اسماعـــيل فتــــاح (1934-2004م)

المقاله تحت باب  مقالات فنيه
في 
06/04/2015 06:00 AM
GMT



محمد الجزائري بعد يوم من رحيل الترك(21تموز2004)..
سقط صرح آخر من صروح الفن التشكيلي في العراق برحيل الرائد التشكيلي الدكتور خالد القصاب(العاشرة من ليل22تموز-عمان) كأن قدرنا أن يتهاوى خالقو الجمال والسرور الصعب واحدا إثرآخر، أو كأن الحروب والكوارث والمنافي تحرق أخضرالمبدعين وتعطب أجسادهم، وتوقف نبض قلوبهم..والباقون، الباقون المتعبون، يتكئون على جذورهم ومحباتهم ووطنيتهم، مثل بيوت عتيقة تتواضع كنف بعضها كي لا تنهار!
هل استبدل اسماعيل فتاح الترك الحب بالحزن؟ أو بشيء آخر؟
في (الإمارات) ظل نادر التلاقي مع معارفه، بسبب تداعيات صحته، لكنه ما أن يـُـتصل به للقاء محب غاب طويلا حتى يهرع إلى المكان كمن في قدميه نار، وفي مقلتيه تلك الماسات الخجلى سرعان ما ترطب خده راسمة مسيل شوق، فهو دماع، عاطفي، محب للمرأة والأصدقاء والحياة، حتى وهو يمزج سخريته والحزن المعتق بأسئلة ذلك البصري الطيب وحيرته الأبدية:
 -هل صارعمر القسوة والحزن والخسارات أطول من عمر الفرح والتسامح والحب؟ في معرض الفن العربي المعاصر(100×100)متحف الشارقة للفنون، لم أتبينه ضمن ضيوف(برج العرب) بحثت عنه فوجدته يتمشى عند ساحل الميناء ودموعه جارية :
 -( تذكـرُني بالبصرة)- قال- وقف في مواجهة السفن الشراعية والأبوام والمرسى المكتظة أرصفته بالبضائع والشغيلة و الرطوبة، قبالة ذلك الفضاء الأزرق المديد، يستذكرالخندق والعشاروشارع أبي الأسود الدؤلي وشط العرب!
أخذتـــُه إلى (القصباء) :
 (لتكتمل بكائية الحنين، أنظرْ، ألا تذكرك هذه القناة بنهر الخندق حيث تراشقنا الماء وشقاوة الطفولة، وحيث عبثت أول ما عبثت ببكارة الطين هناك بوعي مبكر؟
-قلتُ- لم يجبْ، وجهُهُ غاض في الذكرى، ونث خليطا من فرح حزين، كأنه ينتظر ذلك المفارق القسري (الموت) وإنْ بعد حين!
 في معرضه المشترك مع رفيق (الرؤية الجديدة)ضياء العزاوي(غاليري غرين آرت دبي2002) رسم مرارا الوجه الذي أعرفُ ويعرفُ:
 - هل تنتقم بالجمال ؟
هذه الوجوه تـدون نسيانها، ولن تغيب( الشيطانة ) وإن فارقتك- قلتُ- -
 عرفتها إذا ؟..نعم، هي كما سميتها تماما :الشيطانة !
 وتعيد رسمها ، تعويضا عن ذلك الحب الخائب؟ الوجوه،هل تدون نسيانها؟ - أنت تعلم .. نعم.. إنها ذكرى النسيان!
- لكنك ايضا ترسم وجه صبيتك الجديدة:
 زوجتك الطفلة، ولم ترسم وجه( ليزا) الراحلة لأنك لم تنسها (حبك الأول)، كأنك تدنو من حنين قريب، وتكتفي بخابية حزنك المعتق، ترشف من نبيذها سرا ، يا لهذا الديك المتطاوس الذي فيك، أهو تحية لبيكاسو أو لجواد أم لتأكيد فحولة نصبت خيمتها على مشارف الغروب؟
- هل تعتبرالسبعين غروبا ؟ هل نضبت بئرنا حقا ؟
 - إسألْ ديكك! ضحك ، مثل طفل، ونثت عيناه دمعا كماء الخندق!
 اسماعيل فتاح يرسم حالات الوجه في مشهد متدرج التعابير ومتنوعها برغم اكتظاظه وتكراره مع الرجل ذاته، في لوحات ولوحات أ ُخر، كثنائية سببية، ففي لوحة كبيرة ارتفاعها 200سم بالأبيض والأسود للثـنائية ذاتها اشتغل على دُرجات اللون بشفافية وحساسية عالية، بحيث لم يتبد العري ملفتا جنسيا ، بل تعاملت المقلة مع رجل اللوحة وامرأتها العاريين تماما كفن خالص، مثلما تأملت الملكة نور تماثيله العارية (الرجل والديك- مثلا - في ملتقى النحاتين العرب الأول ،قبو زيوس، جرش) محض عمل فني تكمن إثارته في تقـنيته وليس في الإيروسية.
 شغف بالأبيض والأسود بأثر من تخطيطاته وغرافياته، فجعل الوجوه متقاربة التعبيربعديد نسخها الطباعية (الغرافيك) بخاصة ذلك الوجه(المرأة - الشيطان) كناية عن شعوره عندما تهمله المرأة أو تلاعبه أوتشاكسه أو تستديرعنه إلى سواه، لتثيره وتسخر منه، أولتحتمي بسواه منه، فصارت الحالة النفسية والجنسية مرجعية محفزة في اشتغالات الرسم، وليست لآيديولوجية أو لرؤية تراثية، فقد تكرر ظهور الديك منفردا أو في حضن رجل أو امرأة، كما استراح الهر بذيله الطويل في حضن سيدة لعوب، في حين تنازع الرجل على الحمامة، وهي إحالات فولكلورية معروفة.
 لكن أيضا انعكس الفرح بالألوان المحيطة مع بقاء الوجوه حزينة في مجملها، لأنها تعبر عن تغربها وأسلبتها وإنْ ظهرت بقياسات كبيرة أحيانا (200×200سم)..
هذه اللوحات المشغولة بالإكريلك على الكانفاس، أوبالغرافيك، صدحت فيها الألوان الصادحة المباشرة، فالحمامة بدت صفراء، والأجساد خالطها البني الميال للحمرة مع تحديد فرشاة عريضة بالأخضر المزرق أوالأسود، وترصيعات بالأبيض؛ ثلاث " فكرات " لرجل واحد ، كأنه ثلاثة رجال تماهوا في واحد يحاول أن يتمسك بحمامته، لكنه يتدرج في الغياب وتتحول لمعات شعره على جبينه العريض كأ نها ظلال زرق مخضرة:
 ألوان إنطباعية صريحة وحارة على خلفية فاتحة، في حين ظهر في لوحته ديك عراقي بدا مزهوا (80×100سم إكريليك على كانفاس 2000) تجلى على خلفية زرقاء، الذيل والصدربالأحمروالأصفروالأخضروالبني، مع تحديدات قوية بالأسود، وفراغات، لمعات يتركها بيضاء، أو يؤكدها بضربات بيض تشع، في محاولة لجعل المرسوم مقاربا للمنحوت في تجسيد الشكل على سطح القماشة بما يلائم مزاج الكتلة، وأيضا فحولة متباهية!
 إحدى لوحاته الكبيرة ضمت ستة وجوه مؤطرة بأطرلونية متضادة ومتناغمة في تجاورها، الملامح مختزلة وتكاد تغيب في بعضها، في حين حرص الفنان على تقريب الشبه الإنساني في وجه المرأة الصبية، وغالبا بنظرة متسائلة يشوبها حزن، إذ تأخذ الفنان في أعماله الأخيرة تعبيرية تجريدية إشارية ذات علامات وثوابت وصفية، تتجلى داخل إطار من لونية إنطباعية مختزلة ، كأنه يودع نموذجه " التسعيني" إلى غير رجعة، يرسمه مثل حنين، ليدون الوجه نسيانه على الضد من الغياب!
 يواجه الفنان مخاوفه بالرسم!
 يعرف، بعد حين، أن زائره(السرطان)هذه المرة شديد التعنت بموعده، كأنه يجالسه ويحاور مخاوفه، فيستشعرزيارته الختامية لاريب!
- المخاوف كأشواك الورد، من دونها ،لاتعطينا الوردة توازنا واقعيا ..المهم أن ترسم وتنحت تحديك لهذا الرحيل(قلت) ، فابتسم! اسماعيل عاش مخاوفه على طريقته، ساخرا من حتفها.
لذا عاش عمره.
 لم يزرع الحماسة، بل السرور الصعب..
فالعمر أعطاه الذاتية، سبعون عاما أعطته ذاتيته تماما ، فتجوهر وتجلى في تخطيطاته ،غرافياته، ألوان وجوهه المختزلة، ومنحوتاته التعبيرية الرمزية. ذاتيته أعطت لحياته معنى، في الإبداع بخاصة، فالإبداع حياة ثانية..
والوجوه التي دونت نسيانها، إيقونات، تبقى، وصارت ذاكرة وتذكرا ، إنها أحسن راحتيه ضد اليأس
والموت معا
 مذ كنا أطفا لا نعـبث بالألوان والطين بوعي، اسماعيل ومحمد مهر الدين، كانا الأفضل بين أبناء جيلنا هو، سبقنا عمرا بأربع سنوات، وبادر كأول البصريين، كما مهر الدين تاليا ، للإلتحاق بمعهد الفنون الجميلة ببغداد، فنال دبلوم الرسم عام1956والنحت عام1958 وجائزتهما في بغداد، والدبلوم العالي بالخزف والنحت في أكاديمية روما 1963ومعهد سان جاكومود ومعهد روما عام 1964 .
 وهناك في الأعوام1961-1963أقام المعارض وحصد الجوائزمع حبيبته الأولى( ليزا) الألمانية المشتعـلة فكرا واجتهادا وتجريبا حداثيا وجمالا ، فتزوجها .
 لقد أثرت عليه كثيرا وأثرَت فكر فنه وتقنياته. في الملتقى الأول للنحاتين العرب(قبوزيوس جرش- صالة أبعاد عمان) والندوة الفكرية المجاورة تحدثنا عن تجربته، واكتفى بأن قدم أعماله شاهدا ، فهو لايجيد التنظير عن تجربته أو التحدث عنها بلباقة، تماما كفائق حسن، برغم ثقافته البصرية العالية وخبرات دراسته، وتعلمه على جواد سليم ذلك الفنان المفكر التأسيسي الكبير، الذي رشحه لبعثة الخزف بروما كي يشغل فنان عراقي مقعد التدريس في المعهد لهذا الفن العريق، فنان يدرك غنائية الطين(الحري) ومعناه في تشكل حضارة الماء وتجليات العمارة.
واسماعيل ابن مدينة الماء وعلى حافاتها تعلم درسه الأول في الليونة والصلابة معا حين يحول ذلك المائع المتراخي المطواع، صلبا كالحجرطالما تفخره شمس البصرة وتحيله تماثيل وحكايات سندباد.
 حين افتتحت الملكة نور معرض النحت في قبو زيوس، لم يتحرج اسماعيل بعرض تمثالين كبيرين لرجلين عاريين أحدهما يحمل ديكا (الرجل والديك :تحية لبيكاسو) كذلك وافق بعد جدل على إهداء تمثاله المختزل لوجه مربع شبيه بالوجوه السومرية وتمثال(عزة) في البتراء، إلى الملكة ..
كان حريصا على تلك الإختزالية في الوجوه، وتعميق تعبيريتها بأ قـل التفاصيل، حد أن تشكل مقاربةرمزية، لا تشي بالشخص، لكن تدون حالته كي لا ينسى، وبرغم صرامتها تغييب ملامحها، وبالرسم تصدح بالألوان الزاهية.
 منهجية أسلوبية مشبعة بالدوال. تماما كتخطيطاته بالحبرعلى الورق لنساء عاريات بوجوه مغيبة رسمها بسهرات سمرنا بمطعم( الغريب) ببغداد أمسية بعد أخرى ، مع تعليقاته الساخرة، وصراحة خطوطه!
في آخر معارضه (دبي2002) قدم خمسا وعشرين لوحة (بورتريه) وخمس عشرة تمثالا ، يشكل الوجه في جلها كيانيته وموضوعه الدال، مكررا داخل مستطيلات هي أطر شغوف بالإحتواء، وأيضا اصطفاء تلك العزلة.
 رصف حالات الوجه وجدا لتعبير مختزل يفيض بمغـزاه، في مشهد يقص ويحكي بلا ثرثرة تفاصيل، كأن الوجه في مرحلة يأس وعتم، مرآة لمرحلة الإنهيار الشامل والخديعة واللاحب والعسف والسقوط الأخلاقي والدعارة والمرارة وتلوث الحياة تحت سطوة النظام السابق، باستثناء تلك المرسومة التي أظهر فيها وجها صبيا مشرقا هو وجه زوجته الأخيرة التي رباها طفلة وسكن إليها حين نضجت، فأحبها بشغف، ورسمها تماما كما فعل ملهمه الأثيربيكا سو بحوريات قلبه!
 اشتعل اسماعيل بحب المرأة، يفيض بجنون الرقة وحنو العاشق، فتميزت لوحاته بألوانه الصادحة وتماثيلة بقاماتها السومرية وعريها، كأنها خرجت توا من جرف الماء، خجلى تقـِنع وجوهها أو تموهها، ولا غرابة بهذا المزيج بين صراحة الجسد وحياء الوجوه، فالفنان ابن مدينة مائية ساطعة الشمس و حارقة، لكنها مدينة ملونة ذات د ل وترف بطينها اللدن وأنهارها وضفافها وغابات نخيلها وبساتينها يستظل بها المحروق والحران، تدفع إلى الشعروالخيال المجنح والتأمل، بفعل ثراء غنائيتها وتنوع جمالياتها وغنى مدارسها ومعارفها، فتتوافق، تماما كتوافقها الأثـني وتسامحها البشري أعراقا وأطيافا ، مذاهب وديانات وفلسفات، مع مزيج تلك الطيبة الجارحة في غلوها حد الخجل. وهكذا استمدت شخوص اسماعيل ووجوه أعماله مضامينها من بيئته الأولى ، فتكونت لتدون نسيانها وتشيع ذلك السرور الهاديء الصعب، ببوح لا يهرج ، يقص حكمته دون حماسة !
 حين رحلت ليزا، ملهمة الفنان وزوجته وأم أولاده، تكسر الدمع في قلبه، راح يبكي من الداخل ، وحين وصل بمجده إلى مرقى ذلك النصب العا لمي الضخم(نصب الشهيد) بد ت قبته الفيروزية مشطورة كأنها روحه، تتحرك بدينامية المعذب، مرة تحنو، فتلتم على شطرها الآخرمثل امرأة تحمي فلذتها من غياب، كما حنوها على أولاده، أو عاشقة تتوحد بمحبوبها حد التماهي، كما هوحاله وحوريات قلبه، ذلك أنه جعل الروح ملهما لتلك الدينامية، كذلك النبع الذي لاتـنطفيء مياهه بنار الحروب:
الشهادة كضياء بمعناها الأوفر من المرحلية والتحقيب، إذ يذهب الزمان بالطغاة وتدون الأسماء ، و الروح تبقى حتفهم!
 هذا النصب صار تحديه، فاستعذب كسل مجده لآونة، ثم صحا من نشوته، فانغمر برسم أسى الوجوه على الورق وبالزيت أو الإكريلك وطبعها مرارا بالغرافيك، حد الإنهماك، ثم عاد إلى صحوة تماثيله، وجوها غيبتها القسوة ومرارة الفراق والعسف، تعبيرا عن وحدته الحزينة أيضا وغياب الوضوح الإنساني برغم العري!
 منذ معرضه التجريدي الأول1965، المتحف الوطني للفن الحديث بغداد، بعد عودته من روما كسر اسماعيل حاجز الواقعية التقليدية، حيث قدم معرضا تجريديا إشكاليا أثار الجدل..
ومذ ذاك وهو يدون النسيان، كي تبقى الوجوه، كأنها الحقيقة المخاتلة(معارضه في غاليري الواسطي، غاليري وان بيروت، غاليري غرافيك بغدادوغاليري لامتوربيروت،والكوفة لندن وغرين آرت،دبي) .
 تماثيله للشاعر معروف الرصافي وللشاعر عبد المحسن الكاظمي، للفارابي ويحيى الواسطي وأبي نؤاس. جدارياته :
 (جدارية الطب العربي القديم ، جدارية شركة إعادة التأمين،بغداد) وسواها . ووجوه حوريات قلبه.
المنسيون يذكرهم الفـن الباقي ويتذكر حقيقتهم، أو الطريق التي ترشد لتلك الحقيقة.
 هل تساءل اسماعيل قبل أن يرسم أو ينحت :
 من يقود الطريق ، من يرشد إلى الحقيقة، الحب الذي رحل، أم الحب الذي فشل، أم الحب الذي تخمر حزنا معتقا كالنبيذ فصاررمزا وصار معنى؟
 أم التاريخ في مخاتلاته؟!
اسماعيل هو تلك الحصيلة، هــو حصيلة نفــــسه!
ذلك الوديع البصري طفل السبعين عاما ، صاحب اللمة الكثة التي تزين جبينه، والبسمة الحائرة التي تميز حزنه الأبيض، الدماع ، مترف المشاعر، ثر العطاء..
 أي ترف ذاك الذي قاده حلمه السوريالي المبعثر لطين نهر الخندق والعشار وزهو الماء واخضر بصرته، قبل حرائق المياه والمدن عميقة المعرفة وموتها في الحروب والعتم، كي يجعله يتماسك في تجليات آدمية تنتصب بعد أجل رجالا ونساء وخدوشا محفورة جهة القلب، أو وجوها غيب الأذى والأسى ملامحها فـدونت نسيانها حضورا تقنيا مميزا ؟ مصمت ومتماسك في مختزلات، يضيء العتم ألوانا وخطوطا وكتلا بالمعنى والتجليات، شفراتها تقص وتحكي من دون ثرثرة، كأن رسومه وتخطيطاته ومنحوتاته حوريات قلب، قطـّرها كما شعر صوفي في أسمى اشراقاته..
 من أين جاءته تلك الصبوات الشفيفة التي تقود برفق قرابينه الكابوسية المبصرة في عتم الأيام والليالي نحو مباهجها السرية، تلك اللقطات التي تشبه سينما مقتصدة تتداخل فيها المشاهد لطبيعة بشروعلاقات وهموم قلب ورؤيا حداثية، أليفة وغامضة، طافحة بغرائبيتها السحرية، برغم اشاراتها الفولكلورية أو جذرها الميثولوجي، القامات المستدقة كأنها تخرج من صلب ترائب سومر، قسوة التعبيروقوته في الوجوه، لأشباه آلهة من جنوب تفخر طينه شمس لا تغيب حرارتها حتى في عزالليل، ديك(هراتي) متعجب يرنوبنظرة الذاهب إلى عراك خاسر، يحمله رجل غاب نصف وجهه في الأسى والأذى، وتعرى كأنه هو الآخر خسر معاركه وتشلح في المكان، سرق منه حتى كفن عورته، أو تقنع في احتفالية أذاه. أهو بيكاسو الذي يستحق التحية، أم رمز سلالات القهر من سومر حتى الأزل؟!
حمامة وقط، بين رجال تتنازعهم ذكورة محبوسة، وامرأة تحولت إلى زينة ضدها من المحبوبة الباذخة إلى الشيطانة المفارقة، وظلت مثل سراج تشتعل في ذاكرة الرسم وهواجس الرسام، وإن أدارت غرائزها عن متناول العاشق الجنوبي الطيب الذي يعطي بكرم حين يحب، ولا يعرف كيف يكره!
عويل مكبوت، كأن اسماعيل الدمّاع ، يكسِّر ماسات مقلتيه في قلبه قبل أن تتدحرج بأثر رجعي إزاء أي خيط حنين أو ذكرى مدينة أو حبيبة أو صديق ، يا لقلبه البريء!
 على الورق سكب أحبار قلبه ودموع مآقيه، ثم لونها كما تقتضي الحالة، ولم يزخرف أو يزوق مشاعره، من ثم على القماشة، أو في صخب أصابعه وهي تعابث الطين بوعي مبكروتحيل نتائجه إلى منحوتات برونزية صلبه تاليا ، لتقدم هشيمها الروحي وهشاشة مرجعيتها بصلادة مقاومة للزمن والزوال.
من أين له تلك الخاصية في جمع لين الأنثى بصلابة ذكورية تجلت في كائنات الرسم والنحت وكارزماها؟ هل استعار ذلك من عشتار السلف الميثولوجي
:(الأنوثة والقوة)؟
أم من الخلف الجميل :
(ليزا) حبه الأعمق وزوجته الأولى؟
الإثنان:
رخاوة طين تعالق بروحه الشفيفةمن نهر الخندق وتماثيل سومر بتعبيريتها الصارمة، حيث حدود مرجعية التعبيرية الرمزية الأولى الأخاذة تمتزج في اختزالياته وتجريداته، منذ معرضه الإشكالي الأول المُبهرغـَبَ عودته من روما(1965) إذ قدم التجريد في زمن سيادة سطوة الرواد وأساليبهم الواقعية، كأنه في صلب حالة (الرؤية الجديدة) ومن أعمدة خيمتها قبل أن تـُـشهروتشتهر، إذ تناغم ورفاق إبداعه ضياء العزاوي وناظم رمزي ومحمد مهر الدين ورافع الناصري وطارق ابراهيم وصالح الجميعي ومكي حسين ، لكن بتنوع مهاري وأسلوبي تميز كل عضو.
تلك مهاد تجريب واع وتجديد في الرؤية والتمثلات واستيعاب الخلاصات الغنية، ليس من السَبّاق المعلم جواد سليم، حسب، بل من رواد الحداثة الأوائل فناني سومروأكد وآشوروالعباسي الفذ يحيى الواسطي، هذا الذي حين نحته اسماعيل برع في إظهار تلك الرقة والأخاذية في الموتيف والزي ونبوغ الريادة في تعبير الوجه وحركة اليد والريشة، نعم تجلت في تعبيرالوجه والنظرة واليد التي تكتشف، كذلك فعل بتمثاله لإبي نؤاس، الشاعر المجدد، حركة يده والكأس تلخصان صبوات اللذة وسمو الصوفية بموحى دلالي رهيف أظهره في الوجه أيضا ، كماصلـّبَ وقفة الكاظمي من دون عصاه، وتجليات زهوالرصافي أيام عزه الشعري والنضالي يناهض المحتل والمستشار الذي شرب الطلى، لا الرصافي المهمش الذي باع السكائرعلى الرصيف تكاد كوفيته وظلال هدبه تغطيان الفاقة ، ومات فقيرا إلا ّ من ذكراه وعبقريته! اسماعيل أسس لنفسه ولتلامذته وللأجيال التالية، وقف عند هضبة منتجه، لم يقتلع نفسه من جذور أرضه السومرية الحضارية وناس الحاضر، عمق علاقة تلك الكائنات التي تبدو حلمية رامزة مختزلة برغم شدة واقعيتها وتعبيريتها وسحنتها الوطنية، وصلت به إلى سمك كتلوية الفارابي، كأن الفلسفة يقين لا يتزحزحز كثقل الحجر، وإلى رمزية علاماتية لا تخبيء وضوحها الدلالي في منحوتته التي زينت قصر المؤتمرات أو بوابة مركز الفنون: يدان تمثلان عطاء النهرين الخالدين دجلة والفرات، أو جدارياته عن الطب العربي والتأمين. أولئك الأشخاص البرونزيين المعلقين في مصير قدري بأجسادهم الضامرة التي تنشد العون، أو تلك الوجوه ذات الأنوف الطويلة والملامح التجريدية كمربعه الشهير الذي يوازي في أهميته تمثال الآلهة(عزة) من حجرالبتراء..
 كائنات لا ترتدي أقنعة، لكن أساها مثابة قناع أزلي. رؤية تكتظ فيها الغرائبية السحرية لعالم واقعي مغلف بفنتازيا اللامعقول. كأنه يشتغل على لاواقعية الواقع، أولامعقوله في آن.
 حتى نصب الشهيد تحديه العالمي الأكبر، الروح تهرب من قاع القبرالتقليدي لتشطر الضريح المعهود بقبته الفيروزية، الراسخ في العمارة التراثية الدينية.
هنا جدوى حداثة وأفق رحيب للمخيلة، نصفان لكيان واحد، تلتمان بحنو مثل أم وفلذتها، أو عاشق يتماهى بحبيبة نأت في الفراق أو البعاد أو الموت أو القطيعة، يدنو كل شطرليعيد لم شمل مستحيل، فالفاصل سيظل برغم الرغبة في التوحد. واقعيا هناك نقيض الأمنية يتجلى باستحالة عودة الروح إلى الجسد بعد الموت !
وتماما كتلك الحبيبة التي غابت، أو تفارقت عنوة.
 حميمية متمناة هي المستحيل الواقعي ذاته، تحداه اسماعيل بالفكرة وبالمنجز الديناميكي الجمالي الباهر.
 هنا رحل البشرالفنانون، لكنهم دونوا نسيانهم بالأثر، (أحياءعندربهم يرزقون)، فالشهادة- كمعنى- ضياء ونبع وروح تحلق خارج الحبس والعتمة والدفن. ووجوه حوريات القلب الحبيبات، وآلام الرجال السامقين المعتقة، من أهوار سومر حتى عذابات العسف والقمع والإحتلال. وهكذا ، هكذا تماما ..
خارج التحـقيب والتمرحل، أنتج اسماعيل أعماله لتبقى شائكة، لكن ليست عسيرة الفهم ، دوالها موحية وتمتد في الآجال، ضد زوال آني أوتغييب قسري أوإزاحة، فنه هو أمير رؤاه ظل بعد معركته مع المرض متوجا حيا بين الموتى، كمعنى حياته ، ذاتيته أعطت لعمره المعنى، فالإبداع حياة ثانية، والوجوه التي دونت نسيانها إيقونات ذاكرة وتذكر، إنها أحسن من راحتي اليأس والموت، إنها بقاء تقني ووجودي مرهف لم يتوقف عن تدريب خياله وتحديات هواجسه ومخاوفه من الموت، كأنه يساجل ذلك (الصديق) العتيد المفارق للبشر جميعا !
 يذهب الطغاة إلى النسيان، وفي عز قسوتهم ، تقف الروح حتفهم والإبداع ومجد الفادين وحقيقتهم.
 ذلك هو طريق الخالدين! فمن يقود الطريق إلى اسماعيل ،إلى نفسه ؟
من يرشد ه إلى حقيقته؟
 الفنان ذاته هو سؤال طريقه، حقيقته في عاطفته، وذاتيته هي عمره، حبه للمرأة والأصدقاء، دمعه مثل ألوانه، سخين وصريح ، يمتاح من خابية حزنه المعتق مثل نبيذ داخل روحه، كذلك نجواه وشغفه بمدن الماء من بصرته وعراق مجده حتى الخليج.
 اشتعل بالتذكر، لم يطلق الحماسة، رسم السرور الصعب، رحل ولم يمت!
والوجوه في أعمال اسماعيل فـتاح ،حضورا أو نسيانا ، تعود في الرسم، كما في الكلمة، لتدون نسيانها!
هل تنسى الوجوه،الملامح والحالات؟
 ربما..
 لكن في التذكر هي تجربة عتيقة، تماما كقراءة الوطن بمناخ شعري من ضفة النهر الثانية، بحاجة إلى جهد مؤثث نادر،لإعادة تدوين الخصال، فالوطن عبر قراءة المنفي أو المُبعـد، أو المهجر، أو النَََـَسيان، يقع في النواح مثل حنين القروي، أو الهَجّاء، ومثل غضب المطرود من العشيرة والجنة، ولكن حين يـُقرأ الوجه بكفاية وتمكين، يعبرالشرك وألغام الحنين والبكاء والهجاء، يعبر أيضا ، ذلك الحقل المديد من الألم، أو الفرح النائي، وإنْ بأقدام عارية دامية أو مدماة!
 الوجوه ، مثل المخيلة ، وتصبح كذلك في الذاكرة، لا تهرب في غابات سوريالية أو تغيب، أكيد لها جذر ومنبت، ولها إنتماء، حتى لو تحددت بالمخيلة، في مطلق رحابتها. تبدو الوجوه أليفة، مشتقة من خصالها نفسها، حين تفحصها عيون مثقفة، أو مدربة على سبر غور الثقافي والتجوال في أطيافه وأخاديده وتضاريس جوهره.
أحيانا تتبدى الوجوه من جذر تاريخي أو درامي أو حكائي، كأنها تمثل تعبيرا صامتا لطقس ضاج..أو:
 شوقا لا تقفز الوجوه، حالما تعيد تدوين نسيانها، في عتم التجريب، ولا في متاهات أفضية وهمية، وإنْ اختزنت كثير التعابير عـن وهم إسمها وتجربة معناها ! كونية ربما أو لصيقة بالأوطان!..
كوزموبوليتانية، لكنها في مطلق الأحوال لها بويضة خرجت من رحم دافيء حين شقت دربها عبرعتمته وخوابيه، إلى نور الرسم أو ضياء المخيال والإستعادة.
الوجوه هنا ليست شبها لأحد لكنها تشبه نفسها ، تشبه أحادويتها تماما ، مثل الوجوه السومرية في "عوائل" المنحوتات الميثولوجية الما قبل تاريخية !
تتحول الوجوه، في مخيلة الرسم على الورق أو الكانفاس أو الطباعة إلى عائلـة الذاكرة..
ملونة، قد تكون ، أو بلون واحد ومشتقاته أو ظلال درجاته.
 تصير بحسب الأرض والنسغ في مختبر النسيان والتذكر مع زهد الألوان والخطوط والكتل أو بذخها، نسقا ، نظاما ، أسلوبية..
 إنها مثل " كتابة بالإيقاع " لاتعني "كتابة الإيقاع" بل تؤكد المضمون الخاص بها.
 الوجوه طلاسم، أسباب وأسئلة، وإعلانات، خوابي لآلام معتقة مثل النبيذ، ولأفراح كانت تزغرد كالأعراس، وتجارب حياة أوبراءة ورعونة وعفوية رعوية، أبواب وعتبات، سفورأوحجاب، وهي رسائل:
إشارات وعلامات تعبر من وإلى دائما ، وتخضع لهذا النظر، غنائية إن لم تـُرَ أو تـُشم وتلمس، أوتستعاد في الحلم وأحلام اليقظة والتمني..
 زينتها في بهاء وهجها، وحين تعتم تنذر أو تثير الحيرة. الرسام ،إذا ، حين يمسك بلحظة الوجوه، يمسك بغيابها ليدونه حضورا ، فالوجوه حين ترسم أو تنحت نسيانها، فتعـِّبر في الإستعادة والتدوين،المجازوالإستعارة، عن كنايتها وكيانيتها، فيما تخـّفى أو ظهر للعيان. إنها الباطن المستور والظاهر العلن، في آنها.
 كل وجه له رؤيات، مثل الفن ومثل الحقيقة ترى بحسب الناظرومدركاته وثقافة بصره وبصيرته لذا تتغيرفي الوهلة الأولى والتو بحسب المزاج والمزاح والجد والتمعن والمكابدة والتأمل و الغضب وسلام النفس. كتاب أو كتابة، مرات تعبير الوجه يكون رمزا أو ترميزا ، غامضا لدرجة التوهان في ضبابه، كأنه ينظر إليك خلل زجاج معرق أو مظلل، يراك ولا تراه، برغم إنك تنظر إليه أيضا ، ربما تحدسه أكثر مما تلمسه .
ومرات ، التعبير يكون فصيحا وبليغا مثل الرغيف الساخن..
من يقرأ فصاحتها حين تصدح ولاتلثغ أو تتلعثم!
 الوجوه بيان له سحره في بلاغته!
 الوجوه:
 مرسومة في دفـتـر ذكرى، كما مدونات طلال معلا المرسومة، أو حـالات الأدباء المكتوبة في نصوص مفتوحة، أوحكايات تستعيد حضورها وترتاح من سفرها المبهم في استعادة تدوين نسيانها ، مبصرة وتفيض ، غامضة وتغيب، أو خجلى تبوح بهمس!
 تدوينات لجمالها كحالات مؤنسنة خرجت من صلب الذاكرة القرائية والوجدانية وترائبها، لها شبيه ومرجعية وقد لا تشبه أحدا ومرجعيتها الوحيدة مخزون الذاكرة البصرية منذ الولادة حتى لحظة التدوين(البصري أو الكتابي) تماما كما وجوه سومر، الأقنعة الأفريقية أو تماثيل الإغريق والرومان، أو مثل الوجه المربع لتمثال(عزة) الإله في المدينة الوردية النبطية (البتراء) الذي أعاد النحات المعاصر اسماعيل فتاح صياغة تدوينه في منحوتة هي وجه وحده مكتفيا بذات فنه مع تحوير مهم ،هناك :العيون مربعات، كذلك الفم، باختزال مكثف ورؤى استثناء وفرادة، وهنا :
الأنف مستدق وطويل يشبه الأنوف السومرية!
 إذا لكل وجه مرسوم أو منحوت علامة انتماء لجذر الفنان، ثقافته وموروثه، أو لجذر نفسه في آن خلقه كإبداع .. وجوه اسماعيل..
 كتابة تستوحي ولا تشرح صدر الصورة، كما يضع رسام تحت صورة التفاحة كلمة"تفاحة"!
 بل لأن تكون نصوص ذاتها مكتفية بكينونتها وشعريتها خارج فنية الوجوه وداخل نسيجها القرائي ،كنص بصري في آن، شيطانا كانت أو ملاكا ، زوجة أو عشيقة محبوبة، حورية قـلب، أو بغيا ميثولوجية(شمخت)، أو صاحبة متعة عابرة!
 وجوه الرسم أو النحت كناية للحالة وليس للشخص، إبداعا في الحصيلة حتى لو نسينا الإسم والمسمى، يكون الوجه مسمى فنه في لحظة المشاهدة، التي بقدر ما تبدو حيادية فهي منحازة إلى الفن، تماما كما لو إننا شاهدنا تمثالا صنعه نحات تقدمة دينية ضمن طقوس عبادة عشتار، إذ يخرج من مفهومه(الديني)الطقسي إلى محض فن له قوة حضور، وعبور أزمنة وحقب، ومازال محتفظا بقدرته على خلق المتعة لدى المتلقي، مثل متعة القراءة التي يفيض بها نص أسطوري كملحمة كلكامش أو قصيدة "رثاء أور" التي كتبتها أول شاعرة أكدية في ذاكرة التدوين على الطين 2350 ق.م.هي الأميرة " إنخدوانا" إبنة " سرجون الأكدي" ..
فالنص البصري يستظهر تجليات جوهره أبدا في آنوية قراءته كمثل الشعر، ولوجوه تنوعت على مدى تاريخ الفن ومراحله، من تلك التي كرست للآلهة والملوك والنبلاء وأسرهم وعشيقاتهم إلى الحور العين والملائكة والشياطين والثائرات:
(الحرية تقود الشعب ،ديلاكروا) و(المحكومون بالإعدام،غويا)وحتى وجوه جحيم دانتي والمعري، أو إمراة مجزرة الجزائرلمحمود صبري ، أوامرأة الغرنيكا لبيكاسو، حتى وجه الشهيد محمد الدرة وآية الأخرس في انتفاضة الحجارة بفلسطين المحتلة والأقصى، وأطفال العراق!
 ومن(فتاة نمرود)بوجهها العاجي وابتسامتها العذبة مجهولة اسم مبدعها و(جيوكندة دافنشي)المونا ليزا زوجة ذلك المحامي الصديق للرسام والتي كما يقال اخذت ست سنوات من جهد ليوناردو حتى استوت بتلك الإبتسامة كأنها ضوء، و(نساء رفائيل) و(مفكر،رودان)..
ومن بيكاسو(المعلم) الذي اشتق وجوه لوحاته من حبيباته وزوجاته(نساء أفينيون)، غيـَر و حـَور، فجعل للتكعيبية والتشويه معنى، وللأقنعةالأفريقية وحضارة المايا وسومر وأكد وبابل وآشور والخط العربي، مهادا للتجريب والخلق والفرادة، فصارت وجوه مرسوماته ومنحوتاته، لا وجوه معاصراته ومعاصريه، أو الآخرين والأخريات من عمق الحضارة برغم ملامحها الموحية وجذرها في المرجعية والإنتماء كأصل أعيد تدوين نسيانه ليصونه من النسيان ذاته، فصار في ذاكرة الرسام ومنجزه مثل تذكار..
إذا ..
 المخيلة تروح إلى أبعد من الملامح (البيولوجية) أو(الأثـنية) فتخرج من خزين الذكريات والثقافات البصرية والقراءة والشوق في ما تعيده في الوجوه، في المرسومة أو المنحوتة..
مرات يهجو الرسام حبيبة خذلته أو خذلها فيعيد رسم وجهها على وفق مزاجه وموقفه الجديد منها، فتتحول المعشوقة لشيطانة ويتحول هو إلى ديك ، ربما رمزا لفحولة متمناة!
كل رسام ،ثم كل نحات..اشتغل على الوجه، فالوجه مرأى ومرآة، إنه النظر الأول لمكابدة التأمل في الجمال والقبح أو الغرابة !
وأول حكايات المبهم تأتي من النظر والملامسة، والحواس الأخرى بدرجات متفاوتة، لتبين صورة الوجه وتخزنه في الذاكرة البصرية، بدءا من نظرة الوليد الأولى لوجه أمه ثم الملامسة الأولى لملامح وجهها، وانتهاء برائحتها، كذلك يفعل العاشق والمتيم ، يتفقـد ويتلمس الوجه كي لا ينساه!
اسماعيل فتاح الترك في لوحاته التسعينية، ربما بسبب رحيل زوجته الفنانة الألمانية الأصل ليزا الترك، راح يكررالوجوه كي يعيد تدوين الغائب، فرسم الوجه المكتفي بذاته، كذلك عديد تماثيله الرجولية في غالبها..
 كذلك فعل سعيد حدادين ، بعد عودته من دراسة الرسم بموسكو ليختص بالوجوه حتى لو أصابها التشويه والتكبير والتجريب فهي تقول ولاتصمت!
 وطلال معلا استعان باليوميات الرسمية ليدون حالات الوجوه،مقاربة لزيتياته، أو لحالاته الطباعية ، أو بالإكريليك، في دفاتر زهد ، أوبمعرض كبير تحت عنوان (الصمت)، ولتأتي فنانة لتقدم الوجوه بعنوان "يحكى أن" ثم "عبير الصمت"، الآن صار للوجه عبير صمته بحسب ريشة وفاء خازندار!
 استذكر " وجوه ..سلاما عراق" سيناريو الشريط الوثائقي الذي لم ينفذه أي مخرج، عن تاريخ معاناة إنسان بلدي، وتقلبات أحواله، لم أدون أي تعليق مساند،لاصوتا ولا كتابه، اكتفـيت فقط بموسيقى الوجوه، في اللوحة والصورة الضوئية والمنحوتة(البورتريه).. نعم في أحيازالبورترية وحده، لتشكل حضورها ومعناها في فضاء العمل الفني وتتكلم، كأنها كتابة!
وجوه اسماعيل ..
هنا، مكتفية بذاتها نصا بصريا رديف الشعروالقصة!
- وإذا كان من أشهر أعماله(نصب الشهيد) وله جداريات عدة، ميزته نحاتا كما سنأتي على تفصيله في كتابنا الثالث(فضاءات)عن الحيز والكتلة والفراغ، فهو هنا رسام مثابر غزير الإنتاج.
 وهوالعنصر البارزفي جماعة (الرؤية الجديدة) منذ تأسيسها شارك في معارضها كافة، ومعرض (الزاوية)عام 1967مع استاذه فائق حسن، ركز في جل لوحاته على ثنائية الرجل والمرأة، وأكد على الوجه مكبرا وبضربات لونية خشنة، تعبيريته تستاف من أصول سومرية:
 الوجوه المديدة، الحدة والإختزال، كأن هذه الوجوه تدوِّن نسيانها.
 تمكن من أدواته التعبيرية، فأنتج مجموعة ضخمة من التخطيطات على الورق والغرافيك، وأدخل الديك في رسومه، لوحته هنا(رجل وديك)حبرعلى قماش من نتاج2000بقياس 220×160 سم تمتلك جرأتها في موضوعها وحجمها وزهد ألوانها، أما لوحته الثانية في الجناح العراقي بمتحف قطر للفن الحديث فهي (رجل وامرأة) اكريليك على ورق 160×120 سم 1988فتتميز كما الوجوه في لوحاته، بتغييب ملامحها والتفاصيل والتجاور اللوني الكثيف والضربات الحادة في الفرشاة.
 - نال عن نـصب الشهيد(1983بغداد) ومجمل نتاجه الإبداعي جائزة الدولة للفنون الجميلة عام 1989ومن لوحاته أيضا :
(رجل وامرأة،غواش على ورق 157×118سم 1988عرضت مع أشكال متنوعة100×69سم أكريليك على ورق ،غاليري الكوفة- لندن 1988 ...........
 فصل من كتاب عن اسماعيل فتاح الترك، قامت السيدة نهاد فتاح الترك شقيقة الفنان، وزوجها صديقنا د.سلمان البصري،بجمع وثائقه، لينشر لدى مطبعة الأديب البغدادية-عمان،ضمن منشورات 2015