كينونة الإنسان في لوحات مشبعة باللون

المقاله تحت باب  محور النقد
في 
21/01/2008 06:00 AM
GMT



برهان صالح يبحث عن دهشة لم تستهلكها العين
 
 

 
يمتلك التشكيلي العراقي برهان صالح تجربة تشكيلية عريضة في إبداع اللوحات المصورة أو الرسوم المنفذة بتقنية الحفر الخشبي (الجرافيكية) والتي تمتاز في الوقت نفسه بالغزارة في الإنتاج والسعي المتواصل نحو تجريب دائم يفي بحاجة الفنان الداخلية للوصول إلي نتائج لم تستهلكها العين من قبل وتمنح البصائر استشرافات نضرة لا تمل أبدا من استجلاءها عبر طاقات اللون أو نصاعة الأبيض ورصانة ورسوخ الأسود. وهو فنان يعشق الاشتغال الدؤوب كما أنه دائم البحث في شتي العلاقات البصرية الخطية واللونية التي من شأنها- وتوالداتها المختلفة- أن تضيف إلي تجربته الإبداعية رؤي وحلول جمالية متجددة لا تخنع لأسلوب محدد ولا تتواري خلف قناعات سطحية عديمة الجدوي وهشة لا وجود لها ولا مكان مع عمق الطرح الذي ينبع عبر علاقات ومكونات لوحات تقدم ذاتها دونما ادعاء أو تضليل. الصياغة وما يجب أن تكون عليه هي أحد الركائز الأساسية في منطلقات برهان صالح الاشتغالية التي يوليها جل اهتمامه في السبيل إلي تفعيل خطابه البصري، وهي في ذات الوقت معلم من معالم عالمه التشكيلي فمنها وبها وإليها تولد المعاني وتتتابع النتائج وتتحلق القلوب في موضع يرتجي منه دوما أن يكون بؤرة التقاء وتجاذب كلما كان أمينا في إيصال الأحاسيس ونقل التعبيرات والانفعالات وتدشين المضامين.
فالتفكير المرئي الساعي دوما لإيجاز دقيق لمجمل من الأفكار والطروحات الذهنية والأحاسيس والمشاعر الوجدانية لهو أحد أهم المستهدفات التي يحاولها التشكيليون في منجزاتهم التي يتخيرون إظهارها للوجود من خلال أساليب بعينها يرونها تتسق مع قدراتهم الآدائية إضافة إلي كونها الأكثر ملائمة في لعب دور الوسيط الأمين بين المحمول الذهني والمنتج المرئي المتحقق فعليا مع الانتهاء من عملية الإبداع ذاتها

ولوحات برهان صالح تعني فيما تعني من موضوعاتها العديدة بعوالم أسطورية مستلهمة من الموروث الحضاري العراقي القديم ، وهو موروث عريق وعميق تجلي في كثير من الآثار والمنجزات الفنية الحضارية منذ آلاف السنين ونري له الآن صدي واستلهامات كثيرة في شتي فنون البصر وغيرها من أفرع الإبداع الأخري كما أنها تعني أيضا بالشخوص البشرية من نساء ورجال يؤلفون فيما بينهم مشاهد درامية متنوعة وموحية بأكثر من معني فنراهم تارة يستجيبون لعناق والتحام حد الذوبان والاندماج في كيان واحد وتارة نراهم شاخصين في حالة من الترقب والانتظار والتحديق إلي حيث لا يمكن لنا ان ندرك المتواري في تلك المرامي والماورائيات النائية.
وتأتي الرموز والإشارات الخطية والرسومية كالزهور والأهلة والنباتات وأجزاء من الأسيجة الخشبية أو المعدنية وغير ذلك من العناصر المنتثرة في ثنايات المسطحات البصرية كأدلة صغيرة تقود نحو المضامين العميقة والفلسفات والأفكار الرصينة التي لا تتكشف إلا لمن تريد من متأمليها والباحثين بإخلاص عن كنهها.

وعن تجربة برهان صالح يكتب الناقد عدنان حسين احمد: " لا يميل برهان صالح إلي المحاكاة الصماء، ولا يستسيغ التقليد الأعمي، وربما هو يعيد طرح السؤال الكبير الذي أثاره هيغل وهو" لماذا يبذل الفنان جهداً مضنياً من أجل تقليد ما هو موجود فعلاً؟ ". فمحاكاة الجمال الطبيعي ليس همه الأساسي، لأن هاجسه الأول هو خلق الجمال الفني، والإستمتاع به. من هنا قلما نجد تكراراً أو نسخاً أو إعادة إنتاج ما سبق إنتاجه في مجمل تجربته الفنية، اللهم إلا في بعض المقاربات الطريفة الناجمه عن الحب والوفاء والإخلاص لفنان ما، كما حدث في معرض " دوكم " المشترك مع الفنان ستار كاووش، إذ أنجز برهان ثلاث لوحات تتطابق كثيراً مع موضوعات وتقنيات ستار كاووش حتي أنه لم يُحرمها من إسم " رجل وإمرأة " وهو ذات العنوان الذي كان يحمله أحد معارض كاووش الشخصية. إن ظروف الإعتقال، والتجارب النفسية المريرة، وما ولّدته من ضغوط شديدة الوطأة تركت بصماتها علي منجزه الكرافيكي خاصة والتشكيلي عامة. وقد تجسدت هذه المعاناة الشخصية في أعماله الفنية. فلوحته أو عمله الكرافيكي لا يضج فقط بالرموز والإشارات الأسطورية، وإنما هناك طلاسم، وأيقونات، وشيفرات توحي بالضغط النفسي الذي كان يتعرض له الفنان طوال حياته في العراق."

ولأن خطاب برهان صالح هو خطاب لوني في الأساس فإن المسطح البصري لديه يضج بالألوان الصريحة الزاهية التي تتجاور فيها الألوان الحارقة مع الألوان الثلجية والباردة في تباينات لا تزكي روح التنافر بالقدر الذي تسعي فيه لخلق نوع من التعايش والألفة تحت مظلة منشودة تهدف إلي تصالح المجموع في عالمهم الواحد الذي يكون لكل منهم دوره المستقل فيه والذي لا غني عنه بالنسبة للبقية الباقية.. إن الألوان المتباينة تتصالح فهل تتصالح أيضا الطوائف والعرقيات هي كذلك بالشكل المامول والطريقة المنشودة؟

ويؤكد برهان في لوحاته علي تحرك وديناميكية المسارات الخطية وتداخلها بما يسمح له بإنتاج فيض من مساحات متقاطعة مع بعضها البعض ومتنوعة في أشكالها وكذلك فيما تشغله من أبعاد تتباين أو تتشابه خلال المساحات الكلية لمختلف اللوحات التي ينسج خلالها الفنان سيمفونياته اللونية المشبعة بالرغبات والطموحات وكثير من امنيات الانعتاق والتحرر والذهاب إلي حيث تكون الرحابة التي يصعب استقصاء حدودها أو تصور كنه خطوطها الخارجية المتلاشية حتي بداخل المخيلات.