المقاله تحت باب محور النقد في
09/12/2007 06:00 AM GMT
تبادل الجمل الفصيحة وغير الجادة مع الفنان محمد الشمري باتت واحدة من متعي . بدأ الأمر من محاولة لفهم عمله الفني : تهيئة الاجواء لسماع رواية عن حياته ، محاولة القبض على تفصيل له دلالة ، مناوشات التعرف ودروبها نصف الخفية . ثم تغير الحال الى اللعب والازعاج المتبادل والتمثيل . سألني : هل أنت جاد ؟ قلت : ولا مرة طوال حياتي في العراق . قال : أنا وأنت متفاهمان إذن .
من محاولتين ملتبستين فهمت أنه لا يحب القبض عليه جادا : تلك خيانة ! سريع الضجر ، تنتابه رغبة سعيدة لإتلاف حديث إذا ما استغرق خمس دقائق : يا للوقت . ما هذا الإسراف؟ أهذه رواية؟
ما كنت أعرف بعد أنه قضى سبع سنوات من عمره في خنادق الحرب ، وأنه يريد أن ينسى ، ويشفى ، محتقرا الأحاديث المطولة عن نفسه ، اعترافات الآخرين عن أنفسهم ، أحاديث الثقافة المخادعة ، والوقت الذي ينقضي بالدفاع عن رأي أو بالبحلقة أو بتصنع الاهتمام أو بالتدخين أو بالجدل أو بالدلال والحب والكراهية . أسألك – قال – ماذا يأمل المرهفون بعد نجاتهم من الموت ؟ أجبت وأنا اتصنع الحزن : أن يموتوا من الضحك . وراح يخرط الهواء بأصابعه العشرة مثل ممثل فاشل ويصيح : شبابي شبابي ! ورددت خلفه : ضاع ضاع !
كان يظهر أيام ليغيب عاما أو عامين . وهكذا يمكن القول إن لقاءاتنا في بغداد معا لا تتجاوز أربع مرات . واحدة منها أراني كاميرته الرقمية المتطورة ، وهي المرة الاولى التي عرفت فيها شيئا عن هذه التقنية في التصوير، وتعزيزا لهذه المعرفة التقط لي صورة رأيتها على شاشة الكاميرا فورا وداعبني بالكلمات التالية : سوف أضعها في فلم رعب سأخرجه قريبا !
في المرة الثانية أراني انموذجا أعده مما يسمى بفن الدفتر ، وهو انموذج مبكر ، لعله يسبق تجارب مماثلة لفنانين عراقيين . في هذا الدفتر استشراف مبكر كذلك لما سوف يحدث لمدينته من استباحة واحتلال بعد عدد من السنين، وإن حولها الى تاريخ قديم يعود الى سقوط بغداد بيد المغول . فن الدفتر يحتفظ بتذكارات وإشارات وخواطر وشيء من التمثل والخيال . دفتره هو خرج من عتمة خندق ضيق للرصد والموت ، فاستولى على العتمة التي تتلألأ فيها أضواء خافتة آتية من بعيد، وانطبعت عليه الانفجارات التي تخلف وراءها ضياءً اسود بثقوب فارغة. في ما بعد عرفت أن انطباعي هذا يتضافر مع تقشفه باللون ، ومما تبقى في ذاكرته من احتراق الخشب والأوراق.
في المرة الثالثة أطلعني على دفتر آخر يضم آثار حرائق تاريخية ، وربما احتراقاته الشخصية ، ومن بين رماد اللون الاسود تظهر ارقام وعلامات من تلك التي نجدها على رزم الشحن الخشبية أو الورق السميك المقوى الذي يغلف البضائع المشحونة . وسوف لن تفارقه هذه العلامات في ما بعد .
في المرة الرابعة .. .
قال لي : هل كانت هناك مرة رابعة ؟ أجيبه : نعم .. عندما تحدثنا عن العقدة العراقية . قال : تحدثنا عن عقدة لا حل لها إذن! ثم أضاف : هذه لا تحسب . قلت : سوف أشطبها!
من الأشياء التي لم أكن أعرفها عنه عزفه على الكيتار في فرقة موسيقية كانت تحيي حفلاتها في احد النوادي الاجتماعية الشهيرة في بغداد . سمعته بعد سنوات يعزف، وبدا لي فاقد الصبر ، وبعزفه الارتجالي راح يسمع نفسه لحنا شائعا من دون مشاعر شخصية. هل أخذه الرسم عن الموسيقى؟ أظن أن دوي الحرب غطى على الموسيقى. لقد ظل يسمع في أحلامه وأثناء ما هو مستغرق بعمله دوي إلقاء قنابل وصواريخ في مكان ما من رأسه ، تلحقه أصوات نداءات واستغاثات ، وجندي يطلب منه أن يخفض رأسه. كان ينصت بخشوع كأنه تسلم رسالة من حياة سابقة غريبة ، ويعجب كيف أنه بعد هذه اللحظات من هجوم الماضي ينتابه شوق للعودة الى خندقه القديم . يتساءل كيف أنه كان يموت يوميا هناك ويود العودة الآن . وأردد أمامه جملة مبتورة من قصيدة للشاعر ريلكة : كم ستكونين جميلة يا ليالي العذاب ! ويوضح بحزن : تعلمت هناك التضامن الانساني . أتذكر الوجبات المشتركة وشرب الشاي ، وامتنان الجنود العميق لبعضهم البعض في ظروف الخطر والموت. الحياة كانت تبدو آنذاك أقوى . إنها مفارقة.
الحقيقة إن الحرب التي سرقت من شبابه سبع سنوات كانت قد اندست في جسده وعقله وذاكرته ، ثم تحولت الى ظلال و أشباح وتذكارات راحت تتقافز في عقله بين الحين والحين ، كما خلفت في حياته النفسية مشاعر الضجر وفقدان الصبر وانزعاجا شديدا من البطء والتسويف وتبجيل التقاليد.
لست أدري كيف حدث الآتي : كلما أواجه عمله الفني أراه في خيالي بين أكداس من صناديق العتاد المفتوحة والفارغة - آلاف الصناديق بعضها يكاد يشبه التوابيت . ألواح خشب متطايرة ، ألواح وضعت تحت أفرشة وأغطية ، أسرّة خشبية مصنوعة على عجل ، ألواح لإسناد جدران شقوق وخنادق. وكان هناك وحده بين ألواح الخشب وصناديق الذخيرة الفارغة أشبه برجل معزول يحاول أن يصنع له فلكا للإبحار عليه في صحراء ممتدة أمامه.
لعله هو الذي أعطاني مثل هذه الصورة ، لعله صوّر نفسه أمامي على هذا النحو ونسيت . لكن المؤكد إنني رأيت بعض أعماله الفنية الخشبية المدهشة ببدائيتها وحذاقتها ولا أهميتها البريئة وأعجبتني. شيء فولكلوري لا يشبه النحت ولا تعرف وظيفته تماما ، شيء يشبه المحراث بلا سكة ، وثمة أشكال تتشبه بالنحت مركبة من مواد مختلفة بين خشب وحجارة وقضبان حديد وخرز وخيوط وقطع أقمشة . ومن دون أن يعمل على انموذج واضح ويكرره راح يرقّع ويصنّع كولاجات بدائية من مواد مختلفة جرى التنسيق ما بينها فظهرت في أشكال متنوعة، رهيفة، خرقاء، لا معنى لها ، فاتنة ، بعضها تشبه شخبطة في الفضاء وبعضها تبدو توقيعا متحذلقا ، وأثرا من حضارة بائدة لا نعرف عنها شيئا .
كان هناك إذن في محنته، في جزيرته الصحراوية ، يبني شكلا ذائبا ، يتماسك بالكاد ، هزليا ، حلوا ، هوائيا ، لا يصلح لغير التأمل ، من خشب مغلفات الموت .
في ما عدا ذلك كانت لوحاته تتمثل خشبا وتقنيته تتكيف الى هذه الحقيقة حتى وهو يرسم على قماشة ، أما الاشارات التي يطبعها عليها ( وهو وسواسي باستخدام الكومبيوتر وتقنيات الطباعة منه واليه ) فهي منسجمة مع فكرة لوح خشبي ببعدين يصلح أن يسقط عليه أفكاره أو تذكاراته : وثائق لغوية وقصائد وايقونات شركات التغليف من أسهم ومظلات وتوجيهات ، ثم الولع الجنوني في إظهار طمغات البريد والطوابع القديمة . كانت علامات وآثار ما يسافر ويرحل يهزه . فهل يحب السفر أم يخافه؟ هل يحب إقلاق راحته بتلك التحضيرات المرهقة للمغادرة والسفر من إعداد رزم وحقائب ووضع الأعمال الفنية بمغلفاتها باحتراس والاستعداد للتصرف كيتيم حر يحمل حقيبة سفر ؟ أم استولت عليه في أيام الخنادق روح متابعة رزم البريد وقراءة رسائل الجنود الى ذويهم ؟ أم أنه في لحظة خوف من موت مؤكد سقطت عينيه على كتابة مطبوعة على ألواح الصناديق ، وقد قرأها في ظلمة عقله في تلك اللحظة الخرقاء بجدية لامعقولة ، فإذا بها تطبع في لوح لا بعد له، وإذا بها سحر ، وإذا بها تعويذة وطوطم ؟
سألني هل تعتقد أنني سأجيب على كل هذه الاسئلة؟ قلت : أنا من يعارك الآن . أنت نجوت وأنا أحاول ...
في أحد أيام غربتنا المشتركة أرسل لي بالبريد الالكتروني نصا مختصرا ضمّنه ما يعتقد أنها مرجعيات تجربته أو خلفياتها. إنه نص اصطلاحي لا يخلو من الادعاء بحداثة موتورة وهستيرية . لعل أهميته أنه يماثل أحاديثنا الجنونية من حيث بناء الجمل ، بالأحرى ابتلاع الجمل ، لكن سأعرف في ما بعد انه كان يحضر لتجربة جديدة وهذا النص تحفيزي واختباري . اليكم بعض مفردات هذا النص : عولمة ، باركود ، هارد كورد ، وجبات سريعة، صواريخ ذكية ، ايميل ، شاشات مبرمجة ، أسلحة دمار شامل ، ايدز ، جنون البقر ، حرب عبر القارات، ارهاب ، رسائل من هولاكو ، صراع الحضارات .
لا نفهم من هنا شيئا غير العناوين . لكن هذه الجملة الشخصية واضحة :" يتجاوز ذلك سرعتي على الرصد والتأمل ." و " لقد تغير كل شيء"!
هل هذا مدخل جيد لإنتاج أفلام فديو قصيرة؟ يضحك . قال : لقد بترت الجملة . سأعيدها عليك " لقد تغير كل شيء : المعاني والحروف والكلمات ولغات الاتصال ، مثلما تغيرت المشاعر والحواس ." بهذا المعنى نعم ولا . المؤكد إنني أتعلم وألعب وأحاول أن استفيد من الوقت. المؤكد ايضا إنني يجب أن أكيف نفسي لسرع اضافية هي نظير لسرع موضوعية تلفنا جميعا، وهذا لا يتم الا بالتمكن من تقنيات جديدة .
انتهى حتى الآن من إنتاج فيلمين وباشر بانتاج ثالث . الفلمان يتصفان برمزية مكثفة جدا ويضغطان فكرة عن الصراع والموت المجاني واللاجدوى ، بل إن اسمي الفلمين : ( شطرنج ، وأسود وأبيض ) يحملان تماثلا يتجسد في تباين لوني واضح . لقد فكر بلونين وبلعبتين ، فكر ربما بجيشين ، بقائدين ، بهذه الثنائية شبه الدينية المدوخة ، الأسود والأبيض ، لكن من دون أن يذهب الى رمزية الضوء والظلام أوالخير والشر. في التنفيذ لا يلعب هو بالابيض ويلعب الاشرار بالأسود .، حتى رقعة الشطرنج لا تعود رقعة لعب بل ساحة خرقاء لمعركة خاسرة . الجنود والملوك والخيول والفيلة والقلاع لا ادوار لهم منفصلة في هذا الانتحار الجماعي . عندما ندخل في لعبة جهنمية تستقل اللعبة عنا ، الكل يحترقون في نهاية الفلم . الجميع هم سود والجميع هم بيض في نار مشاريعهم السخيفة والجنونية.
في فيلم الاسود والابيض يختار لعبة المصرع الطفولية . ههنا كان عليه أن يميز بين الاسود والابيض ويؤكدهما كوحدة صراع . المصرع الأبيض يميل ويحتك بالمصرع الاسود ، الثاني يمر من خلف الاول وينخسه فيبتعد هذا ويعود يقترب منه . لعبة تحرش وإسقاط الواحد للآخر ثم السقوط معا. يتذكر محمد الشمري لعبة طفولية مثيرة تحيلنا عبر تداعياتها السياسية العراقية الى لعبة الصراع الجارية هناك. يعني المصرع الدوران حول النفس ، ولعل مادته اللغوية لها علاقة بالمصرع بمعنى السقوط والموت ، ومرض الصرع بارتعاشات المريض وسقوطه. أتذكر أنا نفسي عندما كنت طفلا كيف كان مصرعي في ساحة المغالبة الطفولية يصدر صوتا بسبب ثقب عملته في جسده ، وبهذا الصوت كان يبدو وحشا يخيف المصارع الاخرى ، الا انه عندما ينهي زخمه يبدو دائخا مضطربا ، وعندما يفرغ تماما يسقط بارتعاشة تدفع به الى الخارج كأن روحه خرجت منه ثم يجمد. لقد ذكرني محمد الشمري عن ماضيي على الرغم من أنه كان يشير الى اللعبة الجارية في العراق ، حيث ساحة الصراع أكبر والأشخاص الذين يمثلون لعبة المصارع مجازا يبتعدون ويتربصون ببعضهم البعض ويطلقون النار.
يقول لي محمد الشمري في النهاية : إنني خائف من الحالة التي يدفعوننا اليها : أن نحفر خنادقنا بأيدينا ونتفسخ فيها. وأضاف : فيلمي الأخير هو أرض السواد !
|