي يبقى شاخصا كي يذكّر.

إلا أن الذرائع لا تحضر على هواها ولا تجد نفسها دونما أسباب، فلا بد من غواية ما تأتي بها، وليس أكثر من 'شهرزاد' من فعل ذلك. ألم تغو 'شهريار' ملك الهند والصين، وحتى العالم منذ عدة قرون؟ هكذا يحدثنا 'ألف ليلة وليلة'، كتاب لم يعرف مؤلفه كما لم تعرف صياغة واحدة عنه.
كيف الأمر إذن بنحات عاش في صوب 'الكرخ'، مكان كان فضاؤه العجائبي بعض مادة تلك الحكايا وذاكرتها معا؟

حتى مدة زمنية قادمة، وربما طويلة، نبقى نعاين العديد من أعمال النحات 'محمد غني حكمت'، وخاصة محفوراته من الأبواب الخشبية وتلك النصب التي أوجدها من عناوين حكايات ألف ليلة وليلة، نصب كهرمانة، شهريار وشهرزاد، السندباد البحري، وغيرها شاخصة في بغداد، بوصفها، اعادة ابتكار حكاية من قبل نحات لا يثق بتحولات الأسلوب ولكن بخاصية الموهبة، التي تنجز منحوتات تحتكم إلى مخيلة تأصلت في المكان الذي تأصل بدوره في الذاكرة.

ولكن حتى إجراءات النحات لا تخلو أيضا من الحكايات. لا يعلم الكثير أن النحات 'محمد غني حكمت قد حطّم' تمثال 'شهريار' بالمطارق مع مساعديه بعد إنجازه للمرة الأولى، وكاد هذا الفعل أن يكلّفه سحب العمل منه وتغريمه مبلغا أكثر مما تعاقد عليه ثمنا للنصب، لتأخره عن المدة الزمنية المقررة لإنهائه. لقد كان دافع عدم الرضا يبدأ حين يحدق إلى ما صنعت يداه. لم يكن واثقا من جلسة 'شهريار'، كونه لم يشاهد أو يعرف كيف يجلس الملوك وهم يصغون للقصص في ذلك الزمن القديم. وهو الأمر الظاهر في تكوين النصب، حينما أبعد 'شهريار' قريبا عن 'شهرزاد'، وأجلسه مسترخيا على مصطبة تليق بالحدائق العامة ولكنها لا تصلح لجلسة الملوك، لقد أبقاه في وضع لا يكترث بوجوده، مأخوذا ومن دون تطلبّات، كما لم يبد مهتما بما تفعله 'شهرزاد' أمامه، وهو ينظر حتى إليها، وكأنه منشغل برهان خاسر، جعله أخيرا أحد الأسباب الغفلة لحكاياتها.

فيما 'شهرزاد' واقفة بنعومة، تتجلى فيها رقة امرأة تصغي لعطايا حكاياتها السابقة. وبعد أن توارت عن حضور قديم لأجل وجود جديد تمثله خيال نحات بغدادي. إنها الآن صنيعة فارق بين النحت والرواية، تحقق بأثر أسلوب فنان وليس بذريعة خصوبة الكلام.

أنجز نصب 'شهرزاد وشهريار' في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وهو شاخص في احدى حدائق شارع 'أبو نواس' المحاذي لنهر دجلة في الجانب الشرقي من الحاضرة التاريخية 'بغداد'.
وبخلاف أعمال نحتية ونصب تعرضت للتدمير والتخريب بعد الاحتلال الأمريكي إضافة إلى نهب المجموعة المتحفية في مركز الفنون، بقي هذا النصب شاخصا مطلا من صوب الرصافة على ما أطلق عليه منذ عام 2003 بـ 'المنطقة الخضراء. مفارقة أكيدة، فعبر نهر دجلة، وعلى بعد مئات معدودة من الأمتار، كانت آلاف الأطنان من القنابل ترمى يوميا على هذا المكان، ولكن يبدو أن 'شهرزاد' مصرة على الوجود حتى ولو بحضور آخر، لقد نجت ثانية من موت محتم، ولكن هذه المرة بأسباب صمتها وامتناعها عن الكلام.
لا شك ان شهرزاد تشهد لـ 'بغداد' منذ ذلك التاريخ حياة غريبة عنها، مدينة لا يبدو فيها من يرغب أن تسمى بـ 'دار السلام'، لقد تمت تهيئتها منذ عقود كي تكون 'دار حرب' وانتهت كي تكون مدينة محتلة. وباتت حاضرة لا يمكن الحديث عنها باسترخاء مثل أي من المدن الخالدة. وهي الآن شبه غائبة عن الحياة، جريحة تماما ومباحة، للمحتل كما للقتلة، للسياسيين كما للأغبياء، للغرباء كما للقرويين . لا سور يحميها . مدينة تنازع عليها التاريخ سابقا وفي الحاضر تنازعتها السياسة. فيما تمّ حرقها مرتين، وسكنها الغزاة كثيرا، إلا أنها رغم ذلك ما زالت تحاول البقاء على طريقتها التي لا توصف.

علينا الانتظار، وعلينا التوقع، وعلينا أن نعرف أيضا من انها ما عادت تلك التي أسكنت مرة نفسها على حافة الخيال، وانتقلت في المعاني والقصائد والحوادث والحكمة، وتقربت من ضفة المجهول قليلا.

لا تعيش 'شهرزاد' اليوم، كجميع نساء بغداد، أياماً سعيدة، ليس لأن خيبة حياة لازمتها بأسباب أحداث عارضة، ولكن لأن موتا خاصا كان قريبا منها وحدها تعلم هول ما فعل بها، موتا بارعا كأي صناعة أمريكية. .!.

أتمثل 'بغداد' كما 'شهرزاد'، مطاردتين من قبل العزلة ومن ذكريات لا تخلو من التعاسة والوحشة والمشقة. فالمدينة كنظيرتها المرأة، تذوي بعد أن ُتسرق أحلامها، وتصبح قليلة البوح، بل لا تجرؤ حتى على الكلام وكأنها مسكونة بحكاية أخيرة تبقيها لنفسها لكونها لم تنته بعد.