كتابات ونقوش في فضاء المدينة

.

المقاله تحت باب  مقالات فنيه
في 
19/02/2009 06:00 AM
GMT



كلما قادتنا اقدامنا في رحلة سياحية او زيارة اي من المدن تواجهنا”اللافتات “ من الشوارع والازقة وعلى ابواب المحال التجارية... لقد اصبحت اكثر بروزاً وانتشاراً عندما انتقلت الكتابة من سطح تصويري الى آخر من الجدران الى القماش... من الخربشة العشوائية العابرة الى شعار ذي مضمون... انها نوع من الاعلان الذي يغطي مساحة واسعة دلاليا وتشكيلياً.

تحولت”اللافتات “ والتي تنتهي مع انتهاء الاحداث- الى ظواهر مجتمعية محسوسة لها صناعها ومريدوها... بانماط فنية واسلوبية تنظم عملها... نوع تنحدر من سلالة الكتابة على الجدران”الكرافيكي “... التي ظهرت مع انسان الكهوف حيث خطت اصابعه الخطوط والحفر والرسوم الاولى... ان هذه الرموز والاشارات والحروف في حالة تكوينها، وتبلورها المستمر ليست الا الصيغة الاولى لفن الكتابة على الجدران... والذي اتسع في عصرنا هذا الى درجة لم يعد اي مجتمع يخلو منها. وذلك بالرغم من اختلاف الاساليب والاحجام.

والمستويات، وهي ظاهرة تتراوح بين العفوية والتنظيم بين جوانبها السلمية والعنيفة لغة ونصاً... وعليه فان شيئاً لم يختلف بين الكتابة على جدران المدن او الكتابة على القماش… سوى الوسائط التي تتيح للقماش المعلق المرونة والحركة وعوامل اقتصادية ووظائفية اخرى. حتى اننا نشاهد”لافتات “ تحمل نصوصاً والواناً واشارات ورموزاً معبرة عن حالة الصراع الاجتماعي بين قوة متنازعة او مؤتلفة فردية او عامة، بعبارة اخرى نجدها - اللافتة - قضية اجتماعية واقتصادية وجمالية، شخصية وانسانية … تتأرجح في سعة انتشارها وانحسارها بين المد والجزر، الاتساع والمحدودية، حسب ازمنة وامكنة مشخصة وعيانية.

امام”اللافتات “ المنتشرة واليومية، نشاهد لوحة اجتماعية واسعة الرؤيا عميقة التجذر، هناك تتجسد على الجدران والواجهات والشوارع كل خبايا وسايكولوجية المجتمع بصراعاته السياسية والدينية والاجتماعية والثقافية والنفسية. لقد تابعت هذه الظاهرة منذ اربع او خمس سنوات ، تحت الرغبة لدراسة سيمياء الكتابة على القماش، كنت ارغب لولا صعوبة الاحاطة بكل الظاهرة - وبدراسة نصوصها الكتابية والجمالية في العراق... لونها، طرائق العرض، كيفيات الانتاج، القوى المنتجة... حضورها الشكلي.. ودلالاتها … فمن خلال”اللافتات “ يمكنك ان تعرف الخطاب الكلي لهذا المجتمع او ذاك.

حركة اللافتات اذا كانت الاعلانات الضوئية والالكترونية، اكثر رسوخاً وثباتاً وحفظاً لانها تعلن عن ظاهرة دائمية، او وجود مستمر، فان”اللافتات “ وسيلة اكثر تغييراً وضياعاً واندثاراً... ان عمرها بعمر المناسبة، يوم … يومان … اسبوع... شهر … لا اكثر... ولأن الاحداث سريعة والمناسبات كثيرة والرأي يتبدل، فان الاعلان عنها عن طريق اللافتات، يتوسع وينتشر ثم يندثر. تعريف باللافتة قطعة قماش منقوشة او مكتوبة، لم يوضع لها شرط رسمي، بسيطة في مظهرها... تعلق على الجدران، او ترفع بالايدي...”اللافتة “ يكتبها اشخاص مجهولون”او جماعات “ او افراد... كاتبها او مؤلفها لا يقصد مخاطباً بعينه، وان خطابه موجه الى قارئ ربما يستجيب له او لا يستجيب... انها محكومة بالافتراض، لان المؤلف لا يعرف رد فعل القارئ. هذه المجهولية المتبادلة في التواصل الجماهيري، قائمة على النقص الحاصل في العقد والرابطة الاجتماعيتين … يقابلها نزوع الى خلق شكل جمالي او صياغة تقرب المسافة وتحفز على ايصال الرسالة.
اشكال اللافتة من وجهة النظر اللغوية نجد ان المكتوب على اللافتة يتراوح بين جمل ذات كلمات قصيرة مروراً بالجمل الرسمية البسيطة والمعقدة الى فقرات كاملة ، وجميعها يحيل الى ايديولوجيا معينة من حيث موضوعها ، وعليه يمكن ان تقسم اللافتات الى:
1. شعارية، اعلانية
2. شعارية ، سياسية
3.  شعارية، اجتماعية

1.اللافتةالاعلانية

يهدف الشعار الاعلاني الى البيع فالحظوة وعلامة الجودة لا تشكلان سوى وسائل غير مباشرة لعملية البيع.. وغالباً ما تكون اللافتة من هذا النوع ملونة بالوان زاهية وتكتب بخط كبير يحرص مصمموها على وضع”الماركة “ او السلعة المراد الاعلان عنها.

لقد تفنن الخطاطون والفنانون في طرائق العرض الخاصة باللافتة لجعلها منافساً سهلاً للوسائل الاعلانية الاخرى نتيجة للمرونة التي تتمتع بها وسهولة التركيب والتكاليف الاقتصادية والبسيطة ”الجدران جميعها مشاعة “ التي تتيح لهذا النوع الاعلاني: التنوع والسرعة في ايصال الخطاب. لقد قام احد المتاجر الخاصة ببيع الملابس بتعليق لافتة كبيرة على الشارع تمر من تحتها السيارات والناس والغريب في الامر ان اللافتة ”خالية من اية كتابة “ او اعلان. وهي بلونها الاحمر وثقوبها التي تسمح للهواء بالمرور تقع على كل مقومات اللافتة المكتوبة... لذلك تساءل الناس على معنى هذه اللافتة!... وفي اليوم التالي انزلت وعلقت في مكانها وبالسياق ذاته وبالحجم عينه لافته اخرى صفراء... ومن غير كتابة ايضاً في اليوم الثالث بدلت بخضراء... هكذا قامت هذه الحركة كلها على فكرة سيكولوجية لفتح افق الانتظار وحب الاستفهام … الدائم عند البشر.

في اليوم الاخير علقت لافتة تقول : طوال هذه الايام نعلق اللافتات بلا كتابة بسبب عدم وصول بضاعتنا الجديدة... اما اليوم فنقول ان البضاعة لم تصل بعد، لكنها ستصل يوم الاثنين... زورونا وستشاهدونها بانفسكم...والحال فمن الطبيعي ان تكون الامكنة الخاصة باللافتات الاعلانية هي واجهات المحلات والشوارع ومواقف الباصات العامة والاسواق... وهذا النوع من اللافتات  يذيل باسم المؤسسة، المحال والشركات او توضع العلامة الخاصة”الماركة “ للاشارة الى مصنع او منتج معين... هناك اتجاهات معروفة لها سياق محدد في صياغة اللافتات الاعلانية... فالقسم المنظم منها يحاول ان يحدد لون اللافتة باقترانه باللون السائد للشركة... او الذي يقارب الوان”الماركة “ الخاصة بها... فتعطي المشاهد نوعاً من الاحالة الى المصدر كتلك التي تعلن عن بيع”بيبسي كولا “ تكون باللونين الاحمر والازرق، اما اللون الاصفر المائل الى البرتقالي فلكل انواع الانشاءات والطرق والمكائن الثقيلة … والازرق والابيض للاعلان عن رحلات الطيران والتذاكر... الخ... اما اللافتات البسيطة فتحاكي الذوق السائد وغالباً ما تكتب بالفرشاة والاصباغ المائية”البنت لايت “... ويكون اللون المختار عشوائياً لما هو متوفر من قماش،... ويعتمد اخراجها على خبرة الخطاط او الفنان الذي يعمل على انجازها على وفق السياق العام. بعد سقوط الصنم الواحد غطت اللافتات الاعلانية معظم مدن العراق وهي تقدم صورة جديدة ثقافية المظهر، مخبوءة تحتها حركة اقتصاد من نوع جديد. اذ تميل اللافتات الى تاكيد مضامين تهتم بالسلعي والتخصصي والاستيرادي التجاري وتعلن في الوقت ذاته عن جماعة أو فئة”التجار“ .. وقد يكون هذا الاعلان عن جزء صغير من ظاهرة اوسع... وثقافة تنهض على اغراء التسوق... من امثال:

تعلن محال … عن وصول احدث البضائع العالمية المعروفة “و”زوروا معرضنا... ستجدون ما يناسب كل الاذواق “و”تنزيلات هائلة لموسم الصيف “...

هكذا تكون اللغة او النص وسيطاً لتحقيق غايات اقتصادية، مبنية على خطاب ثقافي عام.
وعليه ضمن مجموع اللافتات وعددها ومركز خطابها يمكن فهم حركة الاقتصاد وحركة التسوق بل فهم ذلك البلد.

2.اللافتات السياسية
 
اذا كانت اللافتات الاعلانية تخدم قضايا اقتصادية فان السياسية منها ترتبط بالمصالح الجماعية.... او مصالح امة او طبقة او حزب... واذا كان الشعار الاقتصادي يضع الفرد في وضع سلبي فالشعار السياسي يدعو المتلقي الى تبني الشعار والدفاع عنه... ومع ذلك فان هذه الاختلافات ليست جوهرية فالدعاية السياسية تستعمل الدعاية بكثافة، حيث نجد الشعار ذاته يكرر بتنويعات كبيرة، ويضع تحت عباءته ايديولوجيا خاصة.

اللافتات من هذا النوع يعتمد في اخراجها على التضمين الدلالي من خلال الشكل... فاللون يشير الى علم تلك الفئة او الحزب وشعاره... منها الاحمر والاخضر والاصفر...الخ

ان هذا التلوين يستدعي التوقف ومعرفة عدد الوان الاحزاب والفئات والجماعات … فكلما كثرت عنت ، فيما تعنيه، ان مناخاً من الصراعات السياسية يسود في تلك الحقبة الزمنية...”اللافتة “ لغة عصر هي اشارة تحيل الى مرجعيات مختلفة... فتكون امام معادلة طردية بين ظهورها واختفائها... الظهور يعني التعدد والاختفاء يعني التفرد... نواجه اللافتات امامنا مفترضة ديمومتها وامتدادها في الزمان، فكلما وجدت مجموعة بشرية، نفسها امام التهديد او الانحسار ظهرت نصوصها بصيغة جديدة على انها سحرية تستأصل القلق وتستجمع الطاقات، محاولة تجاوز الصيغ والغايات والظروف التي افرزتها، ولتعبر عن الذاكرة المشتركة للمجموعة البشرية التي تستعملها كما تعبر عن ميولها.

لقد ظهرت لافتات كثيرة في العراق... واغلبها سياسية تعبر عن وضعية خاصة لا يعرف المتلقي في كثير من الاحوال مصدرها... فهي متضاربة ومختارة من قبل بعض الفئات والاحزاب... تعكس في جوهرها الاتجاه، الفكر، الهوية، التطرف... حيث تشحذ في مثل هذه الظروف كل الاسلحة الكلامية ويتصرف الافراد على وفق منطق الحوادث بمبادرات ذاتية وتوجيهات تنظيمية وتقدم النصوص من دون تفاصيل ضرورية.

اللافتة اخيراً لغة الايديولوجيا:”لعيون العراق فتح عيونك “ واخرى:”الدستور خيمة العراقيين “... في حين تشير لافتاة اخرى الى:العراق اولاً... ولا للارهاب نعم للبناء... الخ...

ان هذه النصوص وغيرها تقوم على نسق واحد من الناحية الجمالية، كتابة... ودلالة... والاخراج العام الذي يؤدي المهمة الجمالية المصاحبة للوظيفة.

3.اللافتات الاجتماعية
يعد هذا النوع  من اللافتات الاكثر شيوعاً، اذ يخدم مصالح الفرد المجهول، ذلك الذي تتحدث عنه الصحف والمجلات والقنوات... ولكنه فرد برغم ذلك لا يتردد الاعلان في خلق وضع تنافسي بينه وبين امثاله... وعليه لا توجد”لافتة “ او لغة مكتوبة على قماش من دون شيء يعلن عن هويتها، انها تشير الى شيء مختلف عن مضمونها الفردي... هذه اللافتات حزمة من الاشارات التي تدل على وضع الافراد... بل وضع المجتمع بأكمله. لافتات تعلن عن المناسبات، الاعياد، التهنئة، الوفاة السفر، النقل، الانشاءات الايجار، البيع، الشراء... السياحة ، التظاهرات والعمل والبطالة... الخ.... من كل ذلك تصبح اللافتات ، صوت الناس المكتوب... يمكن قراءة هذا الصوت من خلال تعدده وارتفاعه والوانه ايضاً... كجزء من نظام سيميائي محدد ، الصراخ والموت للاسود، والاصفر للغز، وللعمل النيلي، وللبطالة الازرق وللسياحة الاخضر وللاحتجاج الاحمر... الخ. طيف لوني يقابله طيف دلالي يمكن للمتلقي عبره ان يقرأ الخطاب السائد كبنية، … ليس المهم ما تقوله اللافتة الواحدة... بل ما يقوله عددها وانتشارها وتلونها.

من هنا يستطيع اي فاحص ان يقرأ من خلال اللافتات في العراق، اي الالوان تسود...

لقد كثرت اللافتات التي تعلق عند العزاء... والموت”والحوادث المؤسفة“... فلبست المدن ثوبها الاسود... واختفت الالوان الاخرى وتراجعت … الا في بعض المناسبات الدينية التي تحمل شعاراتها والوانها الخاصة. وهناك لافتات اخرى نشاهدها في الملاعب الرياضية هي غالباً تعتمد الوان الفرق التي يؤديها الجمهور، ولها عبارات مقتضبة من امثال: الفوز للانيق... او الازرق يلعب... والاخضر القيثارة... الخ.. ان ظاهرة اللافتات باتت تشكل اليوم الاعلان اليومي عن حياتنا افراجاً ومؤسسات وجماعات … بل يمكن القول ان مدننا تلبس ثيابا وتجددها كل يوم حسب السائد... لكن … وايضاً حسب الحدث...

واخيراً فاللافتة كالانسان تعيش وتنمو وتزدهر من اجواء الحرية وتختفي منها تحت ستار العبودية القاتم.