المقاله تحت باب محور النقد في
23/08/2009 06:00 AM GMT
حفل النقد الفني بمفردات وعبارات تم ترحيلها إليه من القاموس الأدبي، علينا أن نضيف عبارة أخرى: فن المهجر،
تُماثل تلك التي تداولها الأدب العربي في بدايات القرن المنصرم، أدب المهجر، الذي عاينه عديد المثقفين كأحد أصول الحداثة العربية. وقتئذ كان الأمر بريئا تماما، مبدعون أسسوا تجاربهم في غير وطنهم الأم، في بلد آخر، رحلوا إليه باختيارهم ولأسباب ذاتية. في عصر لم تكن فيه الهجرة قضية عالمية تثير اهتماما لافتا، وفي غياب أسبابها، الاقتتال، والحروب، والعنف والاضطهاد السياسي، وبعدم انشغال الحقل الفكري بعد بمفاهيم 'المابعدية '، ما بعد الكولونيالية، ما بعد الدولة القومية وغيرها. علينا أن نشيد بمفكر كبير هنا بحجم 'ادوارد سعيد' كمؤسس لخطاب كهذا. أتحدث عن الفن التشكيلي، العراقي خاصة، عن فنانيه الذين هاجروا بالتتابع ومنذ ما يقارب العقدين، منفيين، إلى بلدان كثيرة، على أمل العودة ثانية إلى وطنهم جراء حصار أتمه الاحتلال الأمريكي عام '2003'، وليشهد بذرائع ملفقة أقسى هجراتهم. وهو رجاء لم يجد معه شيئا منذ ذلك الزمن. وبعد ذلك تحول وطنهم إلى مجاز وتاريخهم إلى فنتازيا. حتى لحظة استذكارهم له، باتت تولد كآبة كتلك التي يحدثها فقدان شيء لا تبلغه الكلمات. تصوروها قريبة أو مؤقتة هذه الهجرة، لم يعرفوا أنها كما النفي لا تعني العودة، بل الرحيل أبدا، حيث الحياة فيها هي التردد بين الحضور والغياب.لقد رحلوا حتى من دون وداع في البلدان التي استوطنوها، في جهات الأرض الأربع، وبعد أن غيروا توقيت ساعاتهم، انتبهوا إلى حقيقة وحيدة، أن فنهم لا يمثل فن البلد الجديد، بل هو فن خاص بذاته، فن مهجر، فن انفصال. هكذا سيحاولون النفاذ بقدر ما يحملون من استثناء، إلى مؤسسات العرض، للإعلان عن بقائهم والى تأكيد وجودهم الإبداعي. فبخلاف وطنهم الأم، بدأوا في بلدانهم التي هاجروا إليها من لحظة غير متعينة. لقد كانت وطأة التغيير في البيئة والمجتمع والتقنيات الجديدة سؤالاً يلازمهم دائما، ويثير ارتباكهم وحيرتهم، وهم يتطلعون إلى أماكن غريبة، غير معهودة لهم. التشكيليون العراقيون، في زمن سابق، حتى لما قبل عقدين، كانوا يتأملون تجارب بعضهم بعضاً عن قرب، يتلمسونها بأطراف أصابعهم. في تلك المعارض التي كانت 'بغداد' تشهد زخمها، كانوا أول المتواجدين في قاعات العرض وآخر من يرحل. إلا أن الأمر لم يعد كذلك، لقد انفصلوا عن تلك الأسئلة المشتركة، وباتوا معاصرين تماما، فرديين. يجاهدون باللحاق بثقافة المعاصرة العابرة، الخاضعة لكل ما هو إشهاري وتقني بامتياز. فالحرية الممنوحة لهم أصبحت تدعوهم للرحيل بجميع الاتجاهات. الهجرة تسللت إلى فنهم وأرواحهم أيضا. حتى تجاربهم الآن باتت غير مرئية لبعضهم بعضاً. إنهم يشـــهدون حضورهم وعلاقتهم عبر البريد الالكتروني!!. هؤلاء الفنانون الذين منعوا من البقاء والعيش والحياة في المكان الحقيقي الوحيد لهم: العراق. لكن عزاءهم يبقى في كونهم لم يعودوا نادرين. لقد هاجر الكثيرون معهم. كما أن الذي بقي من القلة في وطنه يحيا مثلهم ذات الإحساس بالغربة والوحدة والعزلة ولكن على نحو آخر. تبقى الهجرة طقساً تراجيدياً بامتياز، فليس هنالك عقوبة أشد من النفي. ولكن ماذا فعل هؤلاء الفنانون؟ وكيف عليهم أن يفكروا في ظروف الخسارة هذه؟ أولئك الراحلون رغما عنهم، والمحملون بعبء روحي شديد الوطأة، المسكون أبدا بعاطفة الوطن 'الأم' وتباريحه. حتى سبل الغواية التي تمكنوا منها في اعمالهم الفنية، سابقا، لم تعد تغري الآخرين في أوطانهم البديلة. غواية تأتت باستدعاء جماليات فنهم القديم، منذ السومريين حتى بغداديات 'جواد سليم'، وجعلها مفردات صورية معاصرة بامتياز. لم يرهقهم البحث، كانوا مطمئنين بولائهم لفكرة ان المعاصرة تعني ابتكار الفارق عن المتحف الخيالي الخاص، المحلي، الذي يحمله كل فنان منهم في داخله. ولكن في ثقافة بصرية مغايرة، لا يجدي تاريخ المكان الماضي ولا تنويعاته البصرية الزاخرة نفعا. كان عليهم ابتكار حاضر جديد يدل على معاصرة أخرى، مغايرة، حتى لو تطلب الأمر ممارسة الفن الجاهز أو فن 'الفديو آرت'. قليلة هي الاعمال التي اتخذت ظاهرة الهجرة موضوعة لها في الفن التشكيلي العراقي. حتى وان حضرت فهي محملة بمحليتها. كانت لحظة تعبير أيضا عن المكان الوطني. تلك الرؤية التي التقى معها الكثيرون من الفنانين. في عام '1961' يرسم الفنان الراحل شاكر حسن آل سعيد لوحة بعنوان 'عائلة مهاجرة'. عمل فني مثًل هجرة الفلاحين من الريف إلى أطراف المدينة 'بغداد'. كانت لوحته تلك قد احتفظت بمعالجة تعبيرية لا تخلو ألوانها الكابية من الكدر حتى رغم حضور مفردة صورية مثل القمر في فضائها. وكان الأخير ليس سوى دالة وجدانية، سوف تتردد بتمثلات أخرى يشار بها إلى الرحيل. اشارة تمسك بها الشعراء كذلك. في سبعينيات القرن الماضي، لم تخل قصائد الشعراء العراقيين من لازمة ترددت كثيرا في قصائدهم: الحقيبة. مفردة تتبعها مفردة السفر، كانت قصائدهم تلك مهمومة بمناقب الإيديولوجية وتطلعات التغيير. الحقائب كانت تعني السفر إلى اليوتوبيا. الرحيل إلى عالم عادل حتى ذلك الحين. عالم يحتمل قيامه في بلدانهم وليس في أرض أخرى. في وقت كانت فيه جميع الأشياء وطنية بامتياز المكان، الزمن، الأحلام وحتى لحظات التعبير. كان نوعا من رحيل قد انتهى في القصائد. هم رثاه الشعر كثيرا . ولكن حقائب السفر الآن لا تكتفي أن تدل على الرحيل، لقد أصبحت لازمة للهجرة والمنفى، ومغزى دلالتها بات أكثر التباساً. فهي لم تعد تعني الشعراء أو الفنانين المهاجرين بمفردهم بل تسللت إلى دوائر الهجرة كذلك. أمر لم أدركه لحين تطلعي إلى عمل تجهيزي للفنان 'قيس السندي' والمعنون 'حقيبة IOM'. هكذا تتحول التجارب الفنية في المهجر كي تكون شهادة عن خبايا العالم وتورطه في اقتراح معان ملتبسة ضد الإنسان. في شرحه المرافق لعمله 'السندي' يذكر ..'اعتاد العراقيون اللاجئون إلى أمريكا شراء حقائب سفر محددة العدد والقياس والوزن من قبل دائرة الهجرة. ولأن اغلب العراقيين المهاجرين يسافرون للمرة الأولى، فلقد حرصوا على الالتزام التام بالمواصفات الخاصة بحقيبة السفر التي سمحت دائرة الهجرة بها وهي: حقيبتان اثنتان لكل مسافر على أن لا يزيد وزن الواحدة عن 50 رطلا وأن لا تتعدى أبعادها عن الـ (60،80،20 سم). فأصبحت هذه المواصفات مألوفة لدى محلات بيع الحقائب في الدول التي تستضيف اللاجئين مؤقتاً مثل الأردن، سورية، لبنان...وباتت المعامل تنتج منها كميات وفيرة لكثرة عدد المسافرين، إذ أن المواطن يكتفي بأن يسأل عن السعر لكي يعطيه البائع طلبه. فأصبح مصطلح حقيبة (IOM) شائعاً لدى العراقيين كشيوع نفس الحقيبة التي يحملونها في رحلة اللجوء. في العمل التجهيزي والذي أسميته حقيبة(IOM): هو عبارة عن حقيبتين من الحقائب العشر التي حملتها أنا وعائلتي في رحلة السفر إلى أمريكا، وتحتهما ميزان يؤكد على الوزن ليس فوق الحد المسموح به (50 رطلا)!'. هكذا أصبحت الحقائب بالنسبة للعراقيين لا تتسع للتذكارات، كونها رديفة النفي الذي يعني الفقدان والتخلي، حتى عن تلك الأشياء الصغيرة، الحميمة، التي يمكن أن تكون بعض من أشياء وطن يمكن استذكاره، أو نعت لهوية كانت. إن حقائب المهاجرين لا تتسع للوطن. فنان تشكيلي من العراق
|