رؤية معمارية للفضاءات السبع لجسر الصرافية !!

المقاله تحت باب  مقالات فنيه
في 
25/08/2007 06:00 AM
GMT



البلدان  باهلها .. والدار بساكنيه!! - ابن عربي

 

      مثلما كل ارث  شاخص ، هوعمل خلاّق و ذكرى ، وهو كتلة ذات ابعاد جمالية  لها وظائف قررها المصمم و المعمار فصنعت ذكريات .. عبر ذالك النهر الأبدي دجلة الخير  !!

     ان كل وجدان هومن  صنع الذكريات , وكل ذكرى بحسب ثرائها  و حميميتها وقسوتها

ايضا .. وحين تفتقد الذات ذلك البريق الباهر من  الذكريات الخاصة ، فأنها قد  تكون صنيعة قمع  الوجدان الذي تأسست عليه سلطة التربية .. ونظريتها في  روح الشرق الدفين  ودياناته ..وثقافته  وسرّانيّته . عندها يصير تدمير اثاث المدن ومحو معنى الحياة فيها تعويضا عن ذلك الوجدان المفقود .... وربما هكذا يظهر جزء من فهمنا لتدمير هذه الكتلة الخالصة المعنى ..  جسر الصرافية !!

 

مشهدية جسر الصرافية

 

تعطي مشهدية الجسر  الذي يبلغ طوله 450 مترا وعرضه 8 امتار  من الحديد الضخم   منظورا بصريا  متعدد الزوايا .. غرائبي الأيحاء وحشي وطاريء احيانا  لم تألفه العين الشرقية  لمدة طويلة  من عمر هذا المعلم .. ولم يجد فيه العديدون اي معنى جمالي او دلالي  .. بكل اسف لذلك لم نجد من قبل  دراسات تناولته بعمق ربما لأسباب سياسية ا وتاريخية او فنية بحته  .. ولكن  المهندسين والأنشائيين العراقيين نظروا اليه  بعين الدراسة  الفاحصة .. فهوفي تعبيره الكتلوي وتوزيع احيازه وفضاءاته يمثل  دراسة  هندسية عميقة للحمل وللمنظور ايضا .. انه  ليس وليد نزوة معمارية للقوات البريطانية او لحكومة جميل المدفعي التي افتتح الجسر في عهدها عام 1952 .. انما  هو وليد مدرسة كبيرة اسسها كوستاف ايفل .. وافاد منها البريطانيون في الشرق .. والشرق البعيد ،  وطورها في القرن العشرين ( فولر ومؤسسته  )الذي مازج بين الحديد والمواد المتنوعة والزجاج  في ثلاثيات من  المواد التي استعملها  فيما بعد – مثلا - المهندسان رونزيبانو وريتشارد روجيه مصمما مركز بومبيدو  في قرار عمارة هذا المشروع الثقافي الكبير خلال الفتره  1971 - 1977 .

 ابتكر غوستاف الكسندر ايفل تقنياته ومادة عمارته لبرج ايفل عام 1889، من الحديد الخالص ومتمماته من مسامير وروابط ثنائية ومساند رافعة ، وغامر كثيرا في تزكية هذه المواد الجديدة ،  وقد اشرك في مشغله التصميمي  يومذاك العشرات من الرسامين والمهندسين  يتخذون قرارات التصميم او يلغونها  حتى  جاوزت تلك التصاميم بضعة الاف – كما في الروايات -  اختير منها فيما بعد واحدا ليغدو حدثا تاريخيا ..ثم حدثا معماريا  غيّر الكثير من الأتجاهات المعمارية والهندسية  منذ نهاية القرن التاسع عشر وغّير فكرة الأنشاء وموادّها التقليدية . فلم تكن موجودة في ذلك الوقت وحدات عالية التقنية لقياس الجودة ولم تكن هناك منظفات صوتية كما في صناعة الحديد والسمنت  وغيرهما من مواد البناء اليوم  كما لم تكن هناك  معايير تطوير الخلخلة الرأسية الألكترو ستاتيكية  في مرسبات الحديد او السمنت او مواد البناء  التي تقيس طاقة الحمل .. وبرغم ذلك فقد كانت مادة الحديد تصب في مصاهرها الأولى وفق فطرة حرفية .. وخبرة متراكمة وموروثة افضت الى نتائج هندسية وانشائية مهمة حتى يومنا هذا .. وقد نفذ المهندس ايفل وشركته – فيما بعد -  مشاريع اخرى في بلدان اخرى مثل  جسر ابو العلا ، الشبيه بجسر الصرافية ،  الذي يربط بولاق بالزمالك في القاهرة ، كما نفذت شركته اعمال الأسيجية والحديد  والهياكل والتشكيلات والنقوش الفنية والهندسية .. لقصر ملكة هولندا  الذي اصبح  فيما بعد فندق الماريوت في القاهرة  مثلما نفذت الشركة اعمال الحديد والأسيجة للقصور التي بناها الخديوي إسماعيل ووالده محمد علي  لضيوفه الكبار وعلى رأسهم  الأمبراطورة اوجيني  الذين حضروا افتتاح قناة السويس . ان جسر الصرافية هو واحد من سلسلة جسور متشابهة المادة والتصميم  انشئت في مناطق شتى في الشرق العربي والشرق البعيد ..وفي  العراق.. وهي جسور ذات كتلة ووظيفة وتاريخ .. منذ قرنين من الزمان تقريبا  .

 

افضية الجسر وطبيعته التصميمية

 

يشكل جسر الصرافية  هيكلا حديديا  ممتدا بفضاءاته السبع  مسافة 450 مترا بين الكرخ والرصافة عند منطقتي العطيفية غربا والوزيرية شرقا . ويقوم الجسر على ستة ركائز اسمنتية ضخمة وسط النهر قاومت الحث وعناصر بيئة النهر الملحية  كل تلك السنوات الطويلة كما تمتد ركائز  اسمنتية اخرى على الضفتين اليابستين  لتخدم   سكة القطار الذي يتوجه – سابقا -  من بغداد الى مدينتي كركوك وجلولاء وغيرهما .. وماتزال الكتل الأسمنتية الأخرى  شاخصة على جانبي اليابسة من جهتي الوزيرية والعطيفية .. لم تتم ازالتها  برغم رفع سكة الحديد بعد تطوير الجسر وتوسيعه  من ألغاء الحيز المخصص للسكة الحديد ودمجها مع مساحة الجسر ليصبح بممرين وممر للسابلة بعرض مترين موجود اصلا منذ تصميمه الأول وقد تم هذا التطوير اثر قصفه من قبل القوات الأمريكية عام 1991.

ان عرض الجسر اساسا ستة امتار ، لكنه يغدو بعرض ثمانية امتار  بعد احتساب  ممر العابرين والسابلة  الذي بقياس مترين . ويشكل التصميم  العام مبتغى لحل  جمالي وهندسي .. فهو من الناحية الجمالية شكل  كوزموبوليتاني يمثل عصره وتنحني تشكيلات افضيته السبعة على بعضها لتوحي بتشكيلات متكررة  من  اجزاء الدائرة التي تقوم بها  منحنيات كتل الحديد وأطواقها التي تؤدي وظيفة اخرى هي  تخفيف الحمل وتشكيل فيزياء المعادلة التي وازنت الجسر من خلالها  برسوخ  كتلته وقوتها الموحية  ليقوم  بوظائفه  كل هذه السنوات .

ان الفضاءات السبع لجسر الصرافية  تتشابه وتتناظر   في  المشهدية كما في في المساحة العامة ايضا  ‘ فثمة خمس افضية  من افضية الجسر بقياس ثمانين مترا من الحديد المقام وفق معايير من التكرار المتناغم تكريسا للمنحنى المقتبس من تصميمات شبه الدائرة وانصافها ، - اترى هي محاكاة للأقواس والأطواق  المحلية - ، فيما يختلف فضاءان آخران في المسافة  بقياسين غير متشابهين من عشرين الى خمسة وعشرين مترا هدفهما  الربط القصير المسافة بين افضيته  ، بغية تخفيف ضغط كتلة الجسر وتوزيعها على طرفين متعادلين  من طرفي  الجسر. وهذه الصورة التصميمية وتكراراتها ، نجدها في جسر مدينة  بعقوبة .. وجسر ديالى المؤدي الى التويثة وجسور اخرى في البصرة والمناطق الشمالية والوسطى .. هي تكرار لنظرية عملية أقامة الجسور ذات الخدمات  المحددة والمطلوبة يومها بأقل مايمكن من المنحى الجمالي  .. لكي  تشكل منجزا هندسيا وانشائيا لعصر الحديد والسمنت والخشب . ان ثلاثية الحديد والسمنت والخشب هي حلول انشائية وعمارية اختارتها الشركة المنفذة ( هولو البريطانية ) التي اقامت الجسر للفترة من  1946 - 1952 لأنها مواد العصر الأكثر حداثة يومها ، وقد تأخرت هذه  الشركة في تنفيذ الجسر  جراء توقفات عديدة تحت ضغوط سياسية ومواجهات معروفة في تلك الحقبة الأستعمارية الملتهبة .

 

ثلاثية الأنشاء

 

 لقد استعملت في بناء الجسركميات هائلة من الحديد المصنع خصيصا وان كان يبدو تصنيعا  نمطيا لتشابه وتكرار هياكل الجسور الأخرى  الشبيهة  حيث استعملت اكثر من سبعة وخمسين الف قطعة  ورابطة  حديدية وعوارض ومنحنيات وركائز  ساندة لتشكيل  عناصر فراغات الجسر المفضية للتخفيف والتوازن كما احتسبت نظريا كمية الحديد الذي زاد عن خمسة عشر الف طن ويزيد  عن ذلك  كثيرا  وفق تقديرات شفاهية لشهود  ومتخصصين  استخرجو الوزن بالمقارنة من خلال الفرق بين برج ايفل والجسر (  ايفل 324 مترا  ويتكون من 18 الف قطعة بوزن يقدر بعشرة آلاف طن وطول جسر الصرافية البالغ 450 متر بعرض 6 و8 امتار  )  كما استعمل حوالي عشرة الاف طن من خشب الماهوغني لتنفيذ ورفع وتخفيف ضغط  سكة الحديد  وامتداداتها بأتجاهين مختلفين  ولتنفيذ متطلبات ممر المشاة من الخشب ذاته  ايضا .  وهناك كميات يصعب احتسابها من السمنت المقاوم لفترة نموذجية من فترات الأنشاء القائم على تكنولوجيا صناعية تعود الى  اربعينات القرن الماضي  في بيئة من التطلع الهندسي والانشائي والمعماري الطموح  لذلك الفريق من مهندسين شباب منهم عسكريون تابعون لوحدة الأنشاء والأسكان في الجيش البريطاني في الهند .. ومنهم مدنيون ومساعدون محليون لم تسعفنا الوثائق على معرفتهم كما لم نجد وسيلة للأتصال باي طرف له علاقة بعمل الشركة او ارشيفها  في بريطانيا – رغم الوعود الممكنة مستقبلا بأعتبار ان الشركة من مؤسسات الأستعمار البريطاني ووثائقها ميسورة الآن عند وزارة الحربية او وزارة الخارجية البريطانية - .

   لقد دمر انفجاران  هائلان ، الجسر من جهتي الرصافة والكرخ ، وبلغت نسبة التدمير  حوالي 75% من الهيكل الحديدي الضخم  .. مع انهيار احدى العوارض الحديدية الأساسية الرافعة له .. فيما انهارت كتل مختلفة من اجزاء الجسر بشكل سوف يشكل عبئا فنيا في حال التفكير بأعادته او اقامته مجددا  .. وقد خسر العراق مهندسا تطوع للقيام بالمهمة على راس مجموعة خلاّقة ارادت ان تعيد لهذا الجسر معناه الوجداني الرابط بين كل ذات عراقية محبة ومنتمية لأرض الرافدين .. هو المهندس بهاء ناجي الذي حصدته ارادة القتل التي تمحو كل حياة .. مثلما قامت بمحو هذا الجسر الذي سيظل رمزا لحياة مشتركة وروح عراقية .. خلاّقة تحب الجمال والحياة وتتقن فعل البقاء العراقي المشترك  .

ان قراءة التاريخ القديم لوادي الرافدين يعلمنا كم الف مرة لم يبق المحتلون لأهل العراق غير الطين والقصب .. ونهض العراقيون لبناء حضارة جديدة بثلاثية الطين والشمس والقصب . وارى ان جسر الصرافية سينهض يوما مثلما سينهض كل جسر يعّمر روح البلاد ويثريها .. بالمعنى  والرمز وبالجمال الجوهري لبلادنا .. بلاد الرافدين ..

انه ( جسر درينا ) كما في رواية  اليوغسلافي ايفون اندريتش لكنه هنا هو  جسرنا العراقي الذي سيقيم الوصل رغم كل قطيعة ارادها  المحتلون والمجرمون !!
 
عن موقع كتابات