نوستوس المعمار

.

المقاله تحت باب  مقالات فنيه
في 
30/08/2012 06:00 AM
GMT



والدهر يومان مذموم وممتدح
والناس اثنان ممنوح ومسلوب
 
أسارع القول بأن كلمة "نوستوس"، التي استخدمها معاذ الآلوسي، المعمار العراقي المعروف، عنوانا لكتابه الجديد، هي ".. كلمة يونانية قديمة، تعني الحنين الى مسقط الرأس، أو الوِطان بكلمة عربية عبقرية واحدة.."، كما كتب هو، في آخر صفحة من كتابه "نوستوس: حكاية شارع في بغداد"، الصادر عن منشورات الرمال، قبرص، والمطبوع في عمان/ الأردن، سنة 2012؛ (350 صفحة).
 
تُقرأ الكتب ببواعث عديدة، هي التي تُؤلف، أيضاً، لبواعث عديدة. ومن ضمن تلك "العديدة"، قد يكون الحصول على ثمة فائدة، أو متعة أو معرفة. أوقد تكون بدوافع النصح او الشكوى او الاعترافات. لكن باعث "نوستوس": تأليفاً وقراءة، يمكن أن يكون كل هذا؛ رغم أن المؤلف "يصر" على تذكيرنا <بحزمه> منذ البداية، ألا يكتب سيرة شخصية، "..وألا اجعل من حياتي رواية." (ص. 7). ومع هذا ، فنحن، إزاء نص ممتع وجميل، وغني في التفاصيل، وحافل بالمعرفة، وبالشكوى، وبالنصح وبالاعترافات! أنه نص صادق، وصدقيته "غاصة" بالشفافية، ومترعة بالإخلاص. وعلى المتلقي، تبعاً لذلك، أن "يتلقى" مقولات الكاتب بأريحية، سواء تعاطف مع رأيه ام لا. نحن، اذاً، بصدد سرد، يتبدى لي بأنه مؤلم، وألمه موجع (هل أقول فاجعا؟)، لجهة آمال لم تتحقق، في بلد كنا نشعر، نحن إنباء الطبقة الوسطى، بأنه "بلدنا"، وبالتالي معنيون في تحقيق نموه ونجاحه، والتقليل، جهد الإمكان، من عثراته. لكن ذلك بدا، وكما هو واضح في سرديات الكتاب، لم يكن أمراً سهلاً، كما لم يكن أمراً متاحاً. أيها الأصدقاء الأعزاء، قراء مقالي هذا، يسرني أن أقدم لكم نص صديقي وزميلي العزيز المعمار: معاذ الالوسي (1938)، وكتابه "نوستوس"؛ وهي ذاتها <حكاية عن شارع في بغداد>، متضمنة (الحكاية إياها)، أصناف من الحب، والإخلاص، والزمالة، وتحضر فيها العمارة والكفاءة، واللوعة والحنين، وطبعا "الآمال المجهضة"، بحسب كلمات صديق، ومعمار آخر!.
 
عندما نشرت دراستي، قبل فترة (حزيران 2008)، عن عمارة معاذ الآلوسي، بمناسبة بلوغه السبعين؛ حاولت أن أتقصى عن عبارة "تختزل" مساره المعماري، وتكشف بوضوح عن خصوصية منتج ذلك المسار. وقد وجدت أن معاذاً، وإن انتمى إلى الجيل الثالث من المعماريين العراقيين (الجيل الأول: هو المؤسس، وينتمي إلى عقد الثلاثينيات؛ والجيل الثاني، هم معماريو الخمسينيات)، إلا أن معماريي جيله، ظلوا بعيدين عن المشهد، ولم يؤثروا فيه تأثيرا كبيراً يتناسب مع عددهم ومؤهلاتهم وكفاءاتهم. إذ لعبت الظروف المحيطة وقتذاك دورها السلبي، في إبعاد وتشتت الكثيرين منهم. وبالتالي فقد أضاع العراق، بغيابهم، فرصاً كثيرة، كان يمكن لها أن تثري الخطاب المعماري المحلي، بنماذج تصميمية مميزة. على أن هذا "الغياب"، قابله من ناحية أخرى، "حضور" مؤثر وغزير لمنتج معاذ الآلوسي. وكأنه، نشد أن تكون تلك الغزارة، تعويضاً لجيل بأكمله: جيله المنسي، وزملاؤه الذين تفرقوا أيدي سبأ!. ومن هنا، كان عنوان الدراسة إياها: <غياب الجبل الثالث... وحضوره>. إذ وجدت في تلك المفارقة "الباردوكسية" Paradox، وصفاً لوضع، موهم للتناقض، بيد انه بدا لي صحيحا! أو هكذا رغبت أن اعبر عن طبيعة وأهمية عمارة معاذ. لكن "القدر" الذي وسم جيل معاذ الآلوسي، بالتغييب والترحال، شاء أن "يشرك" مصير معاذ نفسه، بتلك "اللعبة" (اللعنة؟)" غير المفهومة، (وغير المبررة إطلاقا!)، التي ما برحت تعمل عملها بنشاط، "مانحة" لكل واحد من معماريي البلد ومثقفيه، <أدويسته>Odyssey ، ونصيبه من تجوال طويل وأسفار لا تنتهي، لكنهم بقوا حالمين بالرجوع الى تلك الأمكنة، التي كانت يوماً ما، سبباً لتشتتهم وتفرقهم وتجوالهم الأبدي، او بالأحرى" تغربهم الأبدي"، كما يكتب معاذ الآلوسي نفسه في كتابه (ص.333) الذي يقرأ، بكونه وصفاً لحالة من وطان شديد الوجع، يرتقي لان يكون "نوستوس" مؤثرا، ما انفك يتقاسم "لذة" مرارته كثر من جيل معاذ الآلوسي ..وآخرون أيضاً!
 
يتشكل كتاب "نوستوس" من إحدى عشرة "فاصلة". إنها محطات هامة في مسار حياة المؤلف، التي يرى بأنها تستحق التوقف عندها، ومواضيعها جديرة بفتح حوار مع قارئ الكتاب. ولكونه معماراً (أراه، شخصيا، معماراً مميزاً)، فإن "درب" حياته قد اصطبغ تماماً بسلوكية تلك المهنة، التي قال عنها، مرة، "لوكوربوزيه" <من أننا نخلق العمارة ..لتخلقنا، هي من جديد!>. نقرأ فواصل الكتاب: البداية؛ المنهل؛ أولى الممارسة المهنية؛ الهجرة الأولى؛ أثينا؛ شارع حيفا - بغداد؛ صوب الكرخ؛ ضمن الدرب خارج الكرخ؛ جامع الدولة الكبير؛ في عموم الدرب؛ التغريب الأبدي. ومن خلال تلك الفواصل/ المحطات، سنتابع مع المؤلف، درب المهنة، وهو درب الحياة لمعمار مجدّ، له بصمات واضحة في المشهد المعماري المحلي، والإقليمي، وحتى الدولي. سيتم التعاطي مع نصوص الكتاب، ليس بكونها تركيزاً عن طبيعة المنجز المعماري المنتج ونوعيته، هو الذي جعل المؤلف من حضوره خلفيةً لقول ما يختلج في نفسه، وإنما سيكون ثمة إصغاء لحديث مثقف عراقي، نال بسبب مهنته، كما نال كثر من العراقيين بسبب مهنتهم (ومهنيتهم ايضا)، ضروباً من الإجحاف والمظالم والقسوة وعدم الاهتمام، (وخصوصا عدم الاهتمام!)، من لدن مسؤولين، قُدر لهم أن يكونوا، بغفلة، أصحاب قرار.
 
"يبني" المؤلف (والكلمات، هنا، دائما ..معمارية!)، كتابه على سردية أساسية، هي بمثابة "أغنية البجعة" في مساره المهني. إنها الحدث الرئيس المشكل لمتن الكتاب. انها في الاخير، "حكاية شارع في بغداد" تمثيلا لدرب، اراد به معاذ ان يكون ملتقيا ومتفرعا "لدروب" عديدة أخرى، ستشكل لاحقا طريقة حياته، وترسم مساره المهني، وتحدد نوعية اهتماماته. وستجبره تلك الدروب، في ما بعد، على تحمل تبعاتها، ونتائجها المفجعة، هو الذي سيخوض غمار مسارها الطويل، ويكابد عذاباتها المضنية. سأتحدث، بالطبع، عن ذلك الشارع/ الدرب، الذي اعتبره مؤلف كتاب "نوستوس"، أنشودة له، ولانجازاته التي تحققت، وحنينه إليه وولعه به. لكن قبل هذا، أود أن أشير الى ما تحدث عنه معاذ الآلوسي، وهو "يسرد" مساره المعماري الأول، عندما يكتب ".. أصدرنا وصديقي ياسر حكمت عبد المجيد، أول مجلة معمارية <ننار> (وتعني: إله القمر، ومركز عبادته مدينة أور). عدد يتيم، صممه وطبعه تبرعاً الفنان الصديق ناظم رمزي. في مطبعته جرت إضافة الألف واللام ليصبح اسمها <الننار>" (ص. 49). إذ من هذه المجلة ذاتها، تعرفت لأول مرة (أنا العائد تواً من موسكو، بعد رحلتي الدراسية ، والمشبع بذائقة معمارية نقدية مختلفة، والتائق الى بحث موضوع، يمكن من خلاله أن أطبق منهجيات تلك الذائقة النقدية المختلفة)، تعرفت الى أسماء المعماريين الذين عملوا وأنتجوا الروائع المعمارية العراقية وقتذاك. وهي إمساء لم تكن معروفة تماماً لدى معظم المثقفين، وحتى للكثير من المعماريين، كما لم يهتم احد بمآل تلك المشاريع وتبيان أهميتها التصميمية. وإذ اعترف بان تلك المقالة الشيقة والغنية بالمعلومات والأسماء التي سوف يشير إليها، مرة أخرى، معاذ في كتابه "... لقد كتبت بحثاً سريعا لمجموعة هذه الأبنية (مباني دائرة الأشغال العامة. خ.س)، ومهندسيها نشر في مجلة ننار المعمارية في عددها الوحيد في كانون أول 1966" (ص.70)؛ كانت، من بين دوافع أخرى، نبهتني إلى موضوع عمارة الحداثة في العراق، الموضوع الذي سيصبح الأثير لدي، هو الذي، ما انفكيت، أجد نفسي متعلقاً به، ومحباً له، وقارئاً فيه، ومحاضراً عنه لطلبة عديدين على مدى عقود.
 
والآن، حان الوقت للحديث عن <الشارع>. ستقولون، ما "حكاية" هذا الشارع، الذي "خبصتنا" به؟! حقكم عليّ، أيها الأصدقاء، لأني وجدت أن "الثيمة" الاساسية لكتاب "نوستوس"، كما أرادها معاذ، متمثلة بوضوح في هذا الشارع تحديدا. يعتبره معاذ ليس شارعا عاديا، وإنما "درب" حياة: منه واليه تتجمع وتتفرق دروب المعمار الذي يسرد أمامنا بشفافية، ولعه وحنينه وألمه، وذكريات نجاحاته وإخفاقاته التي شهدها ذلك الشارع العتيد. لا "أطولها" عليكم: انه <شارع حيفا في صوب كرخ بغداد>. هو الذي يتوق معاذ أن يجعل من حكايته: حكاية لا تنتهي إلا وتبدأ حكاية أخرى.
 
ليس في نيتي، بالطبع، أن أُعيد مضامين تلك الفاصلة/ المحطة، من متن الكتاب، ومن عمر الكاتب. عليكم أنتم، أيها القراء الأعزاء، أن تتطلعوا، بأنفسكم، عليها، لتدركوا مدى أهمية ومهنية، وصدقية، ما كتبه معاذ الآلوسي. والاهم تلمس مقدار عمق الإحاطة بشؤون هذا الشارع، وتعاطفه مع ناسه، وتاريخه، و"بيئته". وكيف لا يشعر المتلقي بحميمية وألفة كلماته، التي سجلها في كتابه، حينما يفصح عن عواطفه للمنطقة وشارعها، عندما يكتب ".. مع توفر الاندفاع نظراً للإحساس الفريد نحو المنطقة والمدينة، ولاسيما المنطقة، فهي سكن الأم حتى زواجها وانتقالها إلى الصوب الثاني الرصافة. الكرخ كانت سكن الخال حتى وفاته، موقع إحدى الآبار الأولى والمناهل الثرة" (ص. 158). لقد افرد الكاتب لهذه الفاصلة، صفحات كثيرة. وإذا أضفنا ما تحدث عنه في فاصلة "صوب الكرخ"، المتممة لموضوعة "شارع حيفا"، فسيكون ثلث الكتاب مكرسا لتلك الثيمة القريبة إلى قلب المعمار. وأتساءل، عن مآلات الشارع وقضايا تعميره، في ما إذا لم يكن "معمار" مسؤول عن إشراف ذلك التعمير، وإذا لم يكن "معاذ"، ذلك المعمار المسؤول؟. أقول هذا ليس بدافع "التحيز" المهني، وإنما إدراكاً لمهنة "العمارة" (هي التي وصفها الإغريق القدامى عن حق، بأم الفنون!)، والتي تستوجب لاتخاذ قرار مهني صائب فيها، التعاطي مع معارف ومعلومات شتى، ليس فقط هندسية او عمرانية، بل وسيسولوجية وتاريخية واقتصادية وبيئية وثقافية عامة بالإضافة الى السياسية بالطبع.
 
يتحدث معاذ الآلوسي عن حكاية "تعمير" شارع حيفا، ليس بكونه امراً عادياً: عملاً مهنياً صرفاً، يتعين القيام به، وتحقيق ما هو مطلوب منه كمعمار وكمخطط. ذلك لان طبيعة الشارع وموقعه وخلفياته، وغياب المعلومات الضرورية عنه، مترادفاً لغياب المعايير التخطيطية الموجهة للتعمير؛ فضلاً عن ما سيتحصل عنه من مشاكل مستقبلاً، جراء عملية التعمير، وتبعات ذلك على الحي، وعلى "الصوب" وعلى المدينة ككل، جميعا كانت أمور غائبة ومقلقة، وسيؤثر غيابها لا محالة، سلباً، على نوعية القرارات العمرانية والمعمارية المتخذة، وستؤدي إلى ثلب صدقيتها. والى ذلك كله، تضاف طريقة التكليف، وفترة الانجاز، وطبيعة أجواء العمل وخصوصيتها، التي ستجري إبانها عملية التعمير، وهي أجواء "حربية" بامتياز، يشم منها روائح الخراب والتدمير والهدم والهلاك، ممزوجاً بنزعات التسلط والضغينة وكره الآخر، وأصناف جمة من "تنويعات" اللامعقول "الزاخرة" بها عادة، الأنظمة الشمولية. إنها، باختصار، "مناخات" الحرب العراقية – الإيرانية: زمن الثمانينات!
 
وفكرة" التعمير" نجمت عن "بواعث" بعيدة عن متطلبات التخطيط الأساسي للمدينة، بل ويمكن أن أقول بأنها غريبة عنها، وحتى طارئة عليها بكل معنى تلك الكلمة وما تشي به من دلالات. إذ رغب حاكم العراق الأول وقتها (هل قلت "الأول"؟ لقد جعل من نفسه الحاكم الوحيد الأوحد: لا مثيل له، ولا .. شريك له! يسميه معاذ: "الأخ الأكبر"، تشبهاً ببطل رواية <1984> لجورج اورويل المعروفة!)، أن تكون "عاصمته" مدينة لائقة جمالياً لانعقاد مؤتمر دول عدم الانحياز فيها وتسميته (هو الذي استلم منصبه الرئاسي الجديد في بلده، قبل فترة زمنية قصيرة)، "برئيس دول عدم الانحياز" كلها. ولهذا تم اختيار الشارع إياه، الذي ركن تخطيطه وتعميره لسنوات عديدة، منذ إعداد المخطط الأساسي للعاصمة في الستينات؛ ليكون احد ميادين التجديد والتجميل للأعمال التطويرية القادمة؛ التي امر بإجرائها "الأخ الكبير" إياه. الكبير أعطى أوامره ومشى. ولا يوجد "زلمة" واحد قادر على عدم التأييد والتنفيذ، ناهيك عن الاعتراض"، كما كتب معاذ في كتابه (ص. 166). وعلى عجل تم تأليف لجنة استشارية لمتابعة إجراءات العمل التخطيطي - التجميلي وبصلاحيات واسعة. وعلى عجل أيضا، تم تكليف المعمار العراقي المعروف رفعة الجادرجي لتسميته بـ"المستشار" لهذه اللجنة، بعد أن أخرج من السجن، الذي قبع في "ظلمته" لسنين بتهم، تبين بأنها ملفقة.
 
مدرسة العمارة/ الأكاديمية الملكية الدانمركية للفنون.