فنانو المنفى في ضيافة كامل شياع

المقاله تحت باب  أخبار و متابعات
في 
22/07/2009 06:00 AM
GMT



 نصير عواد
عن دار"tipografia poncioni "في سويسرا صدر كتاب فني أشبه بالكتالوج، بعنوان (Kamel Artisti for) فنانون لكـامـل. الكتاب الذي صدر بخمسٍ وخمسين صفحة من الحجم المتوسط هو ثمرة جهود فردية لمجموعة من الفنانين التشكيليين العراقيين الذي هاجروا إلى ايطاليا في نهاية السبعينيات من القرن الماضي أرادوا فيه الاحتفاء والاحتجاج على طريقتهم بذكرى مرور عام على اغتيال صديقهم الشهيد "كامل شياع" وسط صمت مريب بين الأوساط السياسية والثقافية العراقية على جريمة هزت الضمير العراقي في الداخل والخارج. لم يأتِ في بال الفنانين الذي شردتهم المنافي والساحات والأهواء والحاجات أنهم سيلتقون مرة أخرى ويتداولون فكرة أحياء ذكرى صديقهم "كامل شياع" والاتفاق على إصدار كتاب يضم أعمالهم رغم بعد المسافات.

وحتى نحن أصدقاء "كامل شياع" في لحظتي حزن ويأس سبّبَهما لنا رحيله الصادم ظننا أنه لا يمكن للكلام والشعر والنثر أن يفوا حق الراحل وبالتالي لم نجد غير الصمت دارا، ولم نتوقع أن تكون للألوان والخطوط والأحجار هذه القدرة على استحضار الذكريات والحكايات والمعاناة، سبعة عشر فناناً وفنانة عرضوا لوحاتهم ومنحوتاتهم على ورق صقيل وبغلاف خارجي أحمر غامق تتوسطه مفردة" Kamel" ثم بخطوط أصغر حجما تتسلسل باللون الأبيض أسماء الفنانين على خلفية من رسالة مؤلمة كتبها الشهيد لأبنه. الفنانون هم كل من عفيفة لعيبي، يوسف غاطي، سليم عبد الله، فاضل البدري، حسام البسام، فوزي الدليمي، رسمي الخفاجي، سعد علي، جبر علوان، علي عساف، بهاء الدين، كاظم دخيل، فؤاد علي، سامي غافل، بشير مهدي، آزاد نانكلي، أحمد شريف.
لقد ظهر الكتاب في زمنٍ جرى فيه، قصدا، إهمال المثقف العراقي مثلما جرى فيه إهمال المفردات اليومية لحياة العراقيين كالخدمات والعمل والإبداع والبحث العلمي، الأمر الذي يفرض سؤالا ملحا عن مغزى كل ذلك وعن سبب غياب الدولة ومؤسساتها الرسمية عن تذكّر "كامل شياع" والبحث عن قاتله ومحاسبة الجهة التي تسببت بمقتله. لقد كان مقتل "كامل" بهذا الأسلوب الدموي والوحشي رسالة معتمة لكل العراقيين وخصوصا المثقفين والفنانين والعلماء المنتشرين بالمنفى والذين يفكرون بالعودة إلى الوطن والمساهمة في بنائه، وقد جاء في كلمة منظمة الحزب الشيوعي العراقي بإيطاليا صاحبة المبادرة في إصدار الكتاب(أراد قتلة كامل شياع إسكات صوت المثقف في الوطن وأرادوا إعاقة التواصل بين الثقافة العراقية في الخارج والداخل، أرادوا غلق الحدود بوجه مئات المثقفين التقدميين في الخارج).
رحيل "كامل" بهذه الطريقة المؤلمة زاد من الأسئلة والشكوك حول جدية البديل الذي انتظرناه طويلا وضحينا من أجله بالكثير، وكذلك بنزاهة القائمين على قيادة السفينة التي من المفترض أن تُبْحِر بنا إلى الجهة الأخرى من عالم الأمل والعمل والبناء والإبداع، فمؤسسات الدولة الرسمية في عراق اليوم تحولت إلى مراكز قوى متصارعة، وكل موقع صار أشبه بغنيمة محمية بحراب المليشيا والشعارات الطائفية والتباهي بخدمة المحتل، وليس في كل هذه الخلطة المقززة مكان للنزاهة والوطنية والحب الذي كان الشهيد "كامل شياع" متسلحا بها، ففي رسالته الممتعة لأبنه يصف ببساطة عميقة حبه لبغداد وللناس وللماضي الجميل فيقول:"إلا أن بغداد التي ألزمت نفسي بأن أكتب لك عنها هي عالم آخر، إنها المكان الذي استرحت فيه من عناء السفر الطويل والغربة الشاقة، إنها سنوات الطفولة والشباب التي رحت أقرأ بقاياها في الوجوه والأماكن والعادات، إنها كيمياء من أواصر مصيرية لا أملك مفاتيح حلها".
الكتاب الذي بين يدينا يمثل أسلوبا جديدا وجميلا في الاحتفاء والحزن، ويشكّل وثيقة احتجاج راقية ضد العنف والقتل المجاني الذي يحدث ببلدنا، خصوصا وأن الأسماء المشاركة بالكتاب ليست طارئة على الثقافة العراقية بل أنها شكّلت علامة بارزة في تاريخ الحركة التشكيلية العراقية وحققت حضورا لافتا في المناسبات الوطنية والثقافية. فنانو المنفى ما زالوا محتفظين بتلك العلاقة القديمة والحميمة التي شيدتها المعاناة وقلق البحث عن لقمة العيش في المنافي الباردة، فأحدهم ما زال يحتفظ برسائل "كامـل" والصور الفوتغرافية التي جمعتهم سوية، والآخر لم يستطع حتى بعد عام من الجريمة إلغاء رقم تلفون الشهيد من دفتره، وثالث ما زال يردد كلماته ويحتفظ بمسوداته القديمة وملاحظاته الثقافية، وقد يكون ظهور الكتاب بهذه الحلة دليلاً آخر على عمق العلاقة القديمة التي جمعتهم، لقد دفع الفنانون من جيوبهم أثمان الطباعة المكلفة، إضافة إلى لوحاتهم ومتابعاتهم المستمرة لشكل الكتاب ومراحل صدوره، كل فنان شارك بلوحتين، بعضها نفذ خصيصا للمناسبة وبعضها سبق ذلك ولكنها ليست بعيدة عن صُوّر المعاناة الإنسانية للعراقيين، يستهل الكتاب حكايته التشكيلية بأعمال الفنانة "عفيفة لعيبي" الواضحة الخطوط والقوية التعبير والساطعة الألوان لنساء وحيدات ومحتدمات على الرغم من الهدوء والانسجام الخارجي، حيث تأخذنا حركة اليدين إلى التأمل بعمق والبحث من جديد عن الانسجام بين مفردات اللوحة وموضوعها.
أعمال الفنان"بشير مهدي" تحيي فينا ذلك الاهتمام الذي كان يلازمنا فيما حولنا من صمت بعيدا عن الزخرفة والاحتفالية، صمت يشيع روحه فيما حوله وفينا ليتحول إلى أكثر جوانب اللوحة غموضا وحضورا. ونجد لوحتين للفنان"علي عساف" يصبان في موضوع واحد هو فهم الآخر وتقبله بعيدا عن الطائفية المقيتة، الاستعارة بدت واضحة عن أشكال الصراع العراقي الذي تسبب بقتل الكثير من الأبرياء حيث نشاهد في اللوحة انفجار القنابل والرصاص في خلفية شابين يحملان شعارات التسامح والمحبة، حتى أعمال الفنان"سعد علي" الطافحة بالألوان والبهجة والعشق يخفي أبطالها تاريخا من المعاناة والمحرّمات والممنوعات التي تسببت في استلاب الإنسان. لوحة الفنان "رسمي الخفاجي" القليلة الألوان والعميقة الإيحاء والأسئلة تتشابك فيها الحروف والأذرع والهامات في حركة متجهة صوب الضوء، معلنة الأمل والاستمرار. لوحات الفنان "جبر علوان" الباذخة الألوان والمحتفية بالجسد والمكان تأخذنا إلى منطقة وسطى بين الذاكرة والمخيلة تضج بالأسرة الفارغة والنساء الوحيدات، فالأحمر حين يغيب عن لوحة جبر يغيّب معه الكثير من الأسرار ومفردات الغواية.
في الكتاب أعمال نحتية للفنانين سليم عبد الله وسامي غافل وفؤاد علي الذي عرض أعمالاً لوجوه مزخرفة وأجساد تحمل معاناة ورغبات في إطلاق طيور المحبة نتلمسها في أسلوب الحفر لإبراز الملامح وفي تلوين الوجوه والحروف التي تعيدنا إلى التاريخ البعيد.
من عرف "كامل شياع" عن قرب لا يمكن أن يقول في ذكرى رحيله أي شيء يتبادر إلى الذهن، الأمر الذي يجعلني أحسد أصدقاءه الذين قالوا كلمتهم أو بكوا واستراحوا. ولذلك فأن غياب النثر في الكتاب(باستثناء المقدمة ورسالة الشهيد إلى أبنه) والذي قد يعتبره بعضهم نقصا، وجدناه أبلغ تعبير عن الحزن والوفاء لذكرى شهيد الثقافة العراقية، خصوصا وأن الرسم هو أداة وموهبة ومهنة الذين ساهموا في الكتاب، وينبغي الإشارة هنا إلى أن النصوص القليلة في الكتاب ترجمها من العربية للإيطالية "عرفان رشيد" ومن العربية للإنكَليزية "فيصل عبد الله" أخ الشهيد.
الفنانون العراقيون الذين وصلوا إلى إيطاليا في سبعينيات القرن الماضي سرعان ما شتتتهم الساحات والمحطات ومفردات البحث عن الذات مبقين على خيوط الاتصال والرسائل القصيرة، وأن صدور الكتاب بهذه الأناقة يعتبر مبادرة مثمرة لجمعهم مرة أخرى ولكن على الورق، في ضيافة "كامل شياع" يروون فيه حكاياتهم وألوانهم ومواقفهم ونزواتهم، الكتاب الذي جمعهم أبرز مرة أخرى صوت احتجاجهم ضد ما يجري لوطن، وأشار إلى أن أحزانهم لم تهدأ بعد وإن ذاكراتهم ما زالت تحتفظ بطراوة التفاصيل المؤلمة لرحيل الشهيد، وأن الأبدية التي حلّت على يد ملتح أمي لا يعرف ماذا يجري خلف أسوار المسجد لن توقف مشروع التنوير الثقافي الذي ضحى من أجله الشهيد "كامل شياع".
يبدو أن أعداء الثقافة التنويرية زينوا مقتل "كامل شياع" بالقداسة وفتحوا، على هواهم، أبواب الجنة لقاتله الغبي ونحن هنا لا نريد معرفة القاتل خوفا من ضياع المعنى والرمز ونترك ذلك للحكّام والمحامين فمن الواضح أن القاتل لا يقرأ ما نكتب ولا يشاهد ما نرسم ولكننا نريد مقاضاة الجهة التي عملت على إسكات "كامل" وإيقاف مشروعه الثقافي.
ففي حسبة بسيطة بين"كامل" وبين الجهة التي وقفت خلف مقتله سيتبين لنا مَنْ هو الأكثر حرصا على الوطن، مَنْ هو الأقرب إلى الله. ففي نور رأسي أرى أن الله يميل إلى الإنسان وإلى قيم الثقافة والجمال والعمل والإبداع، أنه يحب الألوان كذلك، والمتصفح لكتاب (Kamel) سيجده هناك في متعة الألوان وألفة الأحجار وعمق الأفكار التي تضمنتها الأعمال الفنية.