ذكريات مع منعم فرات

المقاله تحت باب  محور النقد
في 
07/07/2013 06:00 AM
GMT



د. اكرم فاضل/ باحث ومترجم راحل

كان  ينحت في البيت وينحت في دروب المحلة وينحت في المقاهي، وكان ابنه احمد  يسأله: «ماذا تعمل يا ابتي من منحوتاتك هذه؟». فيجيبه منعم فرات: «إن هناك  انسانا يبحث عني وابحث عنه، واراه يهيم في عالم الغيب من حيث لا يراني ويوم  يقع بصره علي سيبرهن للناس على عظمة ابيك»..

 وخلال هذه الفترة نحت رأس جورج الخامس ورأس فيصل الأول ورأس عبد المحسن السعدون وباع هذه الرؤوس بابخس الاثمان. اللقاء.. رأيته بعد ظهيرة احدى الجمع عام 1960 واقفا بين البنك المركزي ومصرف الرافدين وبيده تمثال طير صغير اجنبي ملون. دنوت منه بتلهف وسألته عن سعر المنحوتة فاجابني بان سعرها مترك للسائل فنقدته مائتان وخمسين فلسا واعطيته بطاقتي الشخصية هذا هو الاعرابي العملاق ماثل امامي، اساله عن سره فيخبرني انه طالع محلات فنية فقالت له نفسه: "انك قادر على نحت امثال ما رأيت" فيحاول.. يزور المتحف العراقي مرة مستوحيا فينحت بعد الزيارة ما تلهمه مخيلته غير مقلد شيئاً.. فاذا بمديرية المتحف تقيم عليه دعوى جزائية موضوعها التزوير، واذا بحاكم الجزاء عبد العزيز الخياط الذكي الفؤاد يرد الدعوى ويزجر ممثل الدائرة فسأله عن نشأته فيخبرني ان مسقط رأسه محلة الشيخ علي، وان اهله كانوا من ملاكي الاراضي الموسرين. وكان ابوه شيخ الطرف، بحيث لا يدنو احد من داره إلا غداه او عشاه، لانه ابن عشائر، لأنه جبوري.. إسمه نعيم بربوت وادي، لكنه اطلق على نفسه اسم "منعم فرات" باعتباره الاسم الفني.

 
لم تسجل اراضي الاسرة بصورة قانونية في العهد العثماني، فاغتنم هذه الثغرة احد الشطار وانتزعها من ايدي اصحابها بعد الاحتلال.. فاقاموا عليه دعاوى خسروها.. وتثور ثائرة نعيم الشاب فيرسل الى المغتصب رسالة يرسم فيها خنجراً، فيقيم المهدد بالخنجر الدعوى، ويدخل نعيم السجن ليقضي فيه سنة واحدة، يعود بعدها الى داره ليظل سنة تحت مراقبة الشرطة، وكان قبل اغتصاب اراضي ذويه يعمل فلاحا فيها.. ويدور به الزمان وهو يزاول شراء الاغنام وبيعها، وفي احدى السنين تلجئه الحاجة العاتية الى الاشتغال عاملا في معامل العينة.الحوار.. قلت له: "لا اصدق ان مواهبك تقف عند تقليد طيور اجنبية.. انني لست بموجه. وانما كل ما اريده منك هو ان تكون انت نفسك".. فاجابني: "إن رأسي يعج بالسعالي والغيلان والافاعي والعفاريت والطناطل". فاقترحت عليه ان تعمل يداه وفق تعليمات رأسه..

الابداع..
حمل إلي تمثالا مؤلفا من شخصين  لا يشبههما انس ولا جن ! ثم جاء بتمثال من اربعة رؤوس وتمثال من ستة رؤوس. وتماثيل اخرى تتفجر رؤوسها من كل انحاء اجسامها. قلت له: "من هنا منطلق ابداع منعم فرات.. لقد عرفت دربك فعلى بركة الله". اشتريت منه عدة تماثيل لحساب الوزارة ولكن مدير الحسابات وقف لي بالمرصاد، اخذت اشتري تماثيله على نفقتي الخاصة ثم اهبها او ابيعها.. فثقل جيب الرجل.. وتخلص من مذلة الوقوف على قارعة الطرق.
وانفقت مع صديقي الفرنسي مسيو باري على احداث شعبة للفن الشعبي في اوروزدي باك واعرته نماذج من الصناعات اليدوية.. وكان في طليعتها تماثيل منعم فرات، كان الافتتاح رائعا ناجحا، وكانت هذه التماثيل محط انظار المتفرجين واخذ باري يشتري تماثيله ويبيعها، الى ان توقف يوما عن البيع، لأن منعم فرات لجأ الى الفن المكشوف في منحوتاته، فاوغل في معالجة الاوضاع الجنسية فاخذت هذه التماثيل طريقها الى فرنسا! ولما سأله احدهم عن سر انغماسه في هذا الموضوع اجابه بخشونة: "ولماذا لا تسأل الواقع؟". 
 
ظهرت معه في ندوة تلفزيونية حية.. عرضت تماثيله كلها.. تحدث هو على سجيته، فكان اعجاب المشاهدين بعفويته تماما، فازدادت ثقته بنفسه وتناولته الصحف والمجلات وزارني الاجانب في الوزارة طالبين المزيد من المعلومات عنه. رجاني السفير اليوغسلافي ان ازوده بتمثال فارسلته اليه مع زميل، فنفحه بقنينتي شراب ولم يبعث لمنعم بفلس، تعجبت ولم يمض شهر واحد حتى جاءني الملحق الصحفي اليوغسلافي مع صحفية يوغسلافية ناقلا التماس السفير بمصاحبتها الى الاسواق الشعبية، فالبستها طاقية كردية وجلت معها. طلبت الى ان ارافقها الى دار منعم فرات فنفذت طلبها، كان يعدو وراءنا جيش عرمرم صاخب من صبيان المحلة وصباياها. حيث فرات وسألته اكثر من خمسين سؤالا محرجا كان من بينها اسئلة جنسية اجاب عليها بصراحة ووقاحة. ثم انحنت له وناولته مظروفا مختوما اخبرني فرات تاليا انه كان يحتوي على عشرة دنانير.

 
توسط لدي دكتور نمساوي في الانثرويولوجيا فسرت معه ومع زوجة السفير قاصدين بيت منعم فرات، ولن انسى ابدا احداق عجايا الحي وعجياته بنا من كل جانب.. حتى لذنا بدوبرة الفنان محاصروها، كان ثمة لقاء حار بين المرأة والشيخ، اسئلة واجوبة بالغة الصراحة خلال ساعة واحدة ثم ناولته دينارين فقط ثم تمثال اشترته منه.  لم يقنع منعم فرات بما كان يرد الى جيبه من نقود بل طالب بالتعيين، كيف يعين؟ كتب عريضة مضحكة نقرهاعلى قطعة من الرخام.. رفعتها الى الوزير فاحالها الى الذاتية لاجراء اللازم، كتبت الذاتية الى المالية، وبعد جهود مضنية من الوزارة، عين منعم فرات بوظيفة "نقاش!" باجرة شهرية مقطوعة مقدارها (17.500) دينارا تجدد كل ستة اشهر، فنقل ادواته الى الوزارة وهي عبارة عن مطرقة وقلم حديد وفأس ومنشار. اخذ ينحت ويهب كل منحوتاته للوزارة ويعون اوروزدي بمشغولاته في البيت، وكان كل تمثال يختلف عن التمثال الاخر ويفوقه من حيث الغرابة ولم يكن بمقدوره ان يحاكي نفسه، وجاء زمان وصل النحات الى سن لا تؤهله قانونيا للعمل فلم يجدد راتبه.

بذلت المستحيل لاعادة تعيينه واعاني كل الوزراء الذين تعاقبوا على وزارة الاعلام، واخيرا حل يوم ارساله للفحص الطبي ، نصحته ان يحمل معه احد تماثيله لترى اللجنة مواهبه فاذعن ولكنه مضى بعصاه وعباءته وعنجهيته دون تمثال.. سأله رئيس اللجنة الطبية عن اتجاه احد الحروف، فصرخ به منعم فرات قائلا له: "وما شأني وشأن اتجاه الحرف؟ انا النحات منعم فرات، الفنان الخارق، لماذا تسألني هذا السؤال البارد؟ هل طلبت منك تعييني مدفعيا او طيارا؟ وغادر قاعة الفحص وهو يزأر. اكثرت الوزارة من شراء ما تيسر لديه من التماثيل الصغيرة والضخمة، واغدقت عليه المكافأت.. واخذ يوما مذكرة اذن دفع وذهب بها الى الخزينة المركزية وجاءني بها محولة الى صك. فارشدته الى البنك المركزي، مذكرا إياه بوجوب حمل الهوية او دفتر النفوس. فمضى لطيته فجوبه هنالك بطلب شاهد معروف، فرفع هراوته الغليظة وجه الموظف موبخا اياه على جهله الفاضح بالفنان الشهير منعم فرات.
حتى تجمهر حوله الموظفون والمراجعون، وكادت تقع فتنة يخرج منها منعم فرات اما قاتلا او مقتولا، لولا ان تداركه القدر بلطفه فقيض له فطنة احد الحاضرين الذين اخذ بيده والصك يرتجف بارتجافها الى احد الصرافين. زار العراق احد اصدقاء العرب ورئيس تحرير مجلة "لقاءات البحر الابيض المتوسط" الدكتور رنانو بيستونه، اعجب هذا الرجل بتماثيل منعم فرات اعجابا مذهلا، وشاء القدر الا تقع على الفنان إلا بعد سفر الدكتور الايطالي بساعات الى روما، بعد ان بذلت كل ما في طوقي للجمع بينهما لغرض كتابة حوار فريد. اتفقت مع بيستونة على اقامة معرض للفنان منعم في روما، وجرت بيني وبينه مراسلات طويلة دامت سنة واخيرا ارسلت له عشرة تماثيل حية واربعين صورة تمثال كبيرة مع صورتين شخصيتين كبيرتين للفنان ووافقت الوزارة على صرف مائة دينار كنفقات لحفلة الافتتاح، وانتظرت اقامة المعرض على أحر من الجمر..
 
اقيم المعرض في الثاني عشر من شباط عام 1970 ونجح نجاحا باهرا جعل الناقد الايطالي الفني الكبير البرتوجانيني يكتب عنه مقالة مسهبة يفضله فيها كفنان بدائي على بيكاسو، وسيرى القراء في ختام كلماتي هذه شذرات من هذه المقالة الام. وسعى الصحفيون الى مكتبي لاستقصاء اخبار المعرض واستكناه مواهب منعم فرات، وتناولته الصحف بالتعليقات وكتبت عنه مجلة بغداد مقالا رائعا للدكتور جان فيبه في طبعتيها الانكليزية والفرنسية، وكان منعم فرات على اتصال دائم بي وعلى اطلاع مستمر على كل ما ينشر عنه . انفتحت شهيته للشهرة واخذ يطالبني كل اسبوع بمجلة ناشرة عنه مقالا! وارسل في طلبه وزير الاعلام وكرمه تكريما جميلا وحمل احد تماثيله وطار الى مجلس قيادة الثورة ليعود بقرار اعادة تعيين "النقاش منعم فرات". ظهرت معه في ندوة ثانية ليتحدث هو عن نفسه واتحدث انا عن معرضه في روما فكانت حصيلة هذه الندوة التلفزيونية تهافت المعجبين عليه ، تهافت الذباب على الشراب، وجنون الاجانب به.

افكاره
منعم فرات انسان حاد المزاج غريب الاطوار متنمر متمرد لادع اللسان، او هو كما يقول اليأس ابو شبكة: "ناقم على السماء حاقد على البشر". ولكنني لم اسمع منه كلمة بذيئة او شتيمة. كان حر التفكير له رأي خاص في المعتقدات وقد وعدني فنانون عديدون بدراسة تماثيله ليعاونوني في اصدار كتاب عنه يجمع اراء الشرقيين والغربيين.

واخيراً اختلى الفنان المفكر شاكر حسن آل سعيد بتماثيل منعم فرات وناجاها يومين، وسجل عنها ملاحظات، وبشرني بقرب كتابة البحث الموعود غير انه اصر اخيرا على مواجهة الفنان بلحمه وشحمه . فجمعت رأسيهما في مكتبي وتركتهما – منتظراً نتيجة الحوار – في الغرفة المقابلة ولكن ما اشد استغرابي حين رأيت الاستاذ شاكر يخرج هاربا من وجه منعم، وقد فر لونه وراغت عيناه ليخبرني بانه يعمل كل شيء لوجه الله، ونظراً لأنه وجد فرات يسير في غير هذا الاتجاه فانه يعتذر عن نكوله عن وعده، قلت للشيخ شاكر: "هب ان هذه التماثيل قديمة كسائر آثارنا القديمة، فهل كنت تطلب استقدام نحاتيها لتستنطقهم وتسألهم عن امور دينهم؟". وما زلت حتى هذه الساعة متعجبا من موقف صديقي الالمعي شاكر حسن. كانت ذروة السمو بالمسؤولية ان تعمل وزارة الاعلان على سن "قانون تقاعد للفنانين العجزة". وقد رغب منعم فرات في احالته على التقاعد بعد ان ارتعشت يداه وضعف بصره، ولكن من يشهد له؟ انه لا يملك تماثيل قديمة مؤرخة. لم يبق إلا ان تشهد له احدى الدوائر القديمة المعطلة. فنهضت بهذا العبء الانساني النبيل مديرية الآثار العامة فحصل الفنان على الراتب التقاعدي فالى الدكتور عيسى سلمان مدير الاثنار العام امتناني الشخصي على هذه الميزة المشروة.


وتقدرون فتضحك الاقدار
شعر منعم فرات بعظمته بعد رعاية الدولة وتكريم مواطنيه والاجانب، فزاد وزنه واحمرت وجنتاه وكان يقصدني في الطابق الخامس من الوزارة صعودا على قدميه، ولم افلح في اقناعه بالعدول عن هذه المغامرة البلهاء، بل لم استطع ان اضع على عينيه نظارتين، وزاد غروره فاستحدث لنفسه شعاراً هو :"انا منعم فرات، النحات على كل نحت قدير!". وصرح للمعجبين بفنه بانه سيستأنف النحت وسيقيم معارض في الداخل والخارج مع العلم انه كان عاجزا عمليا عن نحت اي شيء، واخيرا عمل تشكيليون على اقامة معرض له في برنسلافا في ايلول 1973، وارادوا ان يرافقهم ليرمموه جسيما وليؤنسوا وحشته وليكون بنفسه معرضا حيا لا يجود الزمان بمثله. فشمخ بانفسه رافضا ولما سألته عن العله اجاب انه يخشى السقوط من الطائرة. فلما قلت له: "كل الناس معرضون لهذا المصير" . اجاب: "ولكني اساوي الف انسان!".


واذا المنية انشبت اظفارها
في ضحى اليوم الثاني من آب 1972 قصدت الوزارة وعدت منها الى المركز الفولكلوري ظهرا، فاخبرني احد الزملاء بزيارة منعم فرات وعودته من حيث اتى، فاسفت كثيرا. وفي اليوم التالي نعاه بعد ان مهد للنبأ الفاجع رحمة بي، وخابرني الاستاذ فاضل فيصل للحضور لتشييع الجثمان في احدى مقابر الشيخ معروف، جلست على شفا قبره والتراب يهال عليه ذارفا دموعاً حارة شفتني بعد ان كنت مريضا لا اكاد استطيع التنفس. لم يرض بالموت البعيد الاحتمال نتيجة سقوط طائرة (لانه يساوي الف انسان) فتلقفته عجلات سيارة يقودها طائش لتطحن عظامه طحناً. فاثبتت الطبيعة ان الفرد لا يساوي اكثر من فرد في نظرها. "واخيراً اجتازت اعمال منعم فرات البحر الابيض المتوسط لتعرض في روما عاصمة ايطاليا الفن، ومن هذه المدينة وانا واثق مما اقول، ستنطلق اعمال فرات لتجوب العالم باسره".