المقاله تحت باب مقالات فنيه في
23/12/2008 06:00 AM GMT
فنانون عراقيون يجربون التحولات عبر اللون والطين والحجر
فلسفة تشكيلية تكمن في موجودات الحياة
أقام الفنانون قاسم سبتي وماهر السامرائي وعبد الكريم خليل معرضاً مشتركاً في قاعة حوار في منطقة الوزيرية قرب كلية الفنون الجميلة في بغداد ، اشتمل علي اعمال الرسم لقاسم سبتي والخزف لماهر السامرائي والنحت لعبد الكريم خليل ، ويعتبر هذا المعرض معرضاً نوعياً بحد ذاته ، لانه ضم ثلاث أنساق من الفن التشكيلي لثلاثة فنانين ، أثبتوا حضورهم في الساحة الفنية العراقية ، علي صعيد ماقدموه من اعمال في التحديث والتجديد وفي القيم الجمالية للرؤية البصرية ، وضعتهم منذ سنوات تحت المحك للخروج من عنق الزجاجة ، التي وضع فيها التشكيل العراقي الرائد في المنطقة والذي اثبت حضوره عربياً وعالمياً لعدة عقود ، وقد استطاع هؤلاء الفنانين كما استطاع آخرون من عدم الوقوع في فخ الاستنساخ والتكرار ، وايجاد الفضاءات التي يتحركون فيها للأفلات من هذه الانشوطة التي طالت العديد من الفنانين في عموم العالم ، فعند خروج الفن من بساط الاكاديمية والواقعية وبداية الثورة الانطباعية والتعبيرية ، بدأت روح التجريب هي السائدة في الحراك التشكيلي ، ليتوجها بيكاسو ومجموعة الفنانين قبل وبعد بداية القرن العشرين ، في البحث عن تحولات في سطح اللوحة ، التي جلبت اولي تحدياتها (الكولاج) اللصق ، ولم ينتهي الفنانون من ترسيمات في تجاربهم ، حتي اضحت بعض اللوحات مايشبه الريليف بما استحدثه الفنان من سطوح علي سطح القماش المستوي ، لايجاد البعد الثالث الذي يتسم به فن النحت . وهذا مايجعلنا نلاحظ ان البحث المستديم لبناء شكل جديد ، هي القيم السائدة في الساحة التشكيلية العالمية ، وان الاسلوب الواحد الذي كانت تتصف به خطوط وألوان وحتي بعض الاحيان المضمون ، الاسلوب الذي يميز اعمال الفنان ، ألغتها الحداثة ووضعت التجريب نقطة انطلاق الفنان نحو اكتشاف عوالم جديدة ، حتي تترسخ لديه الصنعة مع الموهبة في اللون والخط والشكل ، ليكون بعد تجارب قد تأخذ عمره كله ، ليصل الفنان الي تشكيل رؤية جمالية في اسلوبه كأعمال هنري مور النحتية وكاندنسكي وميرو وآخرون تنبثق منها فلسفته الحياتية تجاه الكون والوجود ، وليس قضية اعتباطية .
لون طين حجر
في معرض الثلاث الذي سمي (لون / طين / حجر) تجد هذا التفاوت في تجسيد روحية العصر ، ولكن هناك وحدة بناء متفق عليها وهي ابقاء الاصالة والعبور نحو التحديث والتجديد ، فالاعمال التي قدمها قاسم سبتي تعتبر مرحلة تجريبية جديدة في نطاق تجربته واستمرار لما عمل عليه منذ سنوات ، وبناء اللوحة باستعمال متبقيات اغلفة الكتب او الغلاف التي اطل بها علينا في معارضه السابقة ، اخذت في ابعادها النضجية ، وماقدمه في هذا المعرض رؤيته لسطح اللوحة مستنداً الي الفن البيئي ، وتأثير احداث الاثر علي سطح اللوحة وردود افعال المتلقي ، وما يمكن ان تحدثه هذه الرؤية البصرية فكرياً ونفسياً علي المتلقي ، مستخدماً اللواصق البلاستيكية مثل لصق شبكة بلاستيكية في اكثر من لوحة لاستحداث رؤية بصرية ببعد جديد علي ظهر اللوحة يحمل طاقة جمالة مختلفة ولكنها منسجمة مع التكوين العام في الخط واللون ، وفي نفس الوقت استخدم اسلوب الأزاحة والحذف الذي يمارسه النحات علي الخشب او الصخر او الطين ، باضافة مواد ملونة لاحداث طاقة تعبيرية حسب موقعها في اللوحة ، واعطاء ملمس اكثر بروزاً مما تمنحه كثافة اللون او تعدد طبقاته ، فان لوحة رقم (1) تظهر هذا التمظهر الذي يحدثه انشاء صورة جديدة لوجه اللوحة ، سطح يحمل قوة تعبيرية تمنح الرؤية البصرية ابعاد جديدة من القيم الجمالية وجماليات مختلفة في الابعاد ، وبهذا يكون قاسم قد قدم عطاءً مختلفاً في النضج لمفهوم النص ، وازاحة اقنعة النص ، بايجاد فضاءات اللون والملمس المفتوح علي عالم الرؤية البصرية المتأصلة والمتأثرة بمحليتها وباستمرارها في التجديد والتحديث ، فألوانه لم تحمل أي عتمة كما في بعض اعماله السابقة فهو في هذا المعرض اشتغل علي منطقة (الصفاء الروحي) من اجل خلق علاقة مباشرة بين اللون وبين احساسه المجرد لايجاد علاقة تبريرية بين اللوحة واللون ، وهذه العلاقة التبريرية بين اللون والشكل لمنح المتلقي لحظة (الصفاء الروحي) يستطيع من خلالها التركيز علي منطقة اضاءة بين شعوره المجرد من المسبقات المضمونية وبين اللون الذي يفتح له آفاق تأملية للعلاقات اللونية في اللوحة فـ (اللون كائن حي) ويأخذ ابعاده الروؤية حسب تأويلات الرؤية البصرية المباشرة بما يعطيها المتلقي وبما يوجده من تفسيرات للدلالات والتهويمات التي يحلل بها هذه الرؤية المباشرة والتي تتحول الي طاقة (والطاقة الوجه الاخر للمادة في ثنائية الوجود الفيزيائي حسب مفهوم انشتاين) وقد استعمل تحديد الاضاءة المنفتحة علي ذاتها ولم يضع خطوط تقاطع ، بل ظلت حتي الخطوط التي ظهرت في بعض اللوحات مفتوحة علي فضاءها ، وأشرك الالوان الباردة والحارة غير المنفعلة والتي تشترك بين البرودة والحرارة ، الرصاصي والبني والبني الفاتح والبيج ...الخ محاولاً تحقيق اكبر قدر ممكن من القيم الجمالية التي تمنحها الرؤية والمتمثلة بـ (الصفاء الروحي) .
ماهر السامرائي ...
عوالم جديدة
في هذا المعرض يستثمر الفنان ماهر باستكشاف عوالم جديدة من خلال البحث عن رؤي جديدة تفجر الطاقات الخلاقة للقيم الجمالية في اعمال الخزف ، فقد استطاع ان يبني مفاهيم جديدة في التعامل مع مادة الخزف من حيث وظيفتها او العناصر الجمالية التي تنبثق من بناءها الوظيفي الذي هو نتاج تاريخي لتعامل الانسان لحياته اليومية مع الخزف كمكون ملتصق بحياته المعيشية ، وفي اعمال ماهر تجد ان هناك انزياح من الوظيفة نحو القيم الجمالية التي تتسم به هذه الوظيفة ، وهي محاولات لها امتدادها التاريخي باخراج الخزف من وظيفته المعيشية واعطاءه قيم جمالية في الرؤية البصرية ، كنسق فني مجرد كرفيقيه الرسم والنحت ، فظهرت اعمال غاية في الروعة لخزافين في العالم ، تظهر مدي المهارة التي وصلها فن الخزف ولكن طبيعة الخزف تبقي محدودة ، فيظل الطابع العام لما ينتج يتراوح بين لفتة ابداعية وتشكيل مستنسخ ، وقلة من هؤلاء الخزافين الفنانين استطاع من الافلات من التأثير المباشر الذي يخضع اعماله للاستنساخ ، والفنان ماهر يتكيف مع هذه الحالة بعقلية ديناميكية ، فهو يتحرك ضمن المؤثرات لا ليصبح اسيرها ولكنه يهضمها ليعيد صيغ القيم الجمالية حسب رؤاه ورؤيته ، فأتخذ التجربة والبحث لايجاد الحلول ، وسيلة من اهم وسائل عمله في ايجاد هذه القيم الجمالية للرؤية البصرية في اعمال الخزف ، وراح يطور هذه المباحث عبر ايجاد صيغ تتواشك بها العلائق بين الانساق ، علي ان لاتؤثر علي الوظيفة الاساسية للخزف وتحويله الي نسق آخر ، ففي اعماله الاخيرة يلاحظ هذا التفجير في القيمة الجمالية ، بترسيخ بناء رؤية بصرية جديدة ، بعد ان وصل كما يعتقد الي حالة الاستقرار في ادراك مايريده علي السطح ، فهو كما يقول (انا اخربش علي صفحة الطين لتحقيق البعد الرابع ، فهذه الخربشة التي احدثها ، تمنح قيمها الجمالية في تحقيق بناء جديد للصورة المكتملة في ابعادها الثلاث) وقد استخدم في الاعمال الاخيرة مزجاً بين الطين العراقي كمادة اساسية لاعمال النحت والخزف للعراقيين مع مادة البورسلين ، التي استخدمها الفنان الصيني منذ قرون ، وظل البورسلين مادة محتكرة لدي الصينيين ، حتي انتشر في العقود الاخيرة ، فالمعروف ان الطين المحلي له سلوكه الخاص الذي يختلف عن سلوك البورسلين ، ويملك البورسلين قيمة عالية ، ويعتبر ارقي الاطيان ، ولهذا فهو يحاول المزاوجة لايجاد صيغ جمالية بين شكل القطعة الخزفية والألوان التي تتطابق روحياً مع مايريد ان يبوح به ، وهو بهذا يعتبر اول من استخدم مادة (البورسلين) مع مادة الطين ، وهي الحالة البحثية التي يريد ان يصل اليها بترقيق الطينة للوصول الي حالة مايسمي (الورقة المستقيمة) ويمزج هذا البناء بين الرسم والنحت في انتاج الخزف شكل رقم (2 و3) والاستفادة من كل الانساق والتقنيات ، ان الاعمال التي قدمها ماهر تشكل منحي جديد في عمله القائم علي البحث والدراسة وهذا مانجده في الاشكال باعطاء تشكيل لقطعة الخزف الشبيهة باللوحة وجهان مختلفان للسطح وكذلك الالوان التي يظهرها فيها نكهته الخاصة وروحية متفردة .
عبد الكريم خليل ...
تفجير قيم جمالية
يقول هربرت ريد في كتابه النحت الحديث (لقد اعتدنا ان نسمي كل الاعمال ذات الابعاد الثلاثة في الفن التشكيلي "نحتاً") ولكن التطورات الحديثة منذ بداية القرن العشرين ، اختلطت فيها الانساق ، وابتعدت عن الاسس القديمة ، ومن هنا نجد انفسنا امام رؤية بصرية تخضع لتجارب متعددة الاشكال في كل الانساق من اجل تفجير قيم جمالية في العمل الفني ، ونقف امام الاعمال النحتية التي ظهرت عبر قرن من الزمن والتي اخترق بعضها مفاهيم كثيرة ومن اهمها في العمل النحتي الكتلة والفراغ والاحساس بالحجم ، وقد استطاع هنري مور ان يضعنا في اغلب اعماله برؤية بصرية تبرز هذه القيمة الجمالية والمعادل الموضوعي بين الكتلة والفراغ ، وما يهم التأثير الذي احدثه رودان في مفهوم الجمالية للقطعة النحتية ، متحركاً من السكون الي الحركة وهو مانجده في اعمال مور وفي اعمال فنانين اخرين ، وتأكيداً علي الحركة مستفيداً من مفاهيم سيزان في فهم العمل النحتي علي ضوء ماوصل له سيزان في بحثه عن تأثير القاعدة والضوء ، الذي لم يعره رودان كبير اهتمام اي (الضوء) تلك الاهمية التي كان يحرك بها سيزان الكتلة ، وهو مايجعل رؤيته واقعية ، ولاشك ان تأثيرات رودان ومور وادولف هيلد براند ، وهي تأثيرات بدأ في سياقها سيزان ومايبس وروسو ورينوار ...الخ ولكن كانت جلة اعمالهم في الرسم وابداعاتهم في الرسم طغت علي ماقدموه في اعمال النحت ، وهذه الطفرات في البحث والاستدلال التي صاحبت ولادة الحداثة ، كان لها تأثير مباشر علي الفن العراقي ، وهو مااستطاع الفنان الراحل جواد سليم ان يهضمه ويمازج بين التأثيرات الحديثة والاصالة في تتبع تاريخ وتراث العراق العربي والاسلامي والقديم (البابلي والاشوري) و (نصب ساحة التحرير) بجملة الحركات التي تتسم بها المنحوتات استطاع ان يضع الخطوط العريضة لما يرتكز عليه فن النحت العراقي الذي مازال يمر من تحت نصبه علي الرغم مما قدمه النحاتون المحدثون من بعده ، والفنان عبد الكريم خليل علي الرغم من التأثيرات التي صاحبت دراسته علي يد الفنان اسماعيل الترك وتأثيرات جواد واهتمامه باعمال رودان واستفادته من حركة الضوء واهميتها علي العمل النحتي ، إلاّ انه استطاع ان يهضم ويذيب هذه التأثيرات لايجاد الروحية التي تتسم بها اعماله خارج نطاق التأثيرات المباشرة ، لاننا لانغفل تأثيرات الحركة التي أسسها رودان ، وكذلك نجد في اعماله تأثيرات التعبيرية الألمانية ، وعندما تقف امام منحوتاته في معرضه السابق والتي حاول فيها ان يقدم نموذجاً يشبه مايقدمه النحات في امريكا اللاتينية (البرازيل والمكسيك ....الخ) باضفاء اللون الي الناحية التعبيرية واستخدامه للكيس الذي ظهر في العراق لاول مرة عندما استخدمه المحتلون لاعتقال العراقيين والذي يغطي الرأس الي العنق ، ونجد هذا الشكل التعبيري في عمل لأيرنست بالارخ وخصوصاً تمثال (شحاذة مبرقعة عام 1919) لوحة رقم (4) ولكن هذا لايعني شكل من اشكال الاستنساخ ولكنه استفادة من تقنية لاظهار التعبير بألغاء التشخيص المباشر وحالة السكونية وهو ما دأب عبد الكريم علي استخدامه في اعماله من حالة السكونية الي حالة التأمل والانفعال بين حركة العمل والرؤية البصرية للمتلقي ، لابراز قضية مهمة وهي الاحساس الشخصي (بالحقيقة الداخلية) التي تتسم بها الانطباعية .
ان اعمال عبد الكريم تمنح هذه القوة في الحركة التعبيرية التي تجسدها القطعة النحتية واهتمامه بحركة الضوء ومايحدثه من انطباع علي انحاء العمل ، بأحساس مباشر باهمية الكتلة والحجم ومدي بروز الفراغات في الفجوات والنتوءات ويتركز اهتمامه في النهاية بوحدة المفهوم ، ونجد هذا الايحاء الذي تحدثه الحركة في التوترات العضلية ، وحتي في اعماله التي تكون السكونية هي الطابع الغالب الشكل رقم (5) إلاّ انه يهتم بالتعبير بقوة عن البوح الذي يريد ان يقوله من خلال البناء التعبيري باستخدامه الأقنعة علي الرؤوس ومن ثم هناك حركة جزئية في اليد او القدم التي تؤكد الفجوات والنتوءات ، وهو مايجعلنا نري بوضوح تأثير الانطباعية والتعبيرية في اعمال عبد الكريم محاولاً ان يجعل القطعة النحتية اكثر واقعية علي الرغم من عدم واقعيتها لانها في حالة سكون واستقرار ونجد ان الايحاء بالحركة الجزئية او الكلية ، الشكل رقم (6) هو الذي حدد لنا السمة التعبيرية ، كما انه يعتمد في ايجاد الانسجام بين الجسد والروح ، وان لم يكن الطرح واقعياً مع قطعة جامدة ، كما فعلها ميكل انجلو عندما صرخ انطق ، إلاَّ ان هناك صلة تمنحها القطعة فيما تبرزه من قيمة جمالية والأثارة التي تخلقها ، وهو مايؤكد هذا الامتداد الروحي ، وان ظل الجسد الانساني عصياً علي التجريد كمعيار جمالي ، إلاّ ان كشف العلاقات في الجسد العاري بعيداً عن النزوات الدنيوية ، وجعل الضوء ترجمة لكل ماتمثله الطبيعة ، هي الهواجس والتهويمات التي يعمل عليها عبد الكريم ، فالجسد عنده قيمة جمالية لها علائق مباشرة بين تناسقها والاشياء في الطبيعة ، ونلاحظ ان الحركة المموسقة التي تبرز في بعض اعماله النحتية ، شكل رقم (6) تصاحبها كتلة تستند عليها هذه الكائنات في حركتها ولكن هناك جذب من الكتلة الي القاعدة ، فلا تجعل هناك اختلال في الرؤية البصرية لتوازي المنظور في الشكل العام .
ان معرض (لون / طين / حجر) يشكل انعطافة في عمل الفنانين الثلاثة وفي استمرار حركة التجديد والتحديث في التشكيل العراقي .
|