قبل بغداد وبعدها ..عبد الكريم سعدون يرسم قلقه

المقاله تحت باب  محور النقد
في 
10/06/2009 06:00 AM
GMT




القلق الكتوم هو افضل تعبير عما يحمله الرسام عبد الكريم سعدون في الأعماق .. كما استبصره ..
فهو مثل رعاة الريح يحمل هم احلامه بقلق باد ..وتوتّر حميد
 يلاحق فراشة شوقه بيأس ومثابره عنيده  ،

 حتى ضحكته فأنها لا تخفي قلقه العميق وهو ممسك بنسق حياته ..حين يرسم وحين يعيش ..معارضه تلك التي ترك هوامشها في بغداد منذ  اكثر من عقد ومعرضه المهم الذي اقامه في غوتبورغ في السويد.. تطويحات في ازمنة الرب وقدريّته .

جسمه يمشي وروحه تتعذب وهو مصرّ على ضحكته مثل عيد معلن فيما يخفي اسئلته الموحشه  ..ذلك هو الرسام حين يتريث بألأمساك بشيء  يمكن ان يسميه الغد او يجعله  مرآة لحزنه
كانت اهوال روحه تثقل جسده وتجعل عيناه لاتستقران على مشهد رغم تلك البسمة المتواصله بكثير من الترقب الذي ينتسب اليه والى طبيعته وهو يشق شريان الوانه فوق افضية لوحته  .
وحين تحدثت اليه في شباط – فبراير 2009  كانت اخبار الميديا تحفر في روحه ..واخبار البلاد على الشاشات تثير قلقه وهو يحزم امره للسفر الى جنتنا التي اختصرت كل جحيم .. واذكر انني اقترحت عليه ان ينسى ..ويترك اشرطة اللغة على الشاشه ويمضي الى قلبه .. بغداد .

عبد الكريم سعدون- 1956 من جيل لايقبل النقد ان يحاور اعمالهم التشكيلية بروح النقد المدرسي .. تلك مهمة قاعات الدرس اما اعمال جيله الذي تكون وسط الحروب والقلق وهم الخلاص والغد فأن اعمالهم ..التي ولدت بين كتفي حجارة القسوة فهي تحكي تمردات الحداثه والخلاف والمغايره الحاده..
*
في مجموعة لوحاته الأخيرة تعبير حر عن قلقه ،
 خشب واكلريك وتوتر لايخون جسده ..يهرب اللون من انساقه الى اقفاص التضاد ليطلقها وكأن خامة الخشب قد اعطته حرية  ابدية للمسايرة والطاعة حيث يده المثقلة بقلق الرأس وحرارة الجسد. غيوم تتبخر .. وهو غير معني بتفتيت اشكاله ..كان هوسه في ان يفتت قلقه مثل حجر اسود ليقيم مسرّته  بألوان الآلهه الرافدينيه .. اللوحة هنا حمّالة تضادات ومشاعر متضاربه وحدوس لاتتوقف وكأني  اقترح على الرسام عبد الكريم سعدون ان يسمي مجموعته هذه : قلق ..
*
مثل باحث عن اصداف مستحيلة في الصحراء الغربيه يقطع الطريق الى بغداد مثقلا برائحة اللون ومختوما بجوهر التفتيت الذي اشتغل عليه في سلسلة لوحات مجنونه مثل غيوم تتبخر في فضاء وهو يمسك على حلم المدينة مثل تميمه .. يلتصق بها يرتعش ويبتكر للوحه نوافذ تخرج منها اشكاله وشخوصه .. وتجاربه المفاجئه وكأنه لم يمسك ريشته منذ عمر .. في لوحات قلقه وهو ذاهب الى هناك ينفخ في فم التاريخ ليحييه  وقد خرج للتو من جلباب الرب الى مدينته التي رآها على نحو مافعله على سطح اللوحه من تغيّر وفقدان ..يكتب في رسائله اليّ عن المدينه التي فاجأته : ( المفاجأة ان لون بغداد اوكر مصفر الغبار في كل مكان ..وفي الثمانينات كنت اعود من جبه القتال في البصره  كنت اتنفس الوان بغداد اما لآن فالدنيا معكوسه وكل شيء مختلف وكأننا دخلنا معسكرا كبيرا ..انتابتني غربه شديده )
*
الوانه مثل نرد يتقافز على خشبه جافّه  .. كل مساحاته السائبه تعبير عن تشتت يتقبله الرسم على انه انعكاس لعنف الأحساس  ..وحركة اليد لاتبدو مطواعه او مرنه بقدر ماهي ترمي تمتمات لونيه شارده مثل لغه بدائية تنثر مفردات صوتيه ..

الوطن الذي ذهب اليه  غيمه تائهه والرسام ملاك يحاول ان يتعرف على ابنائه في ظلام المكان ..تقول رسالته ..(بيت اهلي كما هو .. لكنهم شاخوبسرعه .. مكتبة العائله كما هي ..وجدت لوحه من معرضي لعام 92 ببغداد .. في جمعية التشكيليين نالتها آثار تفتيشات القوات الأمريكيه  ولا مجال لأصلاحها ..وجدت اربعة اعمال غرافيكيه لأسماعيل فتاح وتخطيطا لشاكر حسن  ولوحة لحسام عبد المحسن من اجمل البورتريهات  وزرت دار ثقافة الأطفال ومعهد الدراسات الموسيقيه  مكتبة الطفل مررت بالمتحف العراقي ولم اتوقف عنده اريد ان اشاهده معافى شاهدت عند الصاحية تمثال الملك فيصل الأول وقد شوهته لافته انتخابية خضراء انعطفت الى مقر الوزارة حيث التقيت رسامين اصدقاء وشاهدت معرضا لخمسين لوحه مسروقه ومستعاده ..اطلعت على مجلة تشكيل وقد احتفت بي  ضيفا وياللمصادفه حيث تنشر مع الموضوع العديد من لوحاتي ..انه احتفاء غير مخطط له ..) انه يلهث وراء التفاصيل وهو يكتبها لي كمن يطارد فراشة حلمه التائهه  ..يريد ان يتأكد ان جوهر المدينة الموحشة مايزال ملونا وان الأصفر والأوكر هما لونا التراب والريح والخراب ..وستزال آثارها لكن يتساءل رسامنا القلق ..هل بقيت حضارة اهل البلاد.. لذلك فأنه يبحث عن ملامح ثقافة البلاد لأنه يعرف كم هي اساسيه عندما تستعيد البلاد حريتها يوما ..
*
الكتابه عن اعمال عبد الكريم السعدون الأخيره مثل الكتابه عن افق لرغبه ضائعه .. الكتابه عن تشتت تقني وخفوت في درجة اللون وتفتيت لجوهر اللوحه كمن يبحث عن  جاذبيه ليستقر ويلغي قلق السنوات وقلق المكان الذي يحن اليه  .. هي صوره لقلقه .. وهباء لحظته وزوال رؤياه .. عنده حيث تختلط العاطفه بالخبرة  في شتات عجيب  كتب لي يقول  .. كنت مجنونا بعض الشئ عندما كنت مندفعا بحساب ان الاشياء طبيعية في بغداد..

يقول في رسالته لكنه رغم التفتيش الذي شمل كاميرته واشياءه  فأنه يركض ليحضر معرضا لنوري الرواي وحفلا تابينيا لغياب العلامه حسين  علي محفوظ ..وتمتلي رسائله باسماء واشخاص ومشاغل رسم ولقاءات ونوادي ..هي جزءمن رغبته الأولى لاستكمال لوحة المدينة – بغداد  التي احبها والتي اراد لها الكمال يوما  .. لكنه فتت كل عمل بين يديه ليعيد تشكيل حلم المدينة وحلمه التشكيلي المستحيل .. كمن يرسم قفا لوحته بقلق متواصل .. هو قلق الرسام  حين  يرسم نجمة ساقطه على قوس سماءه الغريبه ..