المقاله تحت باب محور النقد في
06/01/2012 06:00 AM GMT
يمر الرسامون بنمطين من التغيّرات الاسلوبية: اولها تغيراتٌ يمكن ان نسميها (ناعمةً) وهي الفروقات والاضافات الاسلوبية الطفيفة التي تحدث، او يجب ان تحدث بين لوحة واخرى؛ لكي لا تستنسخ وتتماثل اعمال التجربة الواحدة، وثانيها، تغيراتٌ تقارب الانعطافات (الاسلوبية) الضخمة التي نسميها (التحولات الاسلوبية) وهذه التحولات قليلة الحدوث لانها في طبيعتها طفرات ثورية وراديكالية وتتغير فيها اساليب الرسامين، منفردين او مجتمعين، بكيفية جذرية.. وقد لمسنا نمطا من التحولات الراديكالية عند عدد من الرسامين العراقيين، وقد تكون حدثت الان ربما بفعل التحولات الدرامية المأساوية التي طرأت على المجتمع العراقي في العقود الاخيرة، وربما بسبب تحولات داخلية ثقافية او تغير في ذائقة الرسام كذلك، ومن هؤلاء الرسامين صدام الجميلي الذي بدأ يشكل اسلوبَه الجديد بعد ذهابه الى عمان وقبلها بقليل بهدف الخروج على الوسط الفني بإضافة حقيقية للمشهد التشكيلي العراقي، فقد تحوّل اخيرا فهمُ هذا الرسام لأهداف الرسم وغاياته وبالتالي وسائله واشكاله، وفي تنظيراته التي رافقت معارضه الاخيرة كذلك، ينظر الى الرسم وتحولاته على انها قضية تتعدى «السلوك التصويري المحض» الى «اعادة انتاج للمعرفة البصرية على نحو جديد»، ويتنبأ صدام الجميلي بأن الرسم العراقي الان ازاء «مدونة بصرية كبرى تصادر الجنس الفني باتجاه القيمة البصرية»، ويعتقد ان هذه القضية مفتوحة لعدد من (الحلول الجمالية) التي يطمح ان تنتهي عنده بــ»ـإقامة بنية بصَرية محضة» و»صياغات مبتكرة للعمل الفني» و»سلوك حداثوي في العمل الفني».
اقام الرسام صدام الجميلي معرضا تشكيليا في قاعة (دار الاندى) في العاصمة الاردنية عمان، فكان عنوان معرضه (اغنيات منزلية) اول الاشكاليات التي واجهتنا في تناول اعمال هذا الرسام، فالعنوان، كما يشير إلى ذلك جيرار جينيت، يشكّل إحدى العتبات التي تمكّن المتلقي من ولوج عالم المتخيل الأدبي، وهو متقدم مكانا ومتـأخر زمانا بالنسبة للمرسل، ومتقدم زمانا ومكانا بالنسبة للمتلقي، وانه رغم ضآلة عدد علاماته اي اقتصاده الدلالي فهو بنية دلالية مكثفة وفعالية لها: علامات مستقلة، وشروط وملابسات ومقاصد مستقلة: قسم منها ادبي، وقسم منها براجماتي كالعامل التسويقي وغيره، وكل عنوان هو (رسالة) لها اشتغال دلالي خاص عن العمل الادبي وان كان واحدا من محمولات ذلك النص؛ الا ان عنوان اللوحة يفارق طبيعتها وينتمي الى (مادة) مختلفة هي اللغة بينما تنتمي اللوحة الى مادة ووسط تعبيري مختلف جذريا عن اللغة، ان النص الادبي يستدعي العنوان بقوة، عكس النص الشفاهي الذي تحضره سياقات الموقف الشفاهي الزمكاني الجامع بين المرسل والمتلقي والذي يعوض عن العنوان، فإلى اي نمط من هذين النمطين: (المكتوب او الشفاهي) يمكن تصنيف اللوحة؟.. ويتصف العنوان الادبي بخصيصتين هما: الاستقلال الدلالي والانطولوجيّ، والانتماء الوظيفي الى النص، بينما هو في اللوحة مستقل دلاليا ويشكّل علامة كاملة وان كانت محمولة على العمل، وهو انما يشير الى اللوحة كتسمية وليس كدلالة، فتنحصر الدلالات التي يتجه العنوان الى التدليل عليها بشكل واضح ليس في مادية اللوحة (شيئيتها) وانما في موضوعها الذي يرفض الناقد البريطاني (هربرت ريد) في كتابه (معنى الفن) الاعتماد عليه بقوله بأن «الحكم على العمل الفني في ضوء مضمونه، سبيل يؤدي الى تدخل كل انواع الاهواء والتحيزات التي لاصلة لها بالامر» (دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 19، ط1، ص79)، فالعنوان هو ناتج لتفاعل علاماتي بين العمل والمرسل، وغالبا ماتكون هذه الفعالية بالنسبة للرسامين متعلقة بموضوعات الرسم، وهو ما ينزلق اليه الرسامون بسهولة حينما يتحدثون عن اعمالهم ومعارضهم الفنية وحينما يضعون عنوانات لها، فـ(اغنيات منزلية) تعني ببساطة لنا (انشغالات منزلية) وهي اشكال: اشياء وقطع اثاث اتخذها الرسام مناسبة للرسم وبدأت تشكل ما كان يسميه شاكر حسن ال سعيد (المتحف الشخصي) للرسام، وتشكل العالم المحدود الذي يعيشه الرسام في مرسمه وتكون فيه هذه الحاجيات اليومية موديلات جاهزة للرسم، فهي تقع تحت يد الرسام في كل لحظة، وهي في وجودها ضمن اجواء اللوحة لا تخضع لذات المنظور الذي كان سائدا في المرسم لانها توجد تحت غطاء منطق مختلف تماما، فاتخذها الرسام ميدانا لاختبار قدراته التقنية، وتقديم مشروعه الفني الجديد في اتخاذ التحوير الشكلي استراتيجا له خلال المرحلة (الانتقالية) التي يمر بها الان وهو يحاول تشكيل تجربة فنية تطرح شيئا ما يشكل اضافة لفن الرسم العراقي.
يتجه العنوان الادبي إلى اتجاهين متلازمين: اتجاه خارجي نحو المتلقي، واتجاه داخلي نحو النص، واذا كان يتجه خارجيا في الادب الى وسط غير لغوي فانه يتجه داخليا الى وسط لغوي، بينما هو في العمل الفني لا يتجه في الحالتين الى وسط لغوي، ومعنى ذلك انه يتجه لوسطين بعيدين عن طبيعته اللغوية، وبذلك فهو لا يمس جوهر شيئية اللوحة وانما يظل طافيا على سطح موضوعها، ونتيجة لهذا الرفض يعمد بعض الرسامين: كمحمد مهر الدين واحيانا شاكر حسن ال سعيد الى ادخال (العنوان) او النص اللغوي المهيمن ضمن نسيج العمل كنص سردي مقروء او إدخاله اللوحة ليُقرأ لا ليُرى، وبذلك يتوحد الاجراءان: العنونة وكتابة النص في جسم واحد، ولكن هذا الاجراء القسري لا يؤدي الا الى توحيد متناقضين هما اللوحة والعنوان، وبالتالي تحميل اللوحة ثؤلولا داخليا لا يمكن استئصاله من العمل، كما تستاصل عناوين اللوحات في الغالب، لانه موجود ضمن التركيبة الشكلية للوحة وان بقي زائدا ومنافرا لطبيعتها الشيئية..
الأمر الآخر الذي شكل برأينا (قضية) في هذا المعرض، هو وجود مجموعة من الرسامين ارتبطوا بالمشخّص فحيثما ارادوا اختبار مستوياتهم التقنية في معالجة مواد الرسم يتجهون مباشرة الى المشخص الذي يخضعونه الى ضروب شتى من الممارسات التقنية، حتى انهم حين تطاوعهم شجاعتهم نسيان ذلك المشخّص او التخلّص منه فإنهم يلتقطون صورته الفوتوغرافية باعتبارها ايقونة فيتخذونها بلّورة تتجمع حولها الاشكال الاخرى في اللوحة... فكانت الازاحةُ تحدث عبر الكولاج في جزءٍ لا يستهان به منها، وكانت الملصّقات التي هي نمط من الـ(ready made) أو الاشياء الجاهزة تقوم مقام الحل الذي يردم الهوة بين المتوحش او النيئ، وبين المتمدن او المطبوخ كما تصفه الانثروبولوجيا، فكان المتوحش أو النيئ هو الاستخدام الجاهز للاشياء الجاهزة، بينما شكّل الاستخدام اللوني الجانب المتحضر والمتمدن في القضية.. وقد يشكل الكولاج عملية (زراعة) اصطناعية للاشارة (الفوتو) في قلب الايقونة (الرسم) الامر الذي يستلزم معالجة اضافية للكولاج لتأهيله لينسجم والنسيج اللوني للوحة، وهو ما يفعله الرسام الجميلي في كل مرة..
.. وقد يكون الرسام صدام الجميلي ادرك الان بقوةٍ، القدرةَ السحريةَ التي تدفعه لادخال الصور الفوتوغرافية ضمن لوحته؛ وهي طاقة خلاقة تنبعث من اتصال الصور ببعضها، قد تماثل لتلك الطاقة الهائلة التي تنبعث من اتصال الاجساد ببعضها، ومن الكلمات التي تتصل بكلمات اخرى، وهي أمر ادركه الرسامون ووظفه السورياليون منهم كثيرا، وهي آلية تهدف الى توظيف (التشاكل الصوري) الناتج من التلامس السحري بين الصور ..ربما يهدف صدام الجميلي من توظيف التشاكل الصوري (تجاور اشكال اللوحة بطريقة اعتباطية) الى خلق علاقات سردية ذات طبيعة يومية (منزلية) ذات سمات شكلية من (الفن الخام out sider art) فتتجاور عناصر الغرفة الصغيرة هذه لتخلق عالما محدودا بعناصرها الحياتية: تقويم شهري صغير، فردة حذاء وحيدة، جهاز حاسوب محمول، هاتف نقال...، وهي كلها تشكل العالم المحدود الذي يعيشه الرسام في مرسمه الذي تشكل فيه هذه الحاجيات اليومية ما يماثل موديلات الرسم الحية..
«إن لصق اي مقطع من الواقع الخام.. يبدو كوضع حفنة حلم في خطاب ما. انه لا يشبه واقعا خارجيا . هذا شيء يوجد في ذاته» (حياة الصورة وموتها، ريجيه دوبريه، دار المامون، بغداد، ط2، 2007، ص77
*ناقد تشكيلي عراقي-البصرة
التاريخ : 06-01-2012
|