من ذا تطلب عند صخور البحر،
لقد رجع الصيادون واقفرت الخلجان)،
لقد كنت اختبل، حين اعود بذاكرتي الى مؤيد وابحث عنه في الامكنة التي كان يرتادها وفي البيت الذي كان يسكنه وفي الطرقات التي كان يمر بها وفي صفحات الجريدة التي تحتضن تخطيطاته، ولا اجده.. فأصدق انه مات!!، يا للهوس الذي يضرب رأسي، ذات مرة اتصلت به على هاتفه المحمول، وذات مرة كدت أسأل عنه صديقه عبدالرحيم ياسر، وذات مرة اخرى قلت لصديق لي يعمل في مجلة (مجلتي): هل مازال مؤيد يزوركم؟!!.
ها هو قد مضى منذ اربعة اعوام، السابع والعشرون من تشرين الثاني يقول ذلك، كأنه يوقفني بيديه عند حاجزه المظلم، فأغمضت عيوني وسرحت في الخيال الذي تلاطمت فيه امواج الذكريات والحنين (قال الناس: اختبلت، من ذا تطلب عند صخور البحر، لقد رجع الصيادون واقفرت الخلجان!!) لكنه هناك.. في (بلم عشاري) يجوب مساحات نهر دجلة، يغمس ريشته في الماء ليرسم على وجه الافق احلامه ومشاكساته وسخريته وحبه لوطنه ويعلن اشتياقه لكل شيء فيه، اسمعه يحادث دجلة بلوعة (الجواهري) ويخاطب العراق بوجع (السياب) ويترنم بصوت (رياض احمد) وهو يحدق بالجانبين: الكرخ والرصافة، اراه واسمعه كما رأيته وسمعته لاول مرة قبل (16) عاما، وقد حملت اشعاري اليه وقد كانت تحاكي رسوماته الكاريكاتيرية، حولت تخطيطاته الى شعر عمودي، وفاجأني بتواضعه الجم وثراء اخلاقه ومن ثم تدهشه الفكرة ويبدي اعجابه بالعديد من القصائد وقد وضع قصاصات من ورق تشير اليها، ومن ذلك اليوم ابتدأت صداقتي به واذكر له الفضل في انه حرضني على كتابة شعر الاطفال وقام بنشره لي في (مجلتي) وزينة برسومات منه، ومرت السنوات تختزن الذكريات العديدة لي معه، وكنت اكثر صحفي عراقي اجرى معه لقاءات صحفية، بل انني كنت اعرض نفسي للخطر من اجله عندما كان يسافر الى الاردن من اجل العمل في تسعينيات الحصار، كنت انشر له تصريحات كأنه داخل العراق بعد ان اعلنت قائمة بأسماء شعراء وادباء ومثقفين وضعوا في القائمة السوداء، كان اسم مؤيد من ضمنها، حتى قيل لي من (انني اتستر على مؤيد !!).
قبل اسابيع من رحيله التقيته في جريدة (المدى) وحذرته من اهل الشر، وتوسلت اليه ان يخاف على نفسه لاسيما انه يجوب الامكنة لوحده، فكان يهزأ بهم ويعلن عدم خشيته منهم لانهم اجبن مما هم في رسوماته وتواعدنا على لقاء في معهد التراث الشعبي في (الاسكان) ولكن الظروف لم تحققه!.
اذن.. السابع والعشرون من تشرين الثاني عام 2005، اعلن رحيله مصابا بجلطة قلبية، لا استطيع ان اغمض عيني، فثمة كلمات مرئية عليّ ان اراها.
يقول عبدالرحيم ياسر: لا بد لي ان اقول بداية ان غياب مؤيد نعمة الفاجع سيغيرني الى الابد، ذلك لانه موجود في كل التفاصيل الصغيرة والكبيرة وفي الاشياء والاوقات والمشاريع والمستقبل، واراني مجبرا الان وفي المستقبل ان احيا حياة اقل جمالا وذكاء وصدقا ومعنى، وعليّ ان ابتعد كثيرا لأستوعب مشهد البطل، وانا لا ازال مسمرا بالذكريات القريبة عن المرض وغرفة الانعاش ورائحة المستشفى وملمس الموت واخر كلمة واخر قبلة ولون الدم وثلاجة المستشفى وهي تفتح والقبر مستويا بالتراب، لا ازال مسكونا بالكلمات والحنين ودموع المحبين وشمس وداليا ابنتي مؤيد.
ويقول اسماعيل زاير: كالابطال التراجيديين في الملاحم القديمة سقط مؤيد نعمة بضربة قلب، نعم.. كان بطلا تراجيديا برغم مظهره النبيل وصوته الرقيق وشفافية محتواه، ذلك لانه كان يمتلك قضية محددة يختصرها اسم العراق الجديد، ويقول شفيق المهدي: في لحظة قيامة مؤيد غطى افق العراق لون لم نكن نألفه نحن اهل البلاد، لون ليلكي، راعش، مضيء.. ارتسمت عليه مدن وجبال عامرة بشجر اللوز وسهول غطتها غابات النخيل وعيون.
ويقول صادق باخان: موت مؤيد نعمة ليس امرا طارئا يذهب مع الريح وانما هو تراجيديا عراقية لانسان نبيل عذب لم يكن يعرف سوى طقوس الصدامة الجميلة.
ويقول علي المندلاوي: كانت ضرباته موجعة جدا، ولهذا كانت ايدينا على قلوبنا ونحن نسمع وقعها المدوي على اعداء الحرية والتقدم والسلام واعادة البناء، وعلى الرغم من الايقاع المرعب لطبول الارهاب الذي كان يصل مؤيد عبر تهديدات مباشرة مطالبة بتغيير لهجته النارية تجاهها الا انه تجاهل التهديدات وقرر ان يقاتل حتى اخر نقطة حبر، اصر ان نرسم بها خارطة طريق وطن تأكدت ملامح ولادته. واذ ما ازال افتح عيوني لارى الكلمات، اراني احدق في كلمات زوجته ورفيقة دربه (ام حسن) قائلة: (لقد ترك مؤيد لي الكثير اضافة الى حبه الكبير، ترك في هذا الارث الفني العظيم الذي افتخر به طوال حياتي، ترك لي هذه التخطيطات التي لم تنفد بعد، ترك لي حبا من نوع جديد)!. واتوقف.. لست ادري ما افعل بعد، وثمة صور تتراءى لا حصر لها، واراني اقفز من مكاني باحثا عن شيء لا اعرفه، مرت امام عيني العديد من الصور له ثم رأيت الحبر الذي تتشكل منه رسوماته يسيل ليشكل لافتة تنعي مؤيد نعمة.
اوراق ملونـــة من حيــــاة مؤيـــــد نعمـــــة
قلت له ذات مرة، سأسألك واريد منك اجابات مختصرة، قال لك ذلك فبدأت معه وكشف لي اوراقا من حياته.
* من انت؟
- انسان منتم الى العراق.
* اول كاريكاتير رسمته.. متى؟
- عام 1967
* انت اخترت عملك ام المصادفة؟
- انا الذي اخترته، فقد كنت مهيأ ان ادخل كلية الطب لكن الرسم بشكل خاص جعلني ادخل معهد الفنون الجميلة.
* من علمك رسم الكاريكاتير؟
- انا علمت نفسي.
* ما اول كتاب قرأته؟
- مذكرات طبيبة لنوال السعداوي.
* ما الشيء الذي ندمت عليه؟
- لم افعل ما اندم عليه.
* ما الشيء الذي شعرت انك خسرته؟
- العمل في مجلة (باردون) الالمانية عام 1974 فلم اهتم للدعوة وكان المفروض بي ان اتواصل معها.
* هل انت سعيد؟
- اشعر بالسعادة.
* هل انت مشهور؟
- نعم.
* متى تشعر بالضجر؟
- عندما لا اعمل.
* ما اجمل كلام قيل فيك؟
- قول لخضير الحميري الذي قال على انني (شيخ الرسامين).
* من احب الناس اليك؟
- ابني حسن.
* هل احببت؟
- اكيد.
* ما المرة التي كرهت فيها نفسك؟
- لا اتذكر.
* ما اجمل واثمن ما في مكتبتك؟
- كتاب تاريخ الحضارة لمجموعة من العلماء الفرنسيين.
* متى تنتقد الاخرين؟
- عندما يخطأون
* ما الذي تحبه في اصدقائك؟
- الطيبة.
* ماهي علاقتك بالقمر؟
- لا علاقة لي به.
* هل تؤمن بالحظ؟
- كلا.
* متى تضحك؟
- عندما احس ان الناس فرحانين.
* ما الاغنية التي ترددها دائما؟
- اغنية (مشغول بغيري) لعبد الوهاب.
* ما الذي تسمعه من الاذاعة؟
- الاخبار فقط.
* ما اجمل مافيك؟
- التواضع.
* كيف ترى حال الكاريكاتير؟
- عندنا متلكىء وفي العالم متطور.
* من اقرب اصدقائك؟
- الفنان عبدالرحيم ياسر.
* ما احب اعمالك الى نفسك؟
- الرسم الذي فزت به بالجائزة الدولية الثالثة احبه وكان يمثل نبتة بسيطة تحطم جدارا.
* هل تعرف كم كاريكاتيرا رسمت؟
- تقريبا.. لا ادري!!
* انت اول من؟
- ادخل الكاريكاتير في النحت الفخاري في الوطن العربي والمنطقة واول من ساهم في رسم ملامح المدرسة العراقية الحديثة بالكاريكاتير.
* ماهي خلاصة هذه السنوات الطويلة من الرسم؟
- خلقت اسلوبا مغايرا للاسلوب السابق للكاريكاتير.
* ماذا تتمنى؟
- ان اضع الابتسامة الذكية على شفاه الناس.