المقاله تحت باب في الموسيقى والغناء في
26/12/2009 06:00 AM GMT
علي خضر
تبدأ القصة في بغداد في القرن التاسع عندما اضطر أن يغادر زرياب، تلميذ اسحق الموصلي، عاصمة الخلافة العباسية بغداد ليستقر في قرطبة، حاملا معه كل التراث الموسيقي العربي. حيث استقبله في قرطبة، المدينة العربية الساحرة في القارة الأوربية، الأمير عبد الرحمن وكلفه بوظيفة إدارة الحياة الثقافية في قصره. وأصبح هذا الفنان المصدر والمثال للحياة الثقافية والآداب الاجتماعية فيها. لقد أحدثت هذه العبقرية انقلابا في العادات والقيم في البلاط كما لدى عامة الناس في الأندلس . مما لا شك فيه هو أن زرياب ( واسمه الحقيقي هو أبو الحسن علي بن نافع، ولد في سنة 173 وتوفى بقرطبة في 243 هجرية، شتاء عام 857 ميلادية) كان أول من ادخل المقام (الغناء البغدادي) إلى قرطبة. وإليه يعود الفضل في الكثير من الأجناس الموسيقية، منها الغناء الأندلسي. كما انه ومن اجل أداء هذه الأنواع الجديدة من الموسيقى، صنع العديد من الآلات ومنها الغيتار وهي تسمية جديدة لكلمة قيثارة بالآشورية وغيثارة بالمصرية وهي من عائلة العود الشرق أوسطي والذي منشأه في العراق.
فبينما كانت أوربا تعيش في ذلك الزمن الفاقة، وعلى كل المستويات، كانت قرطبة عاصمة الأندلس تغلي إبداعا ورهافة. عوامل عديدة تدل على المستوى الموسيقي الرفيع، نستطيع أن نذكر منها عدة أنواع من الغناء العربي، التجارب الموسيقية البيزنطية كالأورغانا (الأورغ)، التأثيرات اليونانية، الإيقاعات الشمال الإفريقية (المغاربية)، وآمال الأوربيين القادمين من الشمال والذين استقروا في أسبانيا والتي يجب أخذها بالحساب، ومزاج الإيبيريين (سكان أسبانيا)، والغناء الديني للعرب من الطائفة اليهودية القادمة من المغرب ومن صقلية إلى أرض الأندلس في زمن السلطة العربية، وكذلك الأغاني الدينية للعرب المسيحيين القادمين من المشرق والمغاربة المسيحيين منذ الغزو الروماني لإفريقيا الشمالية أو الغناء الصوفي للعرب المسلمين كلها كانت تتسابق لتخلق أجناساً من الموسيقى وبدون أي شك فان الفلامنكو هو إحداها.
كان المجتمع القرطبي متنوع الأجناس والانتماءات، ويبحث عن تعابير شعبية جديدة تلتقي فيها اللهجات المختلفة ولتنصهر بعضها بالبعض الآخر. في مناطق الغليان الثقافي هذه، استقرت قبائل قدمت من الهند عابرة الباكستان وأفغانستان وبلاد فارس والعراق وسميت بالـ كاولي. هذه الكلمة مشتقة من العربية ومفردها قائل / فعلها قال. بالفرنسية (وبشكل عام باللغات اللاتينية) سميت هذه القبائل جيتان، والكلمة أيضا من أصل عربي ومشتقة من كلمة شيطان. هذه القبائل الهندية، التي اغتنت موسيقيا بفضل مرورها ببلاد فارس والعالم العربي وكثبان شمال إفريقيا، لم تكتفي بأغاني الابتهال إلى الله والذكر والإنشاد عن حياة نبي المسلمين، بل كانت تستعين بالراغا الهندية (وهو الجنس الموسيقي/الغنائي الكلاسيكي الهندي) والمقام البغدادي، لقد خلقوا شيئا فشيئا وباستخدام آلات موجودة ومنها الغيتار الابتدائي نوعاً موسيقياً يتحدث فيه المغني إلى الناس عن مصيره. وهذه ألاغاني هي قصص عن ومن الحياة بما تحتويها من الانفعالات ومن التراجيدية أو من الحب. كان هذا المغني ملاحق من كل المذاهب ومن كل الأديان، فنجده في نفس الوقت ضحية ومنتصر، وبفنه يقود الإنسان إلى الرقص وإلى حلقاته الجنونية. أغانية ملتهبة وفخورة فيها بطل يحكي عن نفسه في فوضى العالم وتاريخ معاناة الإنسان فيه. هؤلاء القوالون (الكاولية في الدارجة العراقية، لكنها كلمة تستعمل في الأوردو وفي الهندية) أو الغجر (بالفصحى) ما زالوا يحملون آثار الرقصات الشعبية الهندية، تنانير الرقص الطويلة، الإيقاعات الصادرة عن خلاخل العرقوب، حركة الأقدام التي كانت تصدر الصوت من العرقوب. يقرؤون الفأل (الطالع) ويكشفون أقدار مستمعيهم. الفعل في العربية الذي يصف أغاني الغجر هو الفعل فأل أي قرأ الطالع أو كشف الحكاية الشخصية وماضيها وتنبأ بمستقبلها، وفي اللهجة العراقية الدارجة يسمى قارئ أو قارئة الطالع: الفوال/الفوالة. الفلامنكو هو ثمرة عبقرية الغجر وليس نتاج الفلامانيين البلجيك في القرن السادس عشر كما تدعيه وبشكل غريب بعض القواميس العالمية الغربية التي تدعي بأن كلمة فلامنكو تأتي من كلمة فلامان (سكان شمال بلجيكا) أو فلام ( وتعني اللهب). فإنه بإضافة الضمير المخاطب المفرد أو الجمع ( كَ - كُم ) مسبوقة بحرف الجر أو بالخبر (من) (كَ، كِ، كُم) والذي سوف يتحرف قليلا بالتبسيط الشعبي، تصبح " فأَل منكُ" فلامنكو (لاحظو الشبه الكبير بالكلمتين) والذي يمكن تفسيره بِـ سأَقص لك قِصتُك. وكما نرى فان الشبه ليس فقط على مستوى اللفظ بل في المعنى ايضا. من الأهمية بمكان أن نلاحظ أن الفلامنكو يتوجه مباشرة إلى المستمع المشارِك الذي يتجاوب تقليدياً بالتصفيق أو بالصوت وبالرقص أثناء أداء المغني المنفرد الأساسي. كما أن كلمة "أوليه" الأسبانية التي تستعمل في اللحظات القوية أثناء غناء الفلامنكو هي تماماً كلمة "الله" عندما ينطقونها العرب عندما يطربون بعد بيت شعري أو في لحظة موسيقية قوية.
أما موسيقياً، فأن الفلامنكو يحتوي على الربع تون ويتضمن الارتجال كما في المقام، أما في الموسيقى الغربية فإن الربع تون قد غاب منذ القرون الوسطى وعمليا لا يوجد أي ارتجال فيها. كما إن الكثير من مقامات الفلامنكو شبيهه جدا بالمقامات العربية. لقد ازدهر هذا التعبير الموسيقي الشعبي منذ ذلك الوقت الذي كانت فيه أوروبا تعيش الركود الثقافي بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية. إن الصلة بين المقام والفلامنكو شئ لا يمكن إنكاره علميا
|