فنانون يرشقون الحياة بألوان الطبيعة

.

المقاله تحت باب  محور النقد
في 
09/09/2008 06:00 AM
GMT



مدن جدرانها بساتين
 
 هناك تقارب وتشابه بين كل الفنون الإبداعية بما فيها الشعر والقصة والرواية الاختلاف فقط في الأدوات المنفذة فكما في الشعر والقصة تكوينات زمانية ومكانية سردية وشخوص وحكايات ومؤلف ، أيضا في التشكيل زمان ومكان وحكاية وشخوص وسرد ومؤلف ، الأدوات تختلف فقط ، فاللون في التشكيل يقابل اللغة في النثر وان اختلطت الأجناس الحداثوية وتداخلت علي بعضها فاستعار التشكيل الحرف من اللغة واستعار النثر اللون من التشكيل .

في عموم الفنون تحقيق لطرفي معادلة هي ما يوفره الإبداع متعة زائد معرفة الذي يتأمل هذا المعرض يخرج بمعادلة غير متوازنة إذ يجد المتعة غالبة علي عموم المنتج المعروض وغياب الموضوع الموضوعي الذي يحاكي هموم البشر الآنية ويتخذ منها وسيلة لتحقيق المعرفة الفنية وكيف تمثلها الفنان وأعاد تشكيلها وحرّض عليها بموضوع كان غائبا عن محتويات العرض وبقيت المتعة وحدها تعاني من خلل عدم توازنها مع المعرفة ، نقل الطبيعة مهارة يمكن لاينا أن يتعلمها ولو بشكل متفاوت يزيدها بخبرته المتقادمة ، لكن الموضوع اختراع يعتمد علي الموهبة الذهنية للمبدع واستعداد خياله علي خلق الموضوع تتضافر معه الخبرة والمهنية ليحقق ثنائية المتعة والمعرفة .
اعتمد المعرض علي تجارب تراوحت بين الأكاديمي والفطري، الأكاديمي اعتمد الأساليب المتوارثة والتكنيك المدرسي ، والفطري اعتمد علي آليته المتاحة التي تحتاج إلي تصحيح أكاديمي وفي كلتا الحالتين اطلعنا علي إمكانيات يمكن أن تعطي الأكثر لو اهتمت بما تنتجه وان تحوّل نفسها من هاو للرسم إلي محترف يأخذ ويعطي لتنمية تجربته إذا أراد أن يسجل اسمه في قائمة الفنانين أما إذا اتخذ من منتجه وسيلة للهو فلا شك انه سيظل يراوح مع لعبته التي غزاها الانترنت ووسائل اللعب المتطورة الحديثة وعندها سوف لن يجد من يلعب معه نفس لعبته ولم يستطع هو أن يلحق بالآخرين ويلعب معهم ألعابهم .

أقول أنني لم أجد ما هو مدهش مع يقيني بوجود إمكانيات إبداعية عالية أكاديمية ذات خبرة كبيرة تستطيع أن توظف خبراتها لتنتج تجارب مهمة
هل هناك إمكانيات قادرة علي خلق مدهش ؟ أقول نعم وجدتها عند البعض وسأعرج إلي تأشيرها في هذه الورقة .

وجدت تعميم للاستفادة من الانطباعية التي تقتبس من الطبيعة موضوعاتها برسم المشاهد الريفية حيث تقتطع جزءا من الطبيعة وتنقله الي اللوحة لتوطن الاسترخاء والحميمية في ذات المتلقي الذي لا يجهد نفسه في البحث والتقصي لفك رموزها معتمدة علي اللون المستنبط من ( الباليت ) نحو اللوحة مرورا بإحداث مقاربة لونية بين المنقول منه والمنقول إليه معتمدة علي الدقة في رسم الشخوص والأشكال وتخرج من مألوفيتها بين الحين والأخر من خلال تكنيك الفرشاة وضرباتها علي مساحة اللوحة في محاولة لمغايرة الواقع المنقول ومعتمدة علي توليدات لونية تؤدي دورا واحدا ومتشابها في عموم المعروض من حيث المضمون والتكنيك ولا أجد اختراعا للون مميز كي يزيح اللوحة من وجودها المعياري إلي وجودها الفني الذي يؤشر نجاح هذه اللوحة بعد أن تخرج من نمطية الطبيعة المنقولة بأسلوب انطباعي إلي وجود فني محافظ علي قيم ومنهج الانطباعية .
لوحتان

اشترك الفنان إسماعيل محمد صالح بلوحتين اعتمدتا الدقة في ملئ فراغاتها ذات الحجم الصغير لا تدعك تغادرها قبل أن تتأملها كائنات صغيرة تبحث عن عين مكتشفة وبصيرة قادرة علي أن تخرج بها إلي حيز المعرفة أشكال تتداخل مع بعضها بلون متدرج لتعطي أشكال أخري هذا عمل يظهر قدرة أكاديمية تفرض علي المتلقي أن يمد هذه المساحة الصغيرة إلي مساحات ذهنية شاسعة لا تتوقف عند حد حيث انك كلما أطلت البقاء عندها أظهرت لك أشكالا أخري
إذن : نحن أمام لوحتين بمعطيات لا نهائية واجد انه استفاد من النقوش المتداولة بالمحيوكات لكن بابتكار أشكال جديد اقترب بها من أسلوب شاكر حسن آل سعيد في الاستفادة من الفلكلور والموروث غير انه اختلف مع آل سعيد بابتعاده عن تجسيد الإيحاء الصوفي في توظيف هذه الأشكال فظلت تؤدي دورا جماليا فقط .

اعتمد الفنان صباح محيي الدينعلي تقادم تجربته في الفضاءات المكشوفة في نقل الطبيعة بمغايرة لونية وضربات بارزة للفرشاة علي القماشة بمحاولة للخروج من هيمنة الطبيعة إلي إيجاد معني دلالي للون والضربة اللونية البارزة بمتعرجات تبتعد عن ( السوفت ) المنقول من الطبيعة فوتوغرافيا فحافظ علي شفافية المكان المنقول ودلالته وحمله برموز وان كانت لا تملك دلالة معرفية لكنها زادت اللوحة جمالا مغايرا أظهره تدخل الفنان بمعرفة ما يفعله متجاوزا عين الكاميرا اللاقطة للصورة ومستعينا بعينه الفنية المنتجة للصورة مستفيدا من مكتشفات تلوين الجداريات بأسلوب التنقيط اللوني .
 
لوحات خجولة

أما الفنان صالح النجار فأول ما يطالعك هو المغايرة التي تغاير بها مع الآخرين فعرض لوحتين من التجريد الواعي غير المعتم اذ ترك للمتلقي بؤر ومنافذ يستطيع أن يدخل من خلالها لقراءة نصوصه التشكيلية فقد اشتغل علي توزيع مجسمات الصورة وطرحها ضمن نسيج اللوحة علي أشكال غير مستعصية علي المتلقي في أن يجمع شتاتها في شكل جديد يحدده ذهنيا وبذلك حقق عنصر التبسيط في اللوحة التجريدية لتعطي نفسها بسهولة باعتمادها علي الترميز الشفاف في طرح الموضوع .غير أني أجد أن اللوحتين قد رسمتا تحت تأثير نفسي واحد وبتجربة شعورية واحدة وهذا مؤشر من خلال ما تطرحه اللوحة وأدوات المعالجة المستخدمة في التنفيذ مثل الإنشاء والعناصر والبني التكوينية الأخري ، فوقع في هيمنة التشابه أو التكرار ، غير ان منتجه امتاز بوعي الطرح وتأشير الزمان باستخدام الإيقونة الرقمية الدالة ، وترك مكان المكان فارغا ليملأه المتلقي وهذه الالتفاتة المهمة تخرج النص التشكيلي من محلية مكان الحدث إلي عموميته وتعميمه ، محولا إيحائية اللون من أدائها الدلالي إلي وسيلة تزيين فقط لم يستفد من اللون كسارد بصري واكتفي بأدائه المحدود وهذا الاكتفاء يعد مخالفة لأداء اللون داخل العمل التجريدي أتمني من الفنان صالح أن ينتبه إلي ذلك.

أعمال الفنان كوران جبار تشبهه نظيفة اللون ، بهيجة ، مقطعية ، خجولة ، تكتفي بما تراه ، تصلح أن تزيين صالونات الملوك أو أن تخرج إليها في نزهة عائلية أو تجلس تحت ظلالها مع حبيبتك لتغويها بكلمات الرومانسي وأنت تتكئ علي جذوعها المنصّفة لونها بهيج وماؤها زلال وعشبها اخضر .
الفنان عادل محمود صناعي بالحجم الذي يصلح للتصاميم ألوانه ناعمة كالحرير وأشكالها خياليه خارجة عن هيمنة الواقع استخدم الشكل الجنيني المستلقي علي ظهره بوصفه أول مكونات الحياة بجدلية الخيال والواقع ليشكل مغزاه الذي يشكل المعني إضافة إلي جمال حركة شخوص اللوحة ووضع مفرداتها بخيال خصب احدث توازنا بين الحجم والموضوع بخبرة صناعية ومعرفة بأدوات التصنيع الفني محافظا علي حرية الطرح بما يتناسب وقوانين الرسم فمازج بين الواقع والحلم بعيدا عن منطق الرؤية الأحادية التي تبتعد عن إشراك المتلقي في المنتج الفني .

أظهرالفنان عباس محي الدين قدرة فائقة في تطهير اللون ومنحه حرية أداء عالية فجاء اللون ، نظيفا ، طازجا ، نقيا ، إضافة إلي مهارة في استخدام المنظور الجانبي الخدّاع بلعبة تزيح المتخيّل نحو الواقع هذا في رسوماته المنقولة من الطبيعة أما في لوحته التي حاكت البوستر فقد وظف السمكة الميتة بمدلولها المتفق عليه من خلال علاقتها بالماء الذي جسد غيابه بمغايرة لونية للإيحاء بشحته وقد منح شكل السمكة وضع ( كلوز آب ) لتؤشر أهميتها في تكوين المعني داخل النص التشكيلي وذهب إلي تأثيث هذه اللوحة بمكونات لها علاقة إيحائية بموضوعه الذي يعالج شحة المياه مثل السعفة والأرض والزورق التي جاءت بألوان مرمزة تحمل دلالاتها من الكتل المنثورة بتوازن علي جسد اللوحة ، الذي أجده إخفاقا في لوحاته المنقولة عن الطبيعة إنها لم تراع مساقط الضوء التي تؤشر بأهمية كبيرة زمنية النقل والظروف المناخية والظواهر الطبيعية ، واستفادته من توظيف تقنية برنامج الفوتوشوب في تكسير الشكل وإعادة تشكيله علي اللوحة .

الفنانة ابتهال توفيق تذكرنا تكويناتها الهندسية بأعمال الفنان ( بيكاسو ) في المرحلة التكعيبية في استخدام الخطوط المستقيمة بانتظام وبالأشكال الهندسية الأخري التي تحمل رموزا عرفانية لها علاقة بمكنونات النفس البشرية هذه الخطوط والأشكال تتداخل مع بعضها البعض لتنتج أشكالا هندسية أخري تلقي معرفتها إلي المتلقي من خلال الخطوط التشخيصية التي تظهر العناصر المكونة للشكل ، لم تعتن كثيرا بإيجاد رابط تعبيري بين اللون المنفذ للخط وبين امتدادات هذا الخط علي جسد اللوحة مما عطل البني الفكرية الباثة للمعني في اللوحة ولعل أهم ما يميز هذه الرسومات عند ابتهال هو عمارة اللون وتوزيعاته غير الدلالية طبعا هيأ معمارا هندسيا له دلالته كالمربع والمثلث وقوس الدائرة فهي تشكيلات لها القدرة علي عكس البني الفكرية إضافة إلي البني الجمالية التي تعاقبت في هذه الأشكال وحفلت بها الرسومات .

اعتمد الفنان أحمد عز الدين علي الصبغة اللونية السوداء التي سكبها بمهارة علي جسد اللوحة في
(البورتريت ) لينقله من موقعه ( كموديل ) إلي موضوع ذو معني وتخليصه من إشكالية النقل المباشر وإشكالية المطابقة في التشابه بين المنقول منه والمرسوم ووضعه في خانة المعرفة التي لا يمت شكل المرسوم بصلة لأحد وتعامل مع التمثلات في الظواهر التي يعيشها الإنسان الحالي بتضاداته المعروفة للجميع وسوداوية واقعه اليومي بروح حيادية أسقطها الرسام علي الشكل المرسوم اللون فيها ذو علامة تنقل المتلقي إلي ذلك دون حاجته إلي دليل اشتغل اللون لوحده كأداة فعّالة في خلق النص وهنا نجح الفنان من خلال حفرياته في الذات الإنسانية إلي اختراق الباطن كما يفعل الصوفيون في معالجة الذات الإنسانية والوصول بها الدرجة التوحد فهو لم يؤكد المتضادات بين الخارج والداخل بما يناسبها من ألوان وأشكال إنما اكتفي باستخدام الموديل كشكل + اللون كمهيمن يحمل دلاله في اللوحة وهذا أضاف إلي هذه التشكلات حيادية وانزياح نحو التأويل الواحد الذي يأخذ بذهن المتلقي نحو غاية المنشئ مستفيدا من معطيات اللون الأسود وما يؤثثه داخل العقل الجمعي من دلائل إيحائية تذهب بالمتلقي إلي مذهب واحد لا غير .

واشتغل الفنان سيروان محمود بآلية الباستيل التي تحمل مداليلها بنفسها فهي مادة متعرجة لا تعطي تواصل انسيابي لخطوط الرسم مما تعد من الوسائل الصعبة التي لا يلتفت إليها الفنان او الاشتغال بها يعد مجازفة لا تخلو من مخاطر واشتغل سيروان علي تحطيم وجوهه الباستيلية بتعاقب الخطوط عليها بمحاولة لطمس معالمها وملا الفراغات التي تتركها مسامات الباستيل غير انه تجاوز هذه العقبة ليأتي بنماذج ممتعة فيها شغل أكاديمي لم يكتف بذلك بل حاول أن يؤسس لموضوع من خلال هذه الوجوه فنجح بإزاحتها من معرفة الي مجهول بحاجة الي بحث في ثيماتها المتوزعة بحرفية ووعي يستطيع المتلقي أن يؤول مراميها كيفما يشاء .

بقي ان نتحدث عن فن الخط الذي زينت بعض لوحاته جدران المعرض للفنان الخطاط سامان جمعة والفنان الخطاط كمال الخالدي فالخط اقتحم عالم التشكيل بجماليات مبتكرة بعد ان وظفه بعض الفنانين كمكون من مكونات اللوحة التشكيلية مستثمرا معطياته الجمالية وإيحاءه المعرفي الي أن خرج كمكون تشكيلي تقام له المعارض الشخصية واشتغل العاملون عليه لإيجاد تنظيرات له كفن منفرد وقائم بذاته أجد أن هذه المحاولة رهينة بما سيأتي من مريديه .