أحد المباني التي دخلها زياد تركي ، احتلها حزب سياسي ثم غادرها خجلا، فأعيد احتلاله من قبل عوائل كانت هائمة ظهرت فجأة من فجاج البؤس العراقي القديم. بوابة مخلوعة منهوبة وقطعة بائسة الصقت على حائط جانبي كتب عليها بخط تلميذ بالابتدائية ( هنا يسكن عوائل وليس لصوص). لقد ردت هذه الكلمات الاعتبار الاخلاقي للساكنين الجدد. كان الفقر يحاول الكتابة لشرح وضعية تحتاج الى علوم كاملة لشرحها. تسلقت سلماً عارياً الى الطابق الرابع حيث كنت أعمل قبل نحو ثلاثين عاما . لقد تساوت شخصيات الغرف وتوزيعاتها الوظيفية ، باتت جميعها ملاعب هواء، عارية، بعد أن جردها اللصوص من الشبابيك والأبواب ، فيما بدت الممرات المؤدية اليها عصفا مأكولا من الأوراق والوثائق والصور والأضابير الممزقة.
وصف زياد تركي تجربة تجواله في مثل هذه المباني بنوع من التهكم المر:" داخل تلك المخلفات التي كانت في يوم ما بنايات ( محترمة!) تثير فينا الرعب ، والخدر ، والحذر ، والتقزز..." و " وجدت من يفترش الأضابير للمنام، وهناك من أقام مطبخه الصغير في زنزانة، ووجدت الأطفال يلعبون في مكتب أمين سر الفرع، وهناك صبي يغازل فتاته في غرفة المدير العام" و"هناك رجل وزوجته ناما في غرفة رئيس التحرير" . في تجربتي أنا لم التفت طويلا الى من كان يشغل تلك الغرفة الأخيرة، بل واصلت التسلق الحذر المخيف الى الغرفة التي شهدت شبابي. فكرت بكلمة نغلت في عقلي: الأواني المستطرقة ! كنت أسمع بكاء أطفال رضع ، وصراخ بهيج لأولاد يلعبون ، نداءات ، شتائم ، صدى رث يتنقل بين الطوابق والغرف ويجعل من الكلمات مجرد أصوات تخرج من لامكان ، فيما كان ناس يمرقون كالأسهم النارية يحملون فرشا وأواني للطبخ. أمام ما كان بابا للغرفة التي قصدتها رأيت صورة تكاد تماثل صورة التقطها زياد تركي : امرأة في الخمسين وطفلها او حفيدها يفترشان الارض كانا في حديث هادئ . الغرفة عارية فقد حجزت توا بانتظار باقي العائلة والاثاث . التفتت المرأة لي ورأت ابن الطبقة الوسطى الباحث عن ذكرياته. (أي مجد هذا!) لعلها فهمت انني كنت مرعوبا من يوم الحشر هذا ، بيد أن ابنها او حفيدها كان هو الآخر مرعوبا وهي الآن تقوي عزيمته وتساعده على اعتياد السكن بعمارة. قالت لي بلطف : انه خائف. فسألتها : مم؟ أجابت : من الدرج. رفض أن يصعد . حملته وهو يحتضنني مرتجفا. قلت لها: إنه محق. الدرج بات مخيفا بعد أن سرق اللصوص سياجه. شتمت المرأة اللصوص وطلبت من الله أن ينجيهم والعراق من كل شر !
عندما نزلت من العمارة كان الدرج يشبه بئرا عميقا تتصادى فيه الأصوات ويتسابق على سلالمه المحفّرة الاولاد الشجعان الذين يساعدون الكبار بنقل الاثاث البسيط .
كان زياد تركي قد حمل كامرته متنقلا بين عدد كبير من هذه الأبنية الحكومية التي بعد أن نهبها اللصوص، وبعد أن أحرقت بعضها جماعات مشبوهة ، شغلها ضحايا بلد استطاع نظامه السياسي اخفاء محنة مواطنيه طويلا . بلد أفقرته الحروب ، وأثقلته العقوبات الاقتصادية ، وحوله الاحتلال الامريكي الى صورة من صور يوم الحشر كما في رؤية يوحنا. والحال ان هذا الظهور المأساوي للبؤس والفقر امتاز بالشراسة وكرر ما كان يجري : احتلال جر احتلالات ، بؤس مختف يحرك بؤسا عدميا ليظهرا معا الى العلن مع أسنان تعض ، مطلبية اناس غير مسيسين راحوا يأخذون حقوقهم بأيديهم الآن وعلى الفور.
لعل ما أقوله الآن يجب أن نضيفه الى التحليل الاجتماعي والنفسي للحدث . تلك هي جانب من خلفيات صور زياد تركي في الحقيقة ، أما الصور نفسها فهي تتبع قواعد المصور الذي يقف خلف كاميرته . إنها صور معنية بالسلام العادي الذي يملأ فضاء الغرف بعيدا عن مداخن الحرب، مكتفية بهذا الوجود الذي يبدو هشاً بأثاثه البائس ووجوه سكانه الجوعى، الا انه يحمل الكفاية، ويواصل ما هو دائم في الحياة مقترنا بالحضور الانساني الحي للاولاد والبنات والامهات والآباء. تختفي الحرب . لاشيء عنها . حتى نتائجها المباشرة تطمسها ظلال الغرف المعزولة ، ووجود سقف عائلي ، وحيوية الصبيان وشغبهم الذي عرف الفنان قوته ومعناه وسط ذلك العري.
في تلك الايام ظهرت مجموعة فنية قريبة من زياد تركي تتحدث عن نفسها بوصفها من الناجين . بيد أن الفنان اكتشف بين الهياكل المهزومة، وحطام الدولة ، ناجين آخرين من أبناء شعبه، خرجوا من محنة الى المحنة ، وكانوا من الناجين دونما أي مواربة او غطاء رمزي، وسيصورهم هو من دون مزاعم ، بتعاطف واضح ، ومن دون اسراف في التكنيك الذي أعرف كم هو يجيده وشغوف به لاضفاء الفصاحة والتعبير الاضافي. ليس هذا الاختيار من دون معنى ، ففضلا عن روح شفافة متضامنة مع بؤساء شعبه من المهمشين ، فهم الفنان زياد تركي أن معركة الفن الآن هي الثبات على موقف ايجابي وطني، وتوثيق ما جرى في بلد مزقت وثائقه وأحرقت ونهبت آثاره الفنية ومتاحفه.
في فيلم ( غير صالح للعرض ) للمخرج عدي رشيد الذي صوره زياد تركي لا يبقى من الحرب غير دمدمة خافتة في الخلفية. كان المشروع الاصلي ليس ان نسمع صليات الرشاشات ونرى صورا عن الموت العنيف ، بل تقديم صورة تعبيرية لا تخلو من قلق وتوتر وحزن عن جنون فترة الاحتلال بوساطة خامة نافدة الصلاحية. كان فقر الواقع يستمر في خامة الفيلم ، نفاد الصلاحية الفني للفيلم اخبرنا عما نستطيع ان نحركه من قوانا المتبقية. لا اعاجيب . بل هذا الحزن . مجنون وجندي ميت وشريط غير صالح. ما نفع هذا؟ ولكن قد نعمل بأقل من هذا إذا ما كنا شجعانا ومحبين.
المفارقة أن زياد تركي الذي قدم شهادة متعاطفة عن الباحثين عن ملجأ وسكن يبحث الآن عن ملجأ وسكن عند مفوضية اللاجئين التابعة للامم المتحدة . الكثير من المبدعين العراقيين باتوا مثله!
