كتاب لموسى الخميسي:تشكيليون عراقيون على خرائط المنفى

المقاله تحت باب  محور النقد
في 
17/06/2009 06:00 AM
GMT



«ليس الفن التشكيلي هو الأهم، ولا الأكثر شعبية في عالم الثقافة. لكنّه في العراق الأكثر خصوصية، والأكثر حساسية ورقّة، وبالتأكيد الأغنى بين الفنون الأخرى التي لا تزال تحبو جميعاً لترسيخ مفاهيم وقيم جديدة، ولتأكيد احترام التعددية الفسيفسائية الثقافية والسياسية... كل ذلك في عراق متحضّر متخلّص للأبد من ثقافة الاستبداد والعنف للوصول إلى ثقافة الإبداع والتنوع». بهذه المقدمة المتفائلة بعض الشيء، يفتتح موسى الخميسي كتابه «تشكيليون عراقيون على خرائط المنفى» («دار المدى» ــــ دمشق). يبدأ الفنان والناقد العراقي كتابه بمقدمة تبيّن ذلك الهمّ الذي دفعه إلى بذل جهود خاصة، كي يضع القارئ أمام قدرات فنية إبداعية كانت لفترة طويلة مغيّبة من الإعلام العراقي والعربي بفعل التعتيم الذي كان يفرضه النظام السابق على كل معارضيه، رغم المنجز المهم الذي قدّمه الفنان العراقي في المنفى، حاصداً الكثير من الجوائز ومستحوذاً على اهتمام الإعلام الأوروبي.
خمسون فناناً عراقياً ضمّهم كتاب الخميسي، مخصصاً لكل منهم صفحة تعريفية، ثم ثلاث صفحات احتوت بعض أعماله مع سيرة ذاتية مقتضبة. إلا أنّ هذا العدد من الفنانين لا يمثّل سوى نسبة قليلة من تشكيليّي العراق، الموزعين على المنافي. لكنّ دار النشر أغفلت الإشارة إلى أنّ المجلد الذي بين يدينا ليس إلا الجزء الأول من مشروع أشمل وأوسع، علماً بأن مؤلفه يشير إلى ذلك في المقدمة: «في الجزء الأول من هذا المشروع، سأحاول رصد أكبر عدد ممكن من تجارب فنانينا التشكيليين العراقيين في المنفى وإبداعاتهم...».
أسماء وتجارب عراقية كبيرة تناولها الكتاب، مثل صلاح جياد الذي يُعد واحداً من المؤسسين لهوية أكاديمية متميزة في الفن العراقي المعاصر، من خلال جماعة الأكاديميين في منتصف السبعينيات بالاشتراك مع الفنان نعمان هادي الذي أجَّله الكاتب إلى الجزء المقبل، وفيصل لعيبي الذي بقي متمسكاً بالتراث والبيئة العراقية وصوَّر فيها أغلب زوايا الحياة، حتى باتت أعماله متحفاً عراقياً يؤرخ تاريخها.
ثم ينتقل الكتاب إلى عالم التجريد والتجريدية التعبيرية، من خلال فنانين منحوا هذه المدارس الفنية نكهة عراقية خاصة متكئين على دراستهم الأكاديمية في أعرق أكاديميات العالم مثل روما وباريس. بين هؤلاء نشير إلى آزاد نانكلي، وبهاء الدين أحمد، وكاظم الداخل، وعلي فنجان، وكاظم خليفة وغيرهم... وتتسع البانوراما التي يقترحها موسى الخميسي لخمس عراقيات تميّزن باهتمامهنّ الواضح بالعراق والذاكرة، ما جعلهنّ أكثر تمسكاً بالموروثات الشعبية والفنية العراقية. ويتضح هذا جلياً عبر الاطلاع على أعمال ناثرة آل كتاب التي تظهر اهتماماً بالخطّ والتصميم، وخبرة في فنّ السيراميك... وهناك عفيفة لعيبي، الحاصلة على درجة الماجستير في الفن الجداري من معهد «سوريكوف» في موسكو. وقد اتخذت من المرأة ثيمة فنية تدعو من خلالها إلى التحرر والانطلاق من قيود وموروثات طالما كبّلتها، مستخدمة الرموز والأشكال البابلية تارة، والرومانية والأوروبية طوراً. وكذلك نوال السعدون التي قدّمها الكتاب كتجريدية تعبيرية عنيفة. وأيضاً أمل بورتر...
كتاب «تشكيليون عراقيون على خرائط المنفى» لم يغفل فنّ الكاريكاتور. إذ يقدّم لنا بسّام فرج، أحد أشهر فنّاني الكاريكاتور في العراق. وقد احتلّت رسومه أشهر الصحف العراقية والعربية، وانتقد بسخرية فنّية لاذعة أهم الشخصيات السياسية والاجتماعية العامة في عصره.
وعلى الغلاف الأخير للكتاب، إشارة خجولة إلى أن مصمّمه هو الفنان جودت حسيب. لكنّ الغريب أنّ حسيب المعروف في مجال التصميم، جاء تصميمه لغلاف الكتاب بصورة لا تنسجم مع مضمون العمل وفكرته. فكيف بالأحرى أن الأمر يتعلّق بكتاب فنّي يؤرّخ لمحطات أساسيّة في حركة تشكيليّة هي بين الأغنى والأغزر عربيّاً، ويضم أكثر من 250 عملاً فنياً؟ هل يجوز أن يقدّم مشروع كهذا في مظهر مسطّح وبسيط، خال من أي لمحة إبداعيّة؟ السؤال توجّهنا به إلى المؤلف، فأوضح لنّا أنّه قدم إلى «دار المدى» تصميماً نفّذه الفنان العراقي جودت حسيب، يليق بمستوى فكرة الكتاب ومضمونه. لكن الدار رفضت التصميم بسبب تكاليفه المرتفعة. ونظراً إلى أن «دار المدى» تفكر منذ فترة في إقامة متحف فني عراقي في بغداد، فقد اشترطت مقابل طبعها الكتاب، أن يقدّم أو «يُهدي» كل فنان يضمّه الكتاب عملاً فنياً إلى الدار!
لن نذهب أبعد في التأويلات لنسأل إذا كان هذا الشرط يفسّر غياب العديد من الأسماء والتجارب المهمّة التي أغفلها الكتاب، وكان يفترض تناولها في الجزء الأول؟ إلا أن الخميسي لم يغفل بعض الفنانين الذين رحلوا تحت سماء المنفى الباردة، مثل أحمد الجاسم (أمير)، وزياد حيدر الذي توفي في هولندا عام 2006، وفايق حسين المتوفى في الولايات المتحدة الأميركية عام 2003.
ويبقى الكتاب، رغم ملاحظاتنا، متميزاً بغنى مادته الأرشيفيّة، وبتناوله تجارب فنية عراقية نمت وتطورت في شتّى المنافي... إضافة إلى الأسماء التي لا تنتمي ــــ وفق ظروف خروجها من العراق (وأسباب ذلك الخروج وزمنه) ــــ إلى موضوع المنفى العراقي وفكرته.