قيس الزبيدي مسافراً في لوحة جبر علوان بين روما ودمشق وبغداد... بحثاً عن وطن

المقاله تحت باب  أخبار و متابعات
في 
21/04/2009 06:00 AM
GMT



من «جبر ألوان»أزمنة وأمكنة تتقاطع في شريط عن المنفى العراقي عموماً، كما يتجلّى في تجربة الفنّان الذي يتداوى بالألوان

ألوانٌ من بطولة كائنات جبر علوان، ودراما لونية تتصارع فيها المنافي والمصائر، وإبداع يمسي تمازجاً بين التشكيل والسينما. إنّه جديد المخرج العراقي قيس الزبيدي «جبر ألوان» الذي حاز جائزة أفضل شريط وثائقي في الدورة الثانية من «مهرجان الخليج السينمائي» الأخير. «جبر ألوان» على وزن جبر علوان. إذ يتعقّب الشريط مسيرة هذا التشكيلي العراقي بدايةً من مرسمه في روما، مروراً بالذاكرة والحنين وحضورهما في لوحاته، وصولاً إلى صور قديمة له في العراق، وأخرى ملتقطة بالأبيض والأسود لبغداد. هذه المدينة لا يوظّفها الزبيدي لخدمة الحنين فقط، بل يتّبع حضورها في اللوحة، مقتفياً أثر مفردات تشكيلية يستعيد علوان تلك الحياة من خلالها.
ولعل هذه الآلية تمتد كي تكون معبر الفيلم إلى لوحات علوان، نتعرّف فيها إلى حياة هذا الفنّان وأعماله، علماً بأنّ الكلام الذي يأتي على لسانه يبقى في نطاق ما قلّ ودل. كأن يقول إنّه قد يرسم لوحة مشابهة للتي رسمها في اليوم السابق، لكنّها جديدة، أو حديثه عن الفضاء في لوحاته، أو مادة الإكريليك التي يرسم بها، وعلاقته بدمشق التي تعيده إلى الشرق وتجعله قريباً من العراق. يتحدّث عن قوة الضوء ومسقطه، واختلاف اللون الأحمر في دمشق عنه في أوروبا. وفي لقطة جميلة عند المغيب في دمشق، يقول علوان «الأذان، السيارات، وغيرها من أصوات، خايفة من الضو إنو يروح». أمام هذا التقشف الكلامي، يُترك للصورة أن تقول كل شيء. تتحرّك الكاميرا بين ثلاث مدن جامعةً بين عوالم التشكيلي العراقي: روما التي يعيش فيها، والذاكرة المسكونة بالعراق الذي غادره منذ 30 سنة، ودمشق التي يحتفي بها الزبيدي بمشهدية خاصة كأنّه لا يفارق أحياءها القديمة.

عندما يقترب الزبيدي من المعاناة العراقية التي هي معاناته أيضاً، يستعين بمنفيّ عراقي آخر هو جواد الأسدي، ومسرحيته «حمام بغدادي» التي يوظفها لتكثيف تلك المعاناة على اعتبار أنّها أولاً وأخيراً ذات منشأ قمعي واستبدادي. هنا يتقاطع المشهد المأخوذ من «حمام بغدادي»، مع الأيادي المقيّدة، والشخصيّات المعذبة التي تسكن لوحات علوان، وصولاً إلى قيلولة الفنّان في بيته الدمشقي. كأننا بتلك اللوحات تتماهى مع أحلامه وكوابيسه وفرحه. ولعلّ المعادلة الإبداعيّة حسب علوان، هي: الحزن بجرعات كبيرة... منجماً لاستخراج الفرح.

يصلح فيلم الزبيدي أن يكون أيضاً مقاربة لعوالم المنفيين العراقيين، وتحديداً المقاربة الأولى لهذه العوالم. بعدما كرّس مجمل أفلامه الوثائقية للقضية الفلسطينية، ومضت تجربته الروائية في منحى تجريبي عبر «اليازرلي»، ها هو الزبيدي المنفيّ العراقي الذي يعيش متنقلاً بين برلين ودمشق، يقارب حياة منفيّ آخر هو علوان الذي يعيش بين روما ودمشق. ويكتمل الثالوث مع جواد الأسدي الذي أناط به الزبيدي مهمة إيضاح الوجه الخفيّ للحياة في المنفى عبر توظيف إبداعه المسرحيّ مباشرةً في الشريط... ويظهر الشاعر العراقي سعدي يوسف في الفيلم، خلال زيارته معرض علوان في دمشق.

وإذا كان هذا الفيلم هو أولى مقاربات الزبيدي للعراق، فالتشكيل ملازم لأعماله منذ سنوات طويلة. يكفي ذكر «الكابوس»، و«زائد ألوان»، و«شهادة الأطفال الفلسطينيين»، و«الزيارة»... لاستعادة العلاقة الحميمة التي يقيمها الزبيدي مع اللوحة عموماً. ومن الطبيعي والحالة هذه أن يجد نفسه في فضائه الأثير وهو يبحر سينمائياً في عالم علوان: بنسائه وراقصاته وآلاته الموسيقية، وغيرها من العناصر التي تقوم عليها عوالمه التشكيليّة. ولا نكاد نلتقط أنفاسنا إلا عندما يشعل جبر سيجاره: إنّها لازمة الفيلم المتكررة لكون الفنّان لا يتوقف عن التدخين.

سيجار، لقطة ثابتة، وتعود الألوان إلى تدفّقها. سيجار، لقطة ثابتة، ونمضي إلى منفى آخر وتواريخ وأمكنة... أزمنة وأمكنة تتقاطع وتتكثّف أمام كاميرا الزبيدي التي تقول وتوثّق وتحتفي