ألتفت ذات اليمين فيعلق بصري ببرج الكنيسة. حينذاك ألتفت ذات الشمال فتواجهني مئذنة جامع الخلفاء. كنت أتساءل: إذا قيِّض للمرء أن يفارق الحياة في تلك البقعة الطاهرة من الأرض، فهل تشعر الملائكة بالحيرة وهي ترغب في معرفة دين الميت؟ هل كان مسيحياً أم كان مسلماً؟ لو سألتني الملائكة لاقترحتُ عليها ان تقيس المسافة التي تفصل بين ذلك الشخص والبرج من جهة، وبينه وبين المئذنة من جهة أخرى. إلى أيّ الأرضين هو أقرب؟ ولكن هل يمكن قياس المسافة إلى السماء بالطريقة نفسها؟ قد تصنع الصدفة التي قادت ذلك الإنسان إلى الموت معجزة هي أشبه بخرافة كون المرء عراقيا. الصدفة وحدها هي التي تقرر مصيرنا إذاً. بعض الريح في أيدينا وبعض الريح في يدها. تتوزع الريح بيننا. مرّت كائنات بي، لم أركز عليها نظري، لم أحتف بها احتفاء لائقاً بما ستتركه عليَّ من أثر وعلى لساني من كلام. لم أكن أعرف ولم أكن أتوقع أن تلك الكائنات ستستيقظ من رقادها يوماً. أعرف أن جهلي لا يكفي لتبرير خواء عزيمتي. يومذاك كان العالم آخر. كان الوقت يمر بطيئاً. كانت الطرق تحلّق بنا وكان مزاج خطواتنا يرافق حبّات الرمّان وهي تملأ الأرض شبقاً، فيما كان لقلق وحيد لا يزال يقيم في برج تلك الكنيسة. الأب انستاس الكرملي لم يقرأ آخر الرسائل التي استقرت في صندوق بريده بعد موته. لا علاقة للكرملي بالرجل الذي مات لتوه. قادني عماد ذات مرة إلى غرفة جدّه خلسة، وهو خوري الكنيسة. كان الجد حينذاك ينصت إلى عذابات إحدى التقيات. لم يكن هناك في الغرفة سوى فراش قليل أُلقي على أرض مرتفعة وجدران عالية من الكتب، هي بعض ما تركه الأب الكرملي. كان المشهد مخيفا يلوّح بالعقاب. سيكون عليك أن تقرأ كل هذه الكتب إذا كنت لا تزال تتساءل عن دين ذلك الميت المجهول. الدين لله أما الوطن فإنه يشبه التمر: يذمّه خلق ويعبده خلق إن ذهب إلى خلاصته.
2
شغف نديم كوفي، وهو رسام عراقي نزح أبوه من الكوفة إلى بغداد، بحبّات الرمان سنوات طويلة. كان يحيل كل ما كان يرسمه على الالهام الذي تمارسه عليه تلك الحبات المتمردة أثناء النوم. كان يرى إليها بعيني قرينه النائم بسعادة. على المخدة أثرٌ من الأحمر القاني، شبيه بالدم لولا أني أعرف مصدره. كانت الرمانة لا تغفو وهي تنزف. الألم الذي يشقيها، ينصفها أيضا. ندم ساحر يقف في منتصف الطريق التي تفصل بين نديم كوفي ورمّانته، رافقه إلى المنافي. حكاية قديمة يستعيدها ذلك الرسّام كلما خلت الطرق من العابرين. خصّ القمر العراقي الذي كان يرافقه وهو يسافر ما بين بغداد والكوفة طفلاً، بمعرض كامل. في عدد من تلك اللوحات استعار ذلك القمر ندماً قديماً حتى خلته من شدة عيائه رمّانة عاكفة على طيش حبّاتها. ليت الرسم لا يصف. حواس نديم كوفي تعمل بطريقة مقلقة. نظرة إلى القمر في إمكانها أن تجلب أطناناً من القهر. غالبا ما يفلت المعنى على الرغم من أن نديم كوفي نفسه هو رسّام معنى. في تلك المسافة التي تفصل بين المعنى وعبثه، تستقر صورة غامضة عن موت مؤجل يصطحبه العراقيون معهم إلى المنافي. ذلك القمر لا يكذب، وأنا أعرف أن حبّات الرمان الذي تضرب شفاه الأطفال بأجنحتها لا تكذب أيضا. هل نقول كلاما مختلفا؟ في باحة المدرسة المستنصرية في بغداد، جلسنا ذات ظهيرة. يومذاك فوجئنا بما انتهينا إليه: ورقتان يمحى الكلام المكتوب عليهما بقوة ايحاء الموسيقى التي تنبعث من نافورات المياه من حولنا. أتذكر أن نديم كوفي كان يحلم يومذاك بقارب سومري يشقّ أرض تلك الباحة ليحملنا معا إلى تلك الأرض البعيدة. يومذاك كنا لا نزال مواطنين عراقيين وكانت لدينا بلاد. كانت الرمّانة صامتة تجلس على مائدة مسحورة. لِمَ لا تثق بحواسك؟، سألته، فأجاب: لأنها تسلّيني بمكرها فيضيع الوقت. كان نديم كوفي واحدا من أكثر خلق الله عداء للضجر.
3
لا سقف لغرفة الخوري. ربما انفتح ذلك السقف مباشرة على واحدة من السموات السبع بما جعلني أشعر أن تلك الغرفة كانت جزءاً من كون لا حدود له. كون خفيف مثل لقاح الشجر يحمله الموتى على أجنحتهم. غادرني صديقي ليجلب قنينتي "مشن"، ذلك الشراب الذي كان يمتزج بشهواتنا المثارة بسبب فتاة اعلانه الشقراء الخارجة من بحر كاليفورنيا. كان الخوري لا يزال يشيد بقوة الدمع التي تفيض من تقوى تلك المرأة حين قررتُ أن أغفو قليلا على فراشه الخشن في انتظار عودة صديقي. امتزج صوت الخوري بجسد تلك الفتاة المثيرة فصارت كلماته الورعة تسيل على بشرتها قطرات، فيما كنت أجلس عند قدميها أراقب تلك القطرات وأحلم أن ألمسها. قالت لي الفتاة: يبدو عليك العطش يا عزيزي. أومأتُ موافقاً وأنا لا أطيق كلاماً. حملت الفتاة بباطن كفّها إحدى تلك القطرات ووضعتها على شفتي. كما لو أن جمرة مسّت شفتي، شعرت بأني احترق. حين صرختُ، ابتسمت الفتاة وقالت: عليك بـ"مشن". هو الذي يطفئ حريقك. فتحتُ عينيَّ مذعورا فرأيت عماد وقد احضر القنينتين. هجمتُ على واحدة وصرت اشرب السائل البرتقالي. حين ابعدتُ القنينة عن فمي، قلت لصديقي: كدت أموت. حينذاك أطل الخوري وكان وجهه الممتلئ عافية لا ينبئ بالميت الذي صاره بعد أيام من ذلك اللقاء. لقد مات على الفراش الخشن نفسه الذي شهد موتي القليل. يومذاك كانت المسافة بيننا تقاس من طريق النظر. في ذلك الزمان كان الموتى يذهبون إلى الجنة. كانت الظلال في "عقد النصارى" لا تنبئ عن شمس في عينها. فهنّ مثل الأقدام الناعمة التي تطرزهن بإيقاعها، يخترعن شموسا من مادة لا مرئية، قوامها الشغف المبهم. كانت بغداد تفعل الشيء نفسه في كل لحظة موت. بعد أربعين سنة، لا أزال حين أرفع رأسي إلى السماء أشعر أن سقف غرفة ذلك الخوري قد انفتح لتوّه لأرى من خلاله نجمة وحيدة تشبهه.
4
زهور سي تومبلي هي نوع من الرخاء التعبيري يصنع مسافة بين الزهرة ومعناها. بين الزهرة وما يؤثثها. بين الزهرة ومن يشمّها. عدوى أن تكون حياً تنتقل بخفة إلى الموتى الذين لم يعد أمامهم سوى أن يصبروا. ما الذي يحدث لو عرضت زهور تومبلي في مقبرة؟ ماذا لو كانت كل زهرة نحملها هي دعوة لكي نكون موجودين في معناها (معنى الزهرة)؟ حينذاك لا يحتاج نديم كوفي إلى استحضار قمره القديم المعلّق في السماء مثل رمّانة حائرة. ولن تشعر الملائكة بالحرج وهي تحيط الرجل الميت بأسئلتها. "عراقي آخر"، مثلما يقال "زهرة أخرى"، وأيضا "قمر آخر". هناك مكان تذهب إليه الزهور، وهناك مكان يذهب إليه العراقيون، أما القمر فيكفيه أن يكفّ عن النظر. كان الوقت يمر بطيئا وكانت الزهرة على سياج البيت تنظر إلى المارة باعتبارهم زملاء درس. تكفي الطمأنينة لصناعة زهرة. لا شيء يخيف الزهور مثل الذعر. ألا يزال شيء من جلال الحنفي يعبر الشارع في اتجاه الشورجة؟ امام جامع الخلفاء الأخير كان يحمل معه ميزان الشعر اينما يمضي. ألهذا كان الرجل يخطئ الشعر حين يلتقيه؟ فالزهرة التي يقبض عليها معناها هي زهرة ميتة. الشعر الذي نزنه قبل أن يقع علينا هو الآخر شعر ميت. غير أن فضيلة الحنفي أنه كان يحب الطيور (الطيور نوع من الشعر). بينه وبين لقلق كنيسة اللاتين، التي نمتُ ذات مرة في إحدى غرفها، غزلٌ يتخطى اللغة إلى معجزتها. ما كان يقوله الإثنان خفيةً، تقوله زهور تومبلي جهرا. لن يذهب الحنفي مباشرة إلى الموت إلا بعد أن يزن لغة الزهور فلا يجد جدوى لما يفعل. الوقت غير الوقت، فيما بغداد صارت أخرى. ربما سيكون عليه أن يتأمل قبة كنيسة اللاتين باعتبارها آخر اثر بقي من دنيا هالكة. جوقة موسيقيين تحيط بالرجل الميت لن يراها جلال الحنفي من مئذنته التي لا تزال تقف في موازاة برج الكنيسة