تراجيـــديا العــــــود

المقاله تحت باب  في الموسيقى والغناء
في 
21/01/2010 06:00 AM
GMT



يوسف حاتم
 
تشير شهرزاد قاسم حسن في كتابها "الموسيقى العراقية" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) الى ان البقعة الجغرافية والإنسانية التي يمتد عليها العراق تتميز بموسيقى غنية ذات اساليب مختلفة. مرجع هذا الغنى تفاوت طبيعة المناطق الجغرافية (السهول، الجبال، الصحراء) التي تؤثر في الحياة وتتضمن الاختلافات في نمط معيشة السكان (البدو وسكان المدن) اضافة الى الاختلافات ذات المنشأ القومي. فإلى جانب العرب توجد اقوام اخرى كالاكراد والتركمان والاقليات الاخرى التي تمتلك موسيقى مميزة في الحانها وآلاتها وطريقة ادائها، وتتخذ موسيقى الاقوام المختلفة اهميتها بنسبة عدد السكان الذين يمثلون كلاً من الاقليات المذكورة.

 

مجلس الخليفة، لجواد سليم.

يتميز العراق من الناحية الجغرافية بثلاث مناطق مختلفة تمام الاختلاف: المنطقة الصحراوية (البادية والجزيرة)، تليها منطقة سهول ما بين النهرين التي تمتد من جنوب بغداد حتى البصرة، ثم المنطقة الجبلية التي تقع في شمال العراق. ولكل من المناطق الجغرافية المذكورة امتداداتها الطبيعية والحضارية والموسيقية خارج حدود العراق. وضمن هذا الموزاييك الجغرافي والقومي - الاجتماعي تتميز المنطقة بتعايش معظم الاديان المعروفة، اضافة الى ديانات قديمة اخرى. الا ان البحث الموسيقي (بحسب شهرزاد قاسم حسن) اثبت ان عنصر الدين لا يؤثر في اختلاف التقاليد الموسيقية. فكل الديانات التي تتعايش ضمن جغرافيا واحدة، تمتلك خصوصيات المنطقة حضارياً وموسيقياً، تستثنى من ذلك الطقوس الدينية الخاصة لكل من الاديان المذكورة.

قبل الكلام عن الموسيقى والغناء في الزمن الحاضر، لا بد من التدرج الى الماضي الذي يعكس بعضاً من الحاضر بالطبع. ذلك ان تطور الموسيقى العربية حدث في العصر الذهبي للدولة العباسية. وبنيت عليه الدعائم الرصينة التي اذكت التطور الموسيقي لدى العرب. وكانت بغداد تشهد مراحل التطور وتتماشى مع المراحل التي أسسها العباقرة امثال اسحق الموصللي وزرياب واسماء اخرى.

لمدرسة بغداد في العصر العباسي اهمية بارزة في تاريخ الموسيقى العربية بما حدث من انشقاق فيها بين تيارين رئيسيين: تيار الموسيقى الكلاسيكية المحافظة التي مثّلها اسحق الموصللي ومدرسته البغدادية، وتيار المجددين الذي مثّله الخليفة ابرهيم المهدي، شقيق هارون الرشيد، والذي جرؤ على الخروج على المعايير السائدة بحكم مركزه عندما قال: "اني خليفة وابن خليفة واعزف ما يحلو لي، اني حر لأختار من الغناء ما يعجبني، اغني لكي اطرب واتسلى لا لكي ارجو من وراء ذلك"، مما جعل ابا الفرج الاصفهاني صاحب كتاب "الاغاني" يهاجم المجددين ويتحسر على الغناء الذي بدأ يضمحل بسببهم. لكن الاصفهاني لم يقدم سوى تحليلات وصفية واخبار غنية، إلا أنها لا تساهم في تطوير الموسيقى.

تروي شهرزاد قاسم حسن نقلاً عن سيمون جارجي في كتابه "الموسيقى العربية" ان مدرسة العراق في الموسيقى من اكثر المدارس العربية اصالة، ذلك لانها تمتاز بهوية فنية تتمثل في المقام (اصل الموسيقى العربية) وهو الشكل الموسيقي والغنائي الذي يتميز بخصوصية في تركيبته وتلحينه ومحطاته الموسيقية والغنائية التي استلهمت التراث العربي. ويعتمد المقام على اللغة العربية الفصحى، شأن الموشح الاندلسي والقدود الحلبية.

 

العزف المنفرد

الموسيقى العراقية، ذات صوت واحد، أي ان الخط اللحني والافقي يشكل الجانب الاساسي لها. اما العلاقات الصوتية العمودية "الهارمونية" فلا توجد الا على توافق يتأتى من مشاركة عدد الآلات، بمصاحبة الصوت او بدونه. على ان الموسيقى العراقية لا تعجز اطلاقاً امام الكلمة، فهي تمنح الاولوية للكلمات وللشعر، اذ تكون الآلة الموسيقية في خدمتها. وبهذا فإن الطابع الاساسي للموسيقى العراقية هو الطابع الغنائي. وفي هذا المجال نلفت الى ان المشكلة ليست في كون الموسيقى غناء فحسب، بل في جعل الصوت البشري يحمل وحده عبء التعبير الفني، وفي اهمال دور الآلات الموسيقية واهميتها في المشاركة في خلق الجمال. المشكلة تكمن في عدم التوازن والتوافق بين الصوت والآلات المصاحبة.

يشترك الجمهور في كل تجمع موسيقي وهذا يعني عدم وجود فصل فعلي بين المستمع والمؤدي. فالحميمية في العلاقة هي الاساس، والمستمع التقليدي يساهم في عملية الخلق. الجمهور جزء من الموسيقى وموسيقى اجسادهم او آهاتهم تزيد من حماسة المغني للسجية والسفر المتعالي نحو فضاءات النشوة او نحو فضاءات الحزن.

بين الموسيقى والغناء أوجه تعتبر من الركائز في "تثوير" التراث العراقي واخراجه من المستنقع. منها تلك التي يجسدها محيي الدين حيدر فالاخوان جميل ومنير بشير، اللذان غاصا في الفولكلور العراقي والتراث واستقيا منهما اسلوبهما. ويتميز العازف جميل بغلبة الجماليات في ارتجالاته الرصينة، اما منير المتوفى عام 1997 فيعتبر اسطورة العود العراقي. فهو من عازفي العود القلائل الذين حصدوا الاجماع بأنه افضل عازف، اذ وصل شجوه الى اوروبا بل الى العالم اجمع، حاملاً معه الصبغة الفلسفية. فهو استطاع ان ينقل احساس الشرق وسحره، مستفيداً من كل التقنيات الغربية في عزفه. ولعل ما ميّز منير بشير هو اداؤه الموسيقي الارتجالي المذهل على العود، وتنقله الرشيق بين المقامات الموسيقية بحرفية عالية قلّ مثيلها. وهو بدأ يؤلف مقطوعات موسيقية للعود كآلة موسيقية منفردة تحمل بصمته الخاصة، وهذا الامر لم يفعله سوى عازفين قلائل في العالم العربي منهم محيي الدين حيدر (المعلم الاول) وجميل بشير وسلمان شكر ثم نصير شمة وكلهم من العراق، وهذا يتطلب جهداً فردياً هائلاً من العازف.

نتوقف عند الغناء لدى ناظم الغزالي فنقول ان سر نجاحه وذيوع شهرته انه لم يؤد المقام في الشكل التقليدي المتكرر على الالسنة، وانما خرج على الاصول المتبعة ليجعل منه اغنية عذبة سهلة التداول والحفظ. اتقانه العربية الفصحى والنطق الصحيح للحروف، مكّنا صوته من أن يصل الى كل مستمع عربي بسهولة. هذا بالاضافة الى اختياره نفائس القصائد العربية التي تدل على معرفة واطلاع واسعين. فهو صاحب "أي شي في العيد" و"يا أم العيون السود" و"فوق النخل فوق" و"طالعة من بيت أبوها". وهي الاغاني التي ترددها الاجيال وتثير الشجن وتزرع النشوة وتجعل السامع يحلق الى اجواء عالية. انه بالنسبة الى العراق مثل أم كلثوم لدى المصريين وباقي العرب، شأن فيروز في مشارق الأرض ومغاربها. حميميته هجرة روحية كاملة.

والغزالي من كبار قرّاء المقام العراقي (اضافة الى حسن خيوكة (1905-1962) والى محمد القبانجي (1901-1989). كان الغزالي يطمح الى ان يكون عازفاً وقارئ مقام، فصار يتردد في الامسيات على منير بشير ليعلمه العزف على العود في معهد الفنون الاهلي الذي افتتحه هذا الاخير في شارع السعدون في بغداد.

بعد ذلك، تزوج الغزالي المطربة اليهودية الشهيرة سليمة مراد، واستفاد من محفوظاتها من الاغاني و"البستات" العراقية.

 

حزن ما بين النهرين

من المسائل التي تطرح باستمرار في الصحف وفي اللقاءات مع الموسيقيين والمثقفين، اعتبار الموسيقى العراقية حزينة. والاسباب التي تفسر هذا الحزن مختلفة. فالبعض يرجعه الى التاريخ، و"يتضمن مفهوم التاريخ الكولونيالية (بحسب شهرزاد قاسم حسن)، المآسي الاجتماعية وصعوبة الحياة، انعدام الحريات الشخصية، هيمنة التفكير الديني، جفاف العلاقة بين الجنسين والافكار الرجعية التي تسيطر على المجتمع وتستحوذ على عقول الناس بحيث تشلهم عن الحركة وتمنعهم من تذوق مباهج الحياة وجمالها". وقد جاء في الاجابات اسباب اخرى لحزن الاغنية كمثل اعتبارها "سمة خاصة بالشعب العربي" او "ان المزاج العراقي يبحث دوماً عن الحزن" و"انه اكثر تمكناً من الاحتفاظ بالشعور التراجيدي منه في الحفاظ على الفرح".

تبيّن شهرزاد حسن ان ابحاثاً جرت لتخفيف الحزن في الاغنية العراقية منذ بداية السبعينات، رغم عدم وجود بيان رسمي في هذا الصدد. وحصل اتفاق شفهي في الاوساط الاذاعية لتقليص نسبة الاغاني الحزينة وذلك من طريق رقابة لجنة نصوص الاغاني التي تزعم انها تريد ان تنمّي "الشعور بالتفاؤل" والفرح والخير على حساب اغاني البكاء. وقد جاء تطبيق قرار تقليص بث الاغاني الحزينة الى حدها الادنى على حساب الجماهير الريفية التي تعتمد في غنائها على الابوذية والاشكال المقاربة لها. ولم يكن هذا الا دليلاً واضحاً على ازمة الاغنية العراقية التي كانت تغرق في التراث والاصالة ولا تجد من يرفع شأنها ويجعلها في حاضر الاجيال الجديدة، على نحو ما فعل الرحابنة بالتراث القروي اللبناني، او سيد درويش بالتراث الشعبي المصري. لكن المحنة في العراق، كان لها شكل آخر. فعلى سبيل المثال، تعهد المغني ياس خضر مرة لاحدى المجلات: "اني مستعد ان اعطيك كلاماً مهماً وهو اني سأهجر اغاني الحزن الى الابد وسأحتاج اليكم (يقصد المجلة) خلال هذه الانتقالة لان الجمهور سوف يشعر بشيء من الفراغ وعدم الالفة مع وضعي الجديد". ان الآراء التي تطرقت الى موضوع الحزن في الغناء، تركزت على الحزن الذي يتضمنه النص الشعري دونما اشارة الى دور الموسيقى في ذاتها. والغالبية العظمى من المتحدثين عن حزن الاغنية العراقية يتغافلون عن البحث في مسبباتها الموضوعية - الاجتماعية "وكأن الاغنية هي المسؤولة عن حزن المجتمع".

الذين رفضوا الحزن في الاغنية العراقية، استبدلوا ذلك بحزن جديد، اذ شغفوا بالاغاني المصرية النحيبية ذات الايقاع السريع واعتبروا انها فرحة. وهذا يجرنا الى الصراع بين القرية والمدينة والهيمنة الثقافية للمدينة من ناحية موسيقى المتنوعات، رغم ضحالتها النوعية بالمقارنة مع عمق موسيقى الريف واصالتها. علينا ان نذكر هنا ان الاغاني الفيروزية كانت ريفية جبلية وغير مقبولة في الساحل البيروتي الذي كان يحب أم كلثوم، لكن مع الايام تغلغل الصوت الفيروزي وكلماته في الجبل والسهل وعلى الشاطىء وصولاً الى الصحراء. كان منبوذاً و"طقطوقياً" مرغوباً ورسولياً. حيال هذا، هل نقول ان التراث العراقي الريفي يحتاج الى عملية تهجين لاخراجه من القمقم. هل يحتاج الى "ايديولوجيا" تسويقية تجعله يصل الى العالم شأن صوت ناظم الغزالي؟

ثمة مقارنة ساذجة تقولها شهرزاد قاسم حسن، حين ترى ان ابن المدينة الجديدة (تقصد العراقية) يعاني الضياع بسبب اختلافات اصوله ولعدم تجانس ثقافة المدينة عموماً، في كونها تجمع بين انتماءات اجتماعية مختلفة في احتياجاتها. ان نصوص الغناء العربي المدينية تعتمد في صورة عامة على مضامين الحب. هو اكثر محدودية من الغناء الريفي الذي، فضلاً عن ادائه اغنية الحب، غالباً ما يتطرق الى مضامين مختلفة للحياة الاجتماعية. ولو قارنّا بين مضامين الحب في هذين النوعين من الغناء (تقول شهرزاد) لوجدنا أن الحب في الغناء الريفي قد يكون حزيناً ومتشكياً الا انه حقيقي، في حين تقوم الاغنية العربية المدينية على الزيف.

ان للموسيقى ضمن نطاق المجتمعات التقليدية عموماً، أي البدوية اللامستقرة وتلك المستقرة في المجتمعات الزراعية، ادواراً وظيفية لا جمالية. فالموسيقى جزء من الحياة اليومية والعامة كما تشكل جزءاً من الحياة الدينية، في حين تعتبر المدينة أن الموسيقى اداة لهو، وتعتمد على الشكل الفني الذي يقوم على البحث والاهتمام بالنواحي الجمالية.

تغيّرت الموسيقى العراقية بين جيل وآخر، بين الريف والمدينة، لكن صدام حسين حوّل الاغنية منذ ثمانينات القرن الماضي الى نوع من الاحتراب والايقاع الحربي. فبدا سعدون جابر مثلاً يغنّي لصدام ومجده الخاوي وأمته المترامية الاطراف. صار كل شيء في الاغنية يتمحور حول صدام: العشاق يحب احدهم الآخر تحت انصابه. والاطفال يلوّحون بصوره ويغنّون لعروبته. البدو يعزفون الربابة لقبيلته ويطلقون المواويل لبطولته. الناظر الى القناة الفضائية العراقية يأخذ ملامح قليلة عن عراق صدام حسين. لكن هذا لم يمنع عمر بشير من ان يتابع مسيرة أبيه منير، ولا ان يمنع الموسيقي نصير شمة من ان يصبح ظاهرة في العزف المنفرد على العود (حجر الزاوية في الموسيقى العربية) وخصوصاً حين ادخل عليه وترين اضافيين فصار العود المثمّن (الثمانيّ الوتر)، وفي مشروعه هذا استند الى مخطوط للفارابي كما يقول البعض. وهو ايضاً اضاف مقامين الى الموسيقى هما مقام "الحكمة" ومقام "الكوت". لكن اللافت في عزفه، ادخاله الحدث والفكرة والصورة. فمقطوعته "رقصة الفرس" مثلاً يثبّت بها ان الموسيقى ليست صوتاً عذباً يطربنا فحسب بل صورة حية ايضاً تتحرك امام اعيننا. انها مزج بين السمع والبصر والمتخيل. فعندما تعزف أنامله رقصة الفرس، يخال المستمع ان الفرس نفسها تتراقص على الاوتار. وفي مقطوعة "قصة حب شرقية" يظهر احوال الجنود العراقيين العائدين من الحرب مبتوري الايدي، عازفاً بيد واحدة تضامناً، ومثبتاً ان العود ليس آلة وترية لكنه ايضاً ايقاعي. وهذا غيض من فيض نصير شمة الذي اشتغل على الشعر الصوفي والمناخات الاندلسية، وصدرت له اسطوانات "من امسك بيد الحب" و"قبل أن اصلب" المستوحاة من اشعار الحلاج و"مقام الحكمة". وهو في الاشهر الاخيرة افتتح "بيت العود"، المتخصص في تدريس العزف على آلة العود لتخريج عازفين فرديين فقط