لوحات العراقي سيرْوان بَرَّان: صور دافئة تفضح الاستبداد والقلق والخوف من المجهول يعتمد لعبة 'الصدفة المطلقة' ويرسم وجوها تحمل لون الغرق

المقاله تحت باب  مقالات فنيه
في 
18/05/2014 06:00 AM
GMT



http://www.iraqiart.com/inp/Upload/1844738_16qpt898.jpg
الذي يعرف عمل الفنان التشكيلي العراقي المقيم بالأردن، سيرْوان بَرَّان *،وطريقة رسمه، يعرف أنه يولي أهمية كبيرة للعمق أو خلفية اللوحة التي ستخرج منها كائناتُه فيما بعد..
يهيئ لها الحيز الخاص في فضاء اللوحة، يبدأ رسمها أو صياغتها من باطنها كأنه ينفض عنها الغبار كي تخرج مستحثاتٍ شبه واضحةٍ بعد عمليات جمالية تقوم على التنقيب والجراحة والتركيب التي يظهر فيها أثر التحدي جليا، التحدي الذي رفعه سيروان على نفسه كفنان، والمتجلي في دقة يده وعينيه في نحت الوجوه والكائنات والأشياء، لتخرج في النهاية خاضعة لتصوراته المبثوثة في منطق اللوحة أو المنحوتة الخاص، الذي تتبعه هذه وتلك معبِّرا بذلك عن الرحلة الجمالية التي يمكن للفنان أن يمتلكها..
في هذا الحيز أو الفضاء يضع سيروان العناصر التعبيرية التي يختارها، وهو مكان يخصصه للممتلئ والمتحرك الذي تسكنه كائناته، باستثناء الأعمال المستطيلة الطويلة.. ويقابله بفضاء آخر، فارغ، يخلق إحساسا بالتجربة الحدية التي يمكن أن تبلغها كائناته في عزلتها أو قسوة السخرية المختلطة بعنصر الدهشة، الصادمة، كأنها كائنات منذورة لوجود محدد.. وسأعود لهذه الملاحظة لاحقا.
قلت إذن أن سيروان في بداية اشتغاله على اللوحة ينطلق من لعبة جدية، هي لعبة الصدفة المطلقة، حيث تفيض الألوان كطوفان خطوط وبقع وقطرات متناثرة. لكن بدقة الشاعر الرائي الذي، وهو يرسم، يختار مواقع كائناته بوضوح تام وبدقة متناهية، كما يختار الموقع والزاوية التي يجب أن ينظر منهما المشاهد إلى لوحاته، مقارنة مع طبيعة الوجوه وحركة الأجساد، لأنها أرادها أن تنظر إلينا بدورها كأنها تعاصرنا وتتشبه بنا.. لذا عندما يرى المشاهد أعماله، إما أن تفنيه فناء تاما أو لا يحدث فيه الصدى المنتظر.. لكن عندما تصيبه، إما أن يقع فريسة هدوء باطني يدعو إلى التأمل أو يصاب بنوبة من الضحك المؤلم.. ذلك أنه مهما كانت النزاهة أو التاريخ أو المعيش الذين ينبعثون من لوحاته، رسومه، تخطيطاته، صباغاته، منحوتاته أو غيرها، فإن سخريته قاتلة، ومعنى العبث البادي منها يفيض دون مصفاة، شبيه في ذلك بإحباطاته هو وبإحباطاتنا نحن المتعلقة – المتعلقة ببلاده أو بالإنسانية أو ببعض الآمال (المتبقية ربما) المنشودة وسط نفاق العالم.. ومن أجل ذلك يعرف سيروان كيف يحفز الخيالَ ويبدع بقطيع شخصياته الواقعية عالَما يلمع كمرآة.. وبتقنية الفنان العالية، يجعل من كائناته ‘المبالَغ فيها’ عصا سحرية يطمح إلى أن يغير بها النظرة إلى العالم والحياة، كما يجسدهما في واقع فني عائم غرائبي تقريبا.
من هنا وظف الكلب، الذي احتل مركزا جوهريا في عمله، كما في العديد من الميثولوجيات العالمية، كدليل على العبور بين عالمي الحياة والموت، المعلوم والمجهول، الإنساني والحيواني.. وهو رمزيا دال على العقل الواعي، على توحش الروح وعلى الحياة اللاشعورية.. كما قال لي ذات يوم في بيته بعمان.. ثم إن الكلاب في دورها كدليلِ أرواح، تسحبنا إلى أقاصي الظلمات والنور الباطنية كما تجذبنا باتجاه أهوائنا المتحررة واكتئابِنا الدائم، جحيمِنا الفردي أو الكلب الأسود هو الاصطلاح الفرنسي على هذا الجحيم…
هي في عمله يرسمها وهي تنهش الكائنات وعقولها، تحفر الأعماق بقوائمها، تدفن أو تنبش في عظام الموتى..إنها هنا في خدمة الموت الحقيقي والرمزي، تحرس باب الجحيم، تلقي بالموتى في القبور الجماعية أو تستخرجها.. تقتفي أثر لحم بعيد أو رصاصة أو مجهول…
ألِهذا علاقة بالجماجم والأرقام في لوحاته؟
مع الموت يتحلل كل شيء. الموت هو الحد الأخير. الحضور الواضح للموت كوجه للحياة وقفاها، نجده في عدد من لوحات ومنحوتات الجماجم في فن القرن العشرين، ويذكرنا بتاريخ عبور هائل للإنسان.. جماجم جنب مرايا، مجوهرات، كراسي سلطة، أطر لوحات، أحذية، نياشين، أسنان ذهبية، ميداليات.. أي كل ما له بريق معين، ساطع أو شفاف، يحتل مكانا هاما في لوحات سيروان ليدُل على سلطةٍ وجاهٍ وقوةٍ، كلها آيلة إلى زوال. لذا كان اهتمامه بسطح الوجوه، بظاهرها، بالمشِع منها، كأنها صور مطبوعة، محفورة، تشبه نسخة كْليشيه سلبية، تتسلسل بشفافية وبتدفق كأنها على شاشةٍ. كما تتسرب الأرقام في متوالية زمنية لانهائية.. يشبه فيها الإنسان رقما ضمن سلسلة أرقام لا محدودة وسط جماجم مفصولة عن مرجعيتها. ما عدا معرض ‘انتخاب’ الذي أقامه في المغرب برواق ماتيس سنة 2013 الذي يحيل في البداية على العراق، ثم على العالم العربي ليصبح إنسانيا عاما.. دالا على عبث وجودي قاتل كما جاء في صورة جريمة قتل أطفال سوريا بالغاز، وقبلهم أطفال العراق وفلسطين ولبنان وغيرهم.. وقد تحول الناس إلى أرقام انتخابية..تقابلها لوحة ‘الجنرال’ ومنحوتات جثت العساكر المتحللة، المحمولة على قوارب متوقفة في بحر صحراء حيث لا ماء ولا نهر، كما جاء في قصيدة السياب (رحل النهار).
‘يمكن للموت أن يصيِّرك نجما’ بعبارة آنْدي وارولْ الساخرة.. وهذا واحد من أباطيل العالم الذي نحيا فيه.. وغروره وسلطته يطفوان على سطح لوحاته لتفضحه.. وعندما نرى ما بدواخل كائناته، نرى ثنياتها كاملة، وجماجمها سوداء وملونة، سابحة في مساحات مختلفة وبألوان شفافة للغاية وفاقعة كظاهر الأشياء المشعة (مذهب، أصفر، أزرق، برتقالي، أخضر، قرمزي، رمادي، أحمر وغيرها) .. ونرى تلك الكائنات المجهولة (جماجم لا ذكر، لا أنثى) تَسقُط ظلالُها علينا نحن المشاهدين في مشهد اكتئابي ساخر كأننا بها تقول: أنا لا أساي شيئا، أنا لاشيء، أنا كل نسخ العالم السلبية…
‘امتلاك شجاعة السطح’، كان يقول نيتشه.. بهدف إمساك الصور المختصرة، المتلألئة، الومضات التصويرية ،كل شيء متموج، والذي يعلن في الفن والرسم عن عنف خفي يمكن أن يتكشّف لاحقا ككارثة. لأن اللاوجْه أو الظاهر من الوجه، هذه البطانة التي تسكن دُمى الأزياء والوجوه المشوّهة والعيون الجاحظة والجلود الثانية، هي كلها تشديدٌ على معنى الرعبِ والمغلوطِ سياسيا..
في عمل سيروان برّان، كلّ الوجوه مياهٌ تحمل لون الغرق، إذا جاز لي أن أستعير عبارة إميل سيوران. وبذلك يقف بعيدا عن جبهة ‘الخيبة’ وجبهة ‘مُقْترِفي الأمل’، لأنه ليس مصابا بداء حركة الفنانين الفاشلين الذين يحملون التيجان والسيوف، الأزياء العسكرية والأمل على حساب الآخرين، أي المغول القادمين من كل مكان، ‘حثالة’ القارات الذين سيشكلون حضارة كاريكاتورية عصية على الفهم، بدأت تظهر ملامحها في العراق وفي جواره..
هناك شيء آخر لافت للانتباه في عمل سيروان، يكثّف المعنى ويكتنزه، مع أن المشاهد يعتقد أنه مجرد تكميل أو تلبية لحاجة غير تعبيرية.. أقصد هنا الحذاء، بأشكاله المتعددة والخلابة أحيانا، بين طويل، قصير، عادٍ، عال، وحده أو في إطار ممتلئ..ومنه القدمُ كذلك، الممتلئة باللون أو دونه.. وهما معا كناية عن السلطة أو القوة أو الفقر أو العبودية أو ‘البدائية’… وكلاهما كذلك مرتبط بالأرض ولهما حدّةٌ في التعبير..لأن اليابسة هي غير البحر أو الماء الدالين على الحرية والحركة كما هو الشأن في عمل الفنان السوري الصديق يوسف عبْدَلْكي.. خصوصا عندما يضعهما في سياق يحيل على ثبات سلبي، غياب الحركة والتحول، موت يتماهى مع انمساخ الكائنات، انمحاء الوجوه، تداخل الأعضاء والأجساد، الكلاب والجماجم، في رمزية وشفافية مطلقتين، لتقول كلها اهتمام سيروان بالسطح والسحْنة القابلين للاندثار والفناء.. يرسم الكل كأركيولوجي، يستخرجه من بياض اللوحة، يستعرض تاريخ استبداد، يفضح القلق والخوف من المجهول عند هذه الكائنات التي يعْرِفها ويعرف تاريخها وينتمي إلى متخيَّلِه. وعندما يقابل المشاهد مثلا بين لوحة ‘حديث الجنرالات’، لوحة ‘منتخبون’ ولوحة ‘أرقام’، سيرى أن مهزلة الحياة وبؤسها من مهزلة وبؤس الاستبداد وكوميديا الانتخابات، حيث تصير الحياة كلها لعبة سياسية حقيرة تتدبرها قوى معروفة وفق أساليب ونتائج معروفة كل العملية فيها ضرْبٌ من جنون.. فسواء اخترت أو لم تختر، فالنتيجة واحدة: عبث ووجود سريالي في بلاده وفي غيرها وحيثما يتشابه ربيعٌ وخريفٌ والطيف ذا والطيف ذاك، بنفس القالب والمقاس، لتخرج الكائنات من عوالم شبيهة بعالميْ ‘ليلُ البلاد’ أو ‘إنْشتايْن في بغداد’ للكاتبيْن العراقيين المعاصرين..
في الختام أريد أن أقول للفنان التشكيلي سيروان، بأنني عندما أتأمل عمله عن قرب، يصعب علي أن لا أشاهد عنايته الجمالية، اللعِبِيّة التي يوليها لأدقّ تفصيل خام ولأدق إحساس شارد… ومهما بدت اللوحة غير مكتملة كعالمنا غير المكتمل، أو بدا الاشتغال متسرِّعا، فإن أدنى خطٍّ، سطرٍ، رقمٍ، قطرةٍ، بصمةٍ، لصْقٍ، حرْفٍ، كلمةٍ، عدمِ اكتمالٍ.. يوجد هناك لأن سيروان أراده أن يكون بهذا الشكل دون سواه، لأنه حاملُ دلالةِ تشيُّؤِ العالم، عدمِ نضجه، عبثيةِ تيهِ الكائن المغلوبِ فيه ومسوخِه، العالم الذي خبرَه الفنان بنفسه، بحياته الشخصية وحياة شعب بكامله يعاني إلى اليوم وإلى قرون آتية..
إن دفء صور هذا الفنان، ولِمَ لا دفْء ‘شعره’، حتى الفوري منه، اسْكيتْشاته، والأسئلة التي يفشيها في عمله، لا يحلّ محلّها شيء.. إيقاعُ رسومه جميلٌ، ساحرٌ ومزعجٌ.. وحتى ضجيجُ صمتِ أعماله الفنية، الأخّاذِ، نسمع صداه كذلك فيما وراء تنفّسِنا.

* من مواليد 1968 ببغداد. حاصل على دبلوم فنون جميلة من جامعة بابل، العراق.

*ناقد وفنان تشكيلي مغربي

حسان بورقية

عن القدس العربي