فيصل لعبي ..التفاصيل تتكلم

.

المقاله تحت باب  محور النقد
في 
18/02/2011 06:00 AM
GMT



العراق لغز ، طلسم ، سر غامض ، غموض المصير الذي يحيطه ، قوة خفية مثل القوة التي تتحكم في الكون ، علاقتي به تشبه علاقة ادم بالرب والشجرة والارض " اصلها ثابت وفرعها في السماء "  ... العراق هذا التكوين العجيب الخارق المدوخ المحير ، المتراكب الحضارات والامم والشعوب والاعراق والملل ..هذا القوي البهي في المعارف والابداع والخلق العجيب ، جيولوجيا المعرفة البشرية ، المجد الانساني ، الفخر ..والخصيب بلاحدود ..كيف اتصور انتمائي اليك ؟
                                                        فيصل لعيبي 

                                                           جريدة السفير 28/3/ 2003
اعتقد ان هذه المقولة القصيرة ليست بحاجة الى شرح وهي تشير بصراحة الى انتماء هذا الفنان ومرجعياته ..وستجيب عن السر الغريب ..عندما كنت في حلقة دراسية مع طلبة الدراسات العليا في كلية الفنون الجميلة ببغداد لهذا العام وطلبت من الطلبة في الحقل النقدي كل على حدة اختيار موضوعات للبحث داخل الفن العراقي ..جزء من متطلبات الدرس المهجي في النقد السيميولوجي .كانت المفاجأة غريبة ان ياتي ثلاثة منهم يرغبون بالكتابة عن تجربة فيصل لعيبي ..سالت احدهم عن سبب الاختيار ..قال : رسام قدير ..متميز الاسلوب ..عراقي بامتياز ..كما اكتشفت انه ليس رساما واقعيا كما يشاع ..

سأبدء من تقدير الطالب وبساطته ، لااعيد ترتيب السؤال عن الكيفية التي كان فيها فيصل لعيبي رساما بامتياز ؟

يتفق النقاد ومؤرخي الفن ان لهذا الفنان موهبةومؤرخي الفن ان لهذا الفنان موهبة جبارة في الرسم على طول امتداد تجربته لأكثر من اربعين عاما منذ تخرجه في كلية الفنون الجميلة 1972 ، ولم يكن في سنوات دراسته الوحيد الممثل للرسم "الاكاديمي" فقد سبقه استاذه فاءق حسن في انجازاته المهمة وكذلك جهود محمود صبري وحافظ الدروبي وكاظم حيدر اضافة الى تجارب زملاءه صلاح جياد ووليد شيت ونعمان هادي . ورغم الاتجاهات المتباينه لهؤلاء الرسامين ، الا ان شيئا مهما يجمعهم ..هو مواهبهم في الرسم الاكاديمي التي اثمرت فيما بعد بتجمع اسمه " الاكاديميون " وقد كتب بيانه واشار الى توجهاته الفنان كاظم حيدر ..

يقول فيصل لعيبي : " كنا غير راضين على مايعرض من اعمال –يطلق عليها معارض فنية _ بسبب معرفتنا بقدرة العارضين وبساطة تجاربهم الفنية وخلوها من ابسط مقومات العمل الفني وكذلك مايتعلق بالتعليم وطرائقه في معهد واكاديمية الفنون الجميلة ، وقد عانينا من محاولة بعض الاساتذة الذين كانوا لايطيقون الرسم الاكاديمي ، ولايجيدونه ..كان البعض منهم غير قادر على تصحيح وارشاد الطلبة حسب الطريقة الاكاديمية ، وهذا ماجعلهم يلحون علينا بترك هذا الاسلوب والذهاب مباشرة الى الحداثة الغربية والرسم التجريدي ..وهي اساليب اسهل عليهم من ورطة الرسم الذي لايحسنونه " .

لم يكتب لهذه الجماعة الاستمرار ولم تقمالا معرضا واحدا ..ثم تفرقت عندما جاء حزب البعث الى السلطة مرة اخرى وحدث اهتزاز عجيب في البنية الكلية للمجتمع وقد اشار فيصل لعيبي لذلك بالقول : " كانت الاحداث التي عرفها العراق لاتوصف ..ان كلمة عذاب لاتكفي لشرح ماآلت اليه الامورفي بلادي وهل يمكن وصف ماجرى ؟ ..الرعب الداخلي والخارجي ، الجوع والعري ..الام التي قذفت باطفالها الى نهر دجلة ليرحمهم من الذل وانتحرت بعدها لانها لم تعد تملك غير شرفها كبضاعة يمكن مبادلتها برغيف خبز ملوث بدماء الضحايا " .
ولهذا غادر الفنانون بلدهم يبحثون عن ملاجيء امنة للعيش وممارسة حريتهم الفنية والحياتية .
جواد سليم وفيصل لعيبي

كانت التجربة الاخرى الاهم في الفن العراقي عند جواد سليم الباحث والمفكر والفنان ، والذي حاول ايجاد اسلوب متفرد لبحثه في زوايا التراث والفولكلولر العراقي ..وكانت نظريته الاساس هي ان الفن لايتطابق دائما مع الذوق العام ..فقد يكف ان يكون فنا ..ان تطور الفن يحتم في بعض اساليبه تعارضا خفيا اوحادا مع الشكل الواقعي ..ليتجاوزه احيانا ..لقد سعى جواد سليم بهذا المعنى الى تشكيل الجسد الفني اكثر من سعيه للواقع وتمثيلاته ..وانتج مجموعة كبيرة في الرسم والنحت لازالت تؤثر في هوية الفن العراقي وبمجاميع الفنانين من بعده .ومنهم فيصل لعيبي الذي ادار ظهره فيما بعد لاغراء الرسم الاكاديمي وموضوعاته في رسم الطبيعة والريف والبداوة والاشخاص ...وتوصل الى تأسيس اسلوبه الخاص والغريب عندما استطاع ان يفهم " لغة النثر " لغة الوجوه والاجساد الخشنة التي ثلمتها الهموم ، لغة العالم البسيط غير المعقد وتوغله الى السمات الخفية التي لاترى احيانا ، نماذج الناس العاديين التي صورها بلا لعبة التجسيد الواقعي في توزيع الضوء والظل وقواعد المنظور التي يجيد العمل بها ..كائنات تتراكب في مدينة اسمها اللوحة .بالرغم من ان هذه الاشكال تضمر واقعيتها ..فكانت موضوعاته تقارب تلك التي عمل جواد سليم على تقديمها في لوحات " اطفال يأكلون الرقي والشجرة القتيلة ووليلة الحنه والسيدة وابن البستاني وغيرها "موضوعات تعلن عن نفسها باسلوب لم يكن مألوفا في بساطته ورقته وانسياباته الشعرية .وعليه عمل فيصل لعيبي في انتقاله من تثبيت الحضور الانساني المجرد في اعماله الى السيرة الانسانية ..واحسب انه التقى في المحتوى مع استاذه باسلوب خاصعمل على تفعيله في اعماله الاخيرة ..في لوحاته اطفال ونساء عراقيات في الملامح والهيئات واللباس تحيط بهم علامات تؤشر الى الفضاء الثقافي لتلك الفترات ..العادات والتقاليد المحلية والسيرة الشعبة " رسم ستكان الشاي ، المقهى ، اللباس البغدادي ...وكأن اعماله لاتسمح ان تشاهد دفعة واحدة بكليتها من دون تقطيها الى فروع ها ووحداتها الصغرى ..وبالرغم من ان هذه الوحدات في حد ذاتها لاتحمل معنى الا ان طرائق تركيبها واسلوب تعالقها يشيران الى ان الفنان قد ثمل بالتفاصيل المرئية وذهب الى ابسط عناصرها .وسعى الى استنطاق العادي واليومي والمألوف وصولا الى ملمسه ورائحته .لقد ظهرت قدرات الفنان في مجال الرسم واضحة في تنظيماتهلعوالم تشير الى الظاهرة لكنها لاتحاكيها وان اهتمامه بالتفاصيل " الاكسسوارات " تحديدا هو الذي خلق انطباعا عاما بالسرد باعتماده على عين خبيرة وحادة وثاقبة ..وهي احدى خصائص اسلوبه العام .

رسوم الاطفال

كنت في سبعينيات القرن المنصرم اعمل في صحافة الاطفال ( مجلتي والمزمار ) وكان اسم فيصل لعيبي يتردد كرسام للاطفال اضافة لرسومه الصحفية والتوضيحية في مجلة الف باء .ولاني اعمل بذات الوسط فقد تعرفت على فيصل لعيبي صدفة ، كنت يومها صغيرا ومبتدء في العمل الفني .

في احد الايام ذهبت الى المطبعة لمتابعة انجاز طباعة مجلتي ، وفجأة دخل شخص يرتدي ( دشداشة ) سلم على الجميع وجلس على احد الكراسي وسط ذهول الجميع ..لقد كان المنظر غريبا خارج العرف الذي فرضته تقاليد اللباس الرسمي ..ثم بكل هدوء مسك قلمه وبدء يرسم .
سألت من هذا ..قالوا فيصل لعيبي ..انه غريب بقدر ماهو طيب ، كانت بالنسبة لي فرصة لاتعرف عليه وكان من يعرف رساما مثله يعد امتيازا بالنسبة لنا نحن طلاب الفن ..فاقتربت منه ، سلمت عليه وعرفته بنفسي ..رحب بي بأدب لكنه لم يعرني اهتماما يذكر مثلما كنت اتمنى . !؟ بعدها التقيته في مجلتي والمزمار عندما بدأ يرسم شخصية( نبهان ) للاطفال التي اشتهرت فيما بعد مع رسوم زملاءه في الفن صلاح جياد ووليد شيت وطالب مكي وهم اضافة لفيصل لعيبي قد اسسوا منهجا لرسوم الاطفال يتكيء على قدراتهم في الرسم الاكاديمي .
وبعد اكثر من ثلاثين عاما ، التقيت فيصل لعيبي في عمان على هامش معرضه في قاعة الاورفلي العام الماضي ..سلمت عليه فلم يعرفني !