لقد حظي الفن العراقي بتقدير واعجاب المتخصصين والنقاد العرب. أن هذا الاعتراف التاريخي والوثائقي شاهد على نضج وجدية ممارسة ما تزال تشكل نفسها تحت مظلة من الأحداث التي رافقت النتاجات التشكيلية والمفهومية للحركة، لتأكيد الخصوصية المتميزة لهذه التجربـة. ومادمـت لا ارغب في اعادة رسم المسار المخادع لهذه التجربة منذ اكثر من ثلاثين عاماً لاسيما التصويرية منها، ولا تقديم محاولاتها المدهشة، فأني سأكتفي بتأكيد أهمية المرحلـة التاريخيـة المذكورة. التي كانت مليئـة بالمشاريع الفردية و الجماعية، والاشارة إلى أن هذه السنوات تشكل مرحلة مهمة وحاسمة.
من الواضح أن هذا الموضوع يمثل وسطاً ثقافياً لدينا. ونحن نحمل عنه تذكارات، واكثر من هذا لدينا قائمة بعناصره وعلاماته. انه الجزء الظاهر منه فسره الكتاب والمثقفون في الوسط الثقافي، لكنه في ما وراء الظاهر يشكل الهوية الحقيقية في البنية التشكيلية التي سادت حقبة غير قصيرة من الزمن.
ومن الملاحظ أن المنجزات الفنية تمثلت و هضمت اختلافات اسلوبية مهمة و لست هنا بصدد دراسة الاساليب، لكن الكليات الاسلوبية يمكن ان تعطينا اضاءة في اكتشاف القوانين والكيفيات واللعب الفنية. فهل يمكن تمثيل البائسين و البؤس والقسْر و التخلف في صورة، من دون الخروج على تحديـات التشكيـل والسياق الذي يحكم صورته الانسانية والحداثوية على سبيل الافتراض ؟
فاذا كان الامر كذلك فاننا سنقع تحت مشكلة الاختيار التي ستطرح نفسها بقوة في اشتغال دائم على حدود حقل الموضوع فقط، وسوف يتحدد الاسلوب في النهاية منطلقاً من متطلبات المدلول ليؤسس خطاً فنياً في فضاء جديد له رموزه وثقافته المستقلة بعض الشي. التي تقترب من خطاب الصحف والمجلات، أم ينفلت الفن في تاكيد حقل اسلوبي باتجاه اقصاء المضامين والايدلوجيات التي تفرضها البيئة الثقافية ؟
ان هذه الجدلية تفتح نفسها، لكن حين تنفتح كلياً تنهـار لصالح الاثنين معاً.
فالفنان العراقي ونزعته في دراسة المكان تشكل بحد ذاتها النظام العلامي والاستعارات والاساليب التي حددت هوية هذا الفن.
لقد توجه الفنان إلى الخارج. فاصطدم بجدار من التوجع، و حوصر من اتجاهات متعددة حتى أن الفنان العراقي ظل يراقب الخارج لتسجيل ذاكرة فردية محمولة على الوثائق الحقيقية منها و المزيفة.
وثمة توجه الى الداخل لا يقل أهمية، انه بحث متجدد في العالم الفردي ورموزه.. يقظته وحلمه يمكن أن نسميه مونولوجاً وجدلاً داخليا.
أن الأسلوبية والشعرية أصبحتا موضوع مناورة، لان الداخل نفسه مؤسلب مترع بالمزاعم و وجهات النظر والثقافيات والآراء والتجارب الشخصية. من هنا أضحى تأويل العمل الفني ممكناً واحتمالياً من خلال دلالته الداخلية.
في هذا المناخ لا تظهر البيئة العراقية في الفن، او ما يمكن أن نصطلح عليه بالخصوصية كأنساق أو نسق ظاهر بل نسق غائب ومختزل لمدلولات ثابتة و قارة حتى في وجدان الناس الذين يريدون فهم ما يجري . فاللوحة التشكيلية تنشطر حال القراءة إلى لوحتين لوحة مرسومة و لوحة مكتوبة في القراءة.
أن اللوحة المرسومة تحاول انجاز لعبة التركيب، وتحاول الأخرى إعادة التركيب، وبين هاتين اللعبتين حاول الفن العراقي أن يقول كلمته في العودة الى قلب الكلمة التي نطق بها الانطباعيون:" إنكم لا تصورون الشجرة وإنما النور الذي تعكسه الشجرة".
ونقول: " إنكم لا تصورون المرئي وإنما ظل المرئي " ! ، حيث يصبح العالم بأجمعه امام الفنان عالماً ضبابياً وأن التصوير هو انجاز الظل المتخفي وراء الضباب. وامام هذا تحتل الذاكرة البصرية موقعاً مركزياً.
أن ما تحمله الذاكرة من الركام الوثائقي للفترة ( الأيديولوجية ) طوال الثلاثين عاماً قد خرج الى الوجود بشكل علامات هجينة من الرصيد الهائل التاريخي والمتحول ذي الطابع المشترك الذي يجد موطنه الفعلي في البنية الثقافية. وعلى هذا النحو يمكن الحديث عن فن عراقي محدد يبدا بالأشكال والرموز الاكثر اغراقاً في التجريد لينتهي بالأشكال والتصاوير التشخيصية النابعة من عمق التراث المحلي والعربي والأسلامي مروراً بالصور الذهنية والحلمية والشخصية أو الجماعية المتخيلة التي تجد في المحيط ممكنات تعبيرية.
أن الاشتغال التشكيلي على وفق الزخم الذي تمنحه هذه الذاكرة قد شكل دوماً مجالاً للابداع والتحول لدى ثلة من الفنانين العراقين ودفع بهم الى البحث المضني عن مواطن انغراس العمل التشكيلي في تربته المحلية وأن السعـي العالمية في هذا المضمار لا يمكنه سوى ان يمر حتما بهذه السمة، إذ هي ضامنة الاساس الى الانفتاح وايصال الخطاب التشكيلي المحمل بالاصالة والموروث والحاضر.
لقد وظف الفنانون معطيات الذاكرة البصرية العراقية بعناصرها منكفئين على مادتهم البصرية الذاتية ولا وعيهم المرئي، يسائلون في مكوناته الأكثر إيهاماً، من ثمة، لهذه التجربة الداخلية بعداً جماليا بعيداً عن كل ما يحيط بهذا الواقع من فضاءات خارجية.
أن واقـع الشبكـة الرمزيـة للتشكيل العراقي التي تقع بين الحكاية والاسطورة واللسان،وبين الواقع البصـري، تنفلـت باتجاهات مختلفة و اساليب مختلفة لكنها لاتخرج عن المركزية الحالمة بالهروب من المحيط، من الخارج الى الداخل. الفن العراقي بهذا المعنى وجد اسلوبيته في الخلاص، حتى أن فكرة الخلاص اصبحت أسلوباً يمسك بالخارج والداخل معاً.
ربما كانت تجارب الفنانين والمعارض التي أقيمت في هذه الفترة متنوعة ولكنهـا تقـع تحت العنوان نفسـه، عنوان المحنـة التي تحيط بالانسان والفن معاً.
وبملاحظة بسيطة نجد عناوين بعض المعارض لا تستطيع أن تخفي ذلك الظل. فقد كتب علاء بشير ( محنة الانسان ) عنواناً لمعرضه، وكذلك حدد ماهود أحمد مقولته البصرية في اساطير وحكايات شعبية تحت عناوين الرجوع الى خطاب الماضي لتزيين الحاضر . ولوحات شاكر حسن تعيد انتاج الصوفي، في حين تم تغييب البيئة والواقع تماماً من الحضور في الانتاج الفني واستبدلهما بالبيئة الحلمية والطفولية. وذهب مجموعة من الفنانين الى المتحف. أنه الذاكرة المنظمة الممتدة في الزمان والمختزلة في المكان. فالمتحف لدى هؤلاء تاريخ جديد يتزامن فيه ما هو روحي ومادي ويحتضـن خطاباً تصنيفياً وتكوينياً جديداً. أنه حياة من العلامات المعاصرة. من هنا صارت العلامات داخل اللوحة التشكيلية العراقية خطاباً تركيبياً يصبـح فيه الاثر أثراً لشي اخر خارجه اذ يندرج في المحيط الجمالي العام والمحيط الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وتكون بنيته محكومة بتوليفة من العلامات التاريخية المستعارة من فنون وادي الرافدين وتكون النسق الفكري الجديد الذي ينتمي اليه العمل الفني.
والحال، فقد ولد احساس عام داخل المنظومة الفنية العراقية المحاصرة بفكرة ثابتة هي أن الانسان - الفنان محاصر ووحيد، منقطع الصلة عن نظم الواقع وحقائق الحياة والمعيشة ، وان على أي مبدع ان يجد خلاصه في فن لايلامس هذا الواقع، بل يعيد اختراعه من جديد، لذا كان الفنان العراقي يؤكد فكرة الانحياز الى القطيعة برفضه لاسلاف سبقوه في تاكيد خاصية المكان والواقع.
أن مراجعة للموضوع عند الاسلاف تؤكد أن انحرافاً قد حصل داخل المنظومة الاجتماعية والنفسية للفنان العراقي في الثلاثين عاماً الماضية.
لقد رسم الاسلاف المكان. جواد سليم رسم الكوفة، الشجرة القتيلة، جامع الحيدر خانة، ثورة تموز في نصب الحرية. في حين رسم محمود صبري ثورة الجزائر، ورسم حافظ الدروبي بغداد والريف، ورسم فائق حسن الحرب والسلام …. وهكذا نجد الموضوعات تؤطر بحزام الواقع.
ان اية مراجعة للوحات الفنان محمد مهر الدين تعطينا الاضاءة الجادة في هذا التحول. فمن موضوعات الامم المتحدة والانسان المعاصر التي رسمها في بداية السبعينات، الى تحولات التجريد المحمل بواقع اكثر حزناً في معارضه الاخيرة، حيث لا يمسك بموضوع بعينه وانما يمارس الى اقصى حد تحديدات جمالية وتقنية ترزح تحت ثقل موضوع اساس هو اقصاء الموضوع.
وفي ضوء ما ذكرنا نستطيع القول أن الفن العراقي رسم كل شي الا الواقع. فهل يمكن تصور ثلاث حروب دامية مرت بالعراق من دون ان يحمل الفن التشكيلي شيئاً عنها في ذاكرته البصرية، سوى ذاكرة التناسي التي هي ذاكرة الحضور المهيمنة على وجدان الفنان والفن معاً في خروجهما من دائرة الصراع الى فضاء الصراع مع الحرب ذاتها ؟.
أنها معادلة غريبة كونت كل ذلك .
الواقع يتحول الى ذاكرة ثم اسطورة ومتحف و وثيقة. فالاول وهو الواقع، والاخير وهو الوثيقة، يكونان علامات ضمنية ليس لها وجود في الدال الشكلي / اللوحة. في حين يتأكد حضور الاسطورة والذاكرة والمتحف، بوصفها دالاً شكلياً في اللوحة العراقية، دالاً يشير الى الخلاص من مدلوله - محنة الواقع.
وعند هذا الحد يعبر الفن العراقي في بنيته الكلية تعبيراً حقيقياً عن رفـض الحيـاة لكل ما تحمله من ايديولوجيا الرعب والخوف والحرب والانطلاق نحو حرية الفن والانسان و وجوده.