المقاله تحت باب مقالات فنيه في
14/09/2014 06:00 AM GMT
بدءاً...علينا وضع جملة من التقديرات الحسية، بشأن ما يتعلق بقيم وقواعد التعاملات الإبداعية مع نواتج الوعي الفني،ومتطلبات التميز مابين(التجريد الفلسفي)الذي يسعى إليه أغلب فلاسفة الجمال،من الذين يميلون الى تصنيف أو تشريح (طبقات المعنى) للأعمال والمنجزات الفنية،وفق اعتبارها نتاجات متخيلة تبرهن-من وجهة نظرهم-على قدرتها وبراعة تفوقها على المادة الأساسية أو تشيؤاتها الطبيعية في الحياة(الفيزيقا)،ومابين نواتج ما تريد أن تصل إلية رؤى وآفاق وتطلعات الفنان،في تحديد مسالك السير بحثا عما يميزه عن جوهر(الفن) بمعنى تداخل الذاتي فيه،مع الموضوعي وصولا لهدف أسمى وأبعد،مما تحدده أطر(الإستطيقا) بحدود نظرتها النهائية الأضيق،الى مهارة(الصنعة)وفق قياسات حساب تقديراتها التقليدية لقيمة المنجز الفني،بفضاءاتها المفتوحة وعمق مدياته التخيلية، بلا حدود. على خطى وهدي هذا الدرب،تتحد نظرتنا صوب تقيم تجربة الفنان التشكيلي الكبير(فهمي القيسي)وهي تلوذ بجمع جوانب الاحتماء والاعتراف بقيم الجمال(الجمال الذي هو دائما بحاحة الى الحقيقية)-كما نذكر،ونلح على التذكير بذلك- عبر خوالص منطلقاته الروحية والذهنية ودربته التجسيدية على بذل كل ما في وسعه،من ملكات وعمق مواهب وصدق تطلعات،من أجل إعلاء شأن الجمال الذي يرى ويصبو و يدافع عنه منذ قرابة نصف قرن،حتى في أقسى حدود التعبير-بأعماله-عن مكامن القبح أو نبذ سلوكيات العداء وتلوينات الشر وتدحرجاته الشيطانية،وكل ما يحد ويمنع من تقدم الحياة وتدفقاتها الحضارية،والتي يعي فيها(فهمي)-وعلى نحو إبداعي خاص- طرائق الدفاع عن ذلك الجمال النابت في بيت الأحزان كما في سيل من رسومات لتخطيطات مبهرة،مغموسة بحزن فاحم وأسى ملازم للوعة ساخطة انطبعت على وجوه الأطفال،من أولئك المتسولين الذين يتوزعون مابين تقاطعات الطرق،أو عند الأشارات المرورية كان قد نفذها (فهمي) بأقلام الشمع(الباستل) ليماثل فيها من حجم البراءة المتسخة بهموم قبح واقع حياة هؤلاء الأبرياء،انه يقترح سبل وصياغات جديدة يحدها ويمهد لها من خلال خصائص التعبير والترميز بالحذف والإضافة القادرة اعمال على الإتيان بنواتج ومواضيع مترعة بالضوء،ومتوضئة بمياه ينابيع ألوانه الباذخة، رغم عتمة ومرارة الحدث الذي سعى لتسجيله،بعناية وعناد وتحريض إيجابي، جراء تبنيه مهام خلق معادلات بهاء نقاء الشكل(الفورم)بثوابت مقوماته من نسب وتناغي ألوان وأجرآءات تصميم محنك،غاية في الرفعة والسمو والأناقة النادرة،التي أفردت للشكل مهابة حضوره الطاغي،وما يميز لوحات(القيسي)وعمق مجريات شخصيته وهويته الفنية،وعمق انتمائه لروح المحلية-البغدادية الخاصة بأبعاد تجربته،بعيدا عن تلامسات أية تجربة أخرى قد تتماثل معه-بقصد أو دون قصد- لما فيها من خصائص(النقاوة)ومفاتن الوضوح،حين يتجسد على أعلى درجات اليقظة وحذر العنفوان الذي يحرص عليه(فهمي)،ويشيد مساند تجربة حفلت تتلذذ بالجمال وتجعله منه محورا كونيا،رباعي الأبعاد،ففضلا عن الطول والعرض والعمق المتماثل في أي عمل فني رصين،فيما يتوغل البعد الرابع-في عموم أعماله- متماهيا مع وفرة المعنى وفضائل الفكرة الإنسانية المحضة التي تتوسد ممتلكات ومحتويات نسيج لوحاته التعبيرية المسورة بشحنات عاطفية غارقة بلحظات صدقيتها،دون أدنى دوي أوضجيج،ودون رفع أية يافطة دعايئة،تشي أوتؤشر صوب أية عقيدة(دوغمائية) لأن لوحات(فهمي القيسي)-بمجملها-تسعى لأن تحيي عقيدة الإيمان بالجمال الحقيقي واحترام إنسانية الإنسان. بالعودة...للتدقيق في ثنايا ومفاصل تجربة(فهمي القيسي) تلك التي يعود قطاف ثمراتها البصرية،ومراتع نضجها الى نهاية ستينات القرن الفائت،سنلمح سطوع جدية منحاه،ووئيد سعي خطاه في ترسيم وتدعيم ملامح وعي عملي-اجرائي،تكلل بدراية مدعومة بنباهة موهبة نحو محافل التصميم والإخراج الفني،وحيثيات الطباعة ومخابئ ممراتها وآليات السيطرة عليه،وبما يماثل أفعال التخطيط(الماكيت)فيما يخص التمهيد لبناء لوحة معينة،لقد تسنى لـ(فهمي) أن يتعرف على مجمل تلك الأمور عن قرب مذيل بذكاء حاد،يميل في الغالب نحو تقليب جمرات مشاعره النبيلة وتحفيز سلامة نواياه القصدية،بوهج ما تتمتع ذائقته بقدر خارق من التمرد الخفي الذي يسكن قيعان تلك الروح الحية والنقية،في خلاصات تعاملها مع اللون وفهم خواصه ودرجات تحولاته وبهاء تماثله وجدوى انصهار مع درجات وخواص ومناسيب وجدان ودواخل هذا الفنان الذي تخطف أعماله عين المشاهد أو الرائي وتملك لبه،حيال وهج ونصاعة تتوحد فيها فتنة وجلال ألوانه الباهرة(أكريلك/أحبار/باستيل/معاجين) فضلا عن قدرة فائقة ومراس دقيق ومتطور جدا عبر استخدام حاذق لعمليات(الآير-بريش) وغزارة ما يترشح ويتدفق من سحر نبضات،وتنويعات،واسترجاعات،تأملية،تنظف(مداخن الروح)وتغسل أوجاعها من أقذاء وأدران وغبار وشوائب ومخلفات الحروب وملحقاتها،بل كل ما يصيب الحياة من خطل أوخلل وفقدان توازن ،جراء أنانية وهمجية البعض من أولئك الذين لا يحتملون أو يتحسسون متع التناغم ولذة التصالح ونشوة الاتساق الإنساني مع الآخر،فيما يعاكس (فهمي) اتجاه تلك المعادلة المعادية للجمال،ويبادلها بنهج مغياير-تماما-عبر قدرة تصديه وقوة بأسه في المواصلة على ضخ الحياة بالجميل والنافع،كما أتأمله يقول،ما كان يقوله(بيكاسو) بفخر؛(أنا لا أبحث... أنا أجد). لاتدع مرتسمات ولوحات (فهمي القيسي)فضلا عن كل ما أنجز من كتب فنية(آرت-بوك) وتصاميم داخلية لمباني ومكاتب(أنتيرنال-ديزاين)أدنى مجال للتماس والنيل من ملموسات لوحاته ومهموسات بوح ألوانها،وانهمارات شلالاتها وحيوية أفكارها المنسجمة مع خصوصية أشكاله الراسخة في ضميره الإبداعي وسبل التعبير عن ثنايا وعيه الوطني وموقفه بإزاء ما يحصل في بلده وما يتعرض وتعرض اليه من ويلات ومصاعب،تتضح وتتمحور في نسيج وطبيعة ما تصبو إليه تلك الأشكال والعلاقات،والتي لا تقف إلأ عند حدود ما يريد هو،وما ينوي و يتطلع وفق مقدرات ذلك الأنضباط العالي والوعي الراكز في متممات ونتائج ما يحصد-نهاية المطاف- لتخرج لوحته بكامل أبهتها وطغيان تباهيها الجمالي الخالص،مذيلة بخطوط طرية واثقة وإشارات برموز تراثية محكومة بسبائك ومسكوكات إسلامية،تتعاصر(من المعاصرة)فيها مفردات أعماله-الأخيرة بالأخص-وتبتهج بنسق حروفيات وتفويضات شكليه،تشعرها خارجة من قاموس خاص لا يليق إلا بتجربة(فهمي)الذي احترف الفن على طريقته وسجية تفكيره الجمالي المرهف واليقظ ،يوم قرر افتتاح مشغله الشخصي(أوتليه- نظر)-بداية التسعينات-لينظر من نوافذه،الى كيف ينال الفنان حرية الحقة،والتمهيد لعروض أعماله وسمو انشغالاته،بعيدا عن حاجة المؤسسة الرسمية،وليكن ذلك المشغل أو تلك القاعة محفزا للعديد من كبار التشكيليين من طراز(محمد مهر الدين)و(أكرم ناجي)و(ليزا الترك)وغيرهم في إقامة عروض ومعارض على جدران هذه القاعة-المفخرة، ولتغدو حلما للفنانين الآخرين في عرض نتاجاتهم في(أأنق)قاعة عرض في العراق رغم أن مساحتها لم تتجاوز الأربعة أو الخمسة أمتار،طبعا الى جانب قاعة بغداد للفنون التي أسستها الفنانة القديرة(سميرة عبدالوهاب) في نفس تلك الفترة،لكن مساحتها تفوق كثيرا مساحة(نظر)،تلك القاعة التي أكل عليها الدهر وشرب،كانت قد شهدت معارض شخصية وشخصية لعدد كبير من الفنانين من مختلف الأجيال،نذكر-هنا-للتذكير على سبيل المثال(هناء مال الله/كريم رسن/سعد القصاب/خالد وهل)واخرين.
عن المدى
|