المقاله تحت باب في الموسيقى والغناء في
10/09/2009 06:00 AM GMT
فكرة مختصرة عن الغناسيقى
العراقية في القرن العشرين
تأثير التكنولوجيا
نتيجة للتطور التكنولوجي ووسائل الاتصال والنشر ، اصبحت طرق الاداء الغناسيقية عوالم يندمج فيها عصر كامل بالتواريخ والامكانيات الفردية والجماعية من الفنانين ، مع تكثيف للتجارب الحياتية ومن ثم تحويلها الى فلسفة للحياة . وبظهور الطرق الادائية الغنائية الانفرادية لدى بعض المؤدين المقاميين خلال القرون القليلة الماضية على وجه الخصوص منهم مثلاً ، رحمة الله شلتاغ واحمد الزيدان ورشيد القندرجي ومحمد القبانجي وغيرهم … تغيَّر معنى المقام العراقي ، بل تغيـَّرت حتى طبيعته من خلال التبادل التاريخي في عملية التأثر والتأثير بمختلف الاتجاهات الكلاسيكية والرومانسية وغيرهما .. اذ جعل كل مغن من أمثال هؤلاء المشروع الادائي الفني ، الوسيلة الوحيدة للوصول بالمقام الى برِّ الأمان ، الأمان الذي إنتهى أمر بإكتشافه وتوضيحه ..
ولذلك فقد تطور الأداء المقامي من حيث شكله ومضمونه ، إبتداءاً من شلتاغ في مقاماته الى احمد الزيدان حتى رشيد القندرجي .. بتيـَّار مضاف تزدوج فيـــه طريقة الاداء المقامية العراقية بالعربية من خلال المبدع محمد القبانجي ..! فالمغنى المجتهد يكشف عن طرقه وفنـِّه ، وتراه ربما يضطر الى هدم ما بناه وشيـَّد ما كان يراه إبداعا في وقت ما ، وفي أداء محمد القبانجي يرافق التأمل لطريقة أدائه عملية الخلق المقامي ، فطرق الاداء المقامي تؤسِّس في نظر الجمهور ، الاسلوب الامثل لمعرفة اللغة الادائية الغنائية وأحيانا عذرا لتكوين طريقة فردية جديدة .
إن هذا النوع الغنائي الذي يستثيره بإلحاح ، الواقع المحيط والواقع الذي نحمله داخل أنفسنا والذي يتنازعه خلق الخيال وإستقصاء الواقع الذي لا يكف عن إنتاج طرق أدائية وإبتكار طرق اخرى ممكنة ، وهذا النوع متقلب وفي توسع دائم .
شركات التسجيل الاجنبية
---------------
من الاحداث المهمة التي نالت الكثير من الشهرة والصيت في هذه المرحلة مجيء شركات التسجيل الالمانية والاجنبية الاخرى الى بغداد في العقود الاولى من القرن العشرين ، ضمن بحثها عن الاصوات والامكانيات الفنية الموجودة لدى الشعوب ، فكان من حصيلة ذلك تسجيل عدة اسطوانات للمقامات العراقية أداها الكثير من مغني المقام العراقي ، فضلاً عن النجاح الساحق للمغني الكبير محمد القبانجي ، مع تسجيلات اخرى من الغناء الريفي والبدوي لداخل حسن وحضيري ابو عزيز وناصر حكيم وآخرين ..
لقد كانت المقامات التي أداها القبانجي غاية في الروعة في عنصرها الجمالي ، وخطوة الى الامام في التعبير الادائي المقامي الذي إختلف عن مراحله السابقة ، لقد كانت واضحة النطق مفهومة الكلام مع جملة من الملاحظات الفنية ، هذا وقد توَّج ذلك ذهاب القبانجي على رأس وفد موسيقي الى ألمانيا أواخر العشرينيات وتسجيله لعدة إسطوانات أخرى ستخلده على مدى التاريخ ، ثم سفره مع فرقته الموسيقية الى القاهرة للمشاركة في المؤتمر الاول للموسيقى العربية عام 1932 .
إن هذه الاحداث والتجارب ، كانت بلا شك هي العامل الفعَّال الكامن وراء الحركة الجديدة في الإبداعات الادائية المقامية والريفية والبدوية والالوان الاخرى ، وسرعان ما أخذ الغناء عموماً يسمع في كل مكان وعلى الدوام …
إن الاهتمام بالنتاجات والانجازات التي ظهرت في القرن العشرين أو بالتحديد في النصف الاول منه ، بإعتباره كان بداية حقيقية لمعظم المعطيات الثقافية الابداعية ، وهذه المآثر من التطورات الفنية والانجازات بطبيعة الحال يجب أن ترتبط بتطور الفنون الاخرى وتطور الثقافة عموماً في العراق ، وان وضوح هذه الاحوال ، من شأنه ان يمكّن الدارس أو المطـَّلع ، تقييم هذه الروابط والخروج منها بحصيلة مثمرة ومفيدة .. إن النصر الحقيقي في تطوير الفنون هو عندما يتدخل العقل والفكر ويمتزج بالفطرة ليبلورها ويطورها الى أساليب جديدة مهذبة تلائم روح العصر للمحافظة على شخصية الأمة ، ومن ثم إستنباط الافكار الجديدة للخروج بأعمال جديدة مبتكرة .. بعد أن تفك قيودها من قدسية المحلية الصارمة الى الآفاق الثقافية الاخرى خارج الحدود لنصل بهذه الطموحات الى العالمية ..
إن ثقافة الذاكرة العفوية ظلـَّتْ ترافقنا قروناً عديدة ، وعليه ، يتوجب علينا الاهتمام بالجانب الفكري وتعميق الفهم ليصبح طريقاً تطورياً مستنيراً أميناً .. خاصة ونحن في عصر السرعة ، وستبقى الريادة للفنانين الذين قادوا المسيرة الابداعية الجديدة لموسيقانا في القرن العشرين ، الذين حرَّروا أنفسهم من سلطة القيود التقليدية للتراث واستوعبوا هذا التراث وانطلقوا منه بكل قوة ..
هكذا كان الفنانون الرواد الذين أخذوا على عاتقهم أعباء إحتاجت في إنجازها للنهوض بالمستوى الموسيقي ، الى جميع القوى التي يمتلكها المجتمع رغم ضعفها ، إلا أن التحولات كانت كبيرة ومذهلة خاصة وقد خاض العالم أجمع حربين كونيتين غيّرت مجرى التاريخ .. مما حدا بهؤلاء الفنانين الرواد الى أن يدفعوا بتجاربهم وإكتشافاتهم ومبتكراتهم الى الامام بالرغم من معارضة وسخرية المجتمع في بعض الاحيان .
وسيبقى تاريخ هذه المرحلة بداية لمرحلة إنفجارية تاريخية بشتى ميادين الحياة ، وسوف نرى في المستقبل إندماجاً أكثر وعلاقات أمتن وإبداعات أنضج لأنها فتحت الطريق أمام آفاق فكرية جديدة مستقبلية ، فقد تزعزعت الكثير من عروش مجاميع كثيرة من الآراء المتحكمة البالية والقاسية ، وبدا الفنانون يجدون منطلقات جديدة لإمكاناتهم ونشاطاتهم الغزيرة في حركة دافعة نحو تبنِّي وجهة نظر أكثر تحضُّراً وأقل بدائية وتخلفاً .
الدراسة الموسيقية
------------
إن معظم فنانينا الشباب الملتزمين ، يدركون حقيقة أن دراسة وبحث الفن الغناسيقي القديم والحديث أكثر تعقيداً وأكثر جهداً من دراسة الفنون الاخرى ، حيث يجب أن يكون النظر الى واقعنا الموسيقي مقارنة بالتطور الحاصل في بلدان العالم الاخرى نموذجاً ملهماً ومحفزاً للكتابة والدراسة والبحث في شؤون غنائنا وموسيقانا وتطويرهما نحو الأحسن .
إن واقع غنائنا وموسيقانا التراثية بشكل خاص والمقام العراقي بشكل أخص في بغداد والعراق بأجمعه ، قد حصل فيه تقدم ملموس من خلال تطور الدراسات الموسيقية في المعاهد وغيرها ، إلا أننا نحتاج الى وقت كثير كما يبدو لبلورة هذا التقدم والتطور المنشود .
لقد وفـَّرتْ العقود الاخيرة ما يمكن أن نطلق عليه إزدهار الفن الغناسيقي العراقي بشكل عام وشامل كما مرَّ بنا ، كان آخرها إفتتاح قسم الفنون الموسيقية في كلية الفنون الجميلة ليرتفع مستوى الشهادة الاكاديمية الموسيقية الى البكالوريوس حتى وصلت الشهادة في السنوات الاخيرة الى الماجستير آملين أن تصل الى الدكتوراه .
وقد بيـَّن لنا فنانون غناسيقيون أمثال الشريف محي الدين حيدر وتلامذته جميل بشير ومنير بشير وسلمان شكر وغانم حداد وشعوبي ابراهيم وهاشم الرجب وعباس جميل وغيرهم ، انه على الرغم من كوننا بلداً نامياً ، إلا أننا نتقدم ثقافياً بشكل ملحوظ ، ومع أن البعض في مجتمعنا لا زال يرى هذا الامر مشيناً ، إذا أخذنا الأمر بنظرة إجتماعية جدية ، إلا أن هناك آمالاً كبيرة تقع على عاتق الشباب الحالي الواعي والاجيال القادمة في تطوير وتثقيف وتغيير النظرة الاجتماعية الضيقة حول الفن الموسيقي لدى البعض من المجتمع .
أعتقد ، كما يعتقد الكثير من الشباب الفنانين ، اننا بحاجة ملحـَّة الى التغيير والتطوير في فنوننا الموسيقية ، وليس من الضروري الحصول على غناء وموسيقى يعكسان الواقع فحسب ، بل نريد النظر الى المستقبل برؤية واعية . ويبدو لي أن التعاون بين الفنانين الدارسين منهم خاصة والنقاد والصحفيين ووسائل الاعلام السمعية والمرئية ، هو الطريق الوحيد بل هو أنجح الطرق والسبل للوصول الى الهدف العلمي والتطور في موسيقانا وغنائنا .. والشيء المهم هو بذل الجهد لمعرفة الاسس والطرق الصحيحة التي يعتمد عليها التطور والتغيير في كيفية تعاملنا مع المادة التراثية الغناسيقية ، الذي نجعل منه تراثاً حضارياً تاريخياً وعلمياً مدروساً لنصل به الى مستويات راقية ، دون تشويه أو مبالغة .
|