المقاله تحت باب في الموسيقى والغناء في
30/09/2009 06:00 AM GMT
آلة العود واحدة من أقدم الآلات الموسيقية العراقية التي عرفتها البشرية خلال تاريخها الطويل, غير أن الغموض يكتنف تاريخها ومنشأها ومن ساهم في تطويرها ومن هم أهم روادها قديما وحديثا. وبمناسبة زيارة عازف العود العراقي أحمد مختار الى هولندا والذي يعد باحثا ومختصا في هذه الآلة. فقد قررنا أن نجري معه هذا الحوار ليوضح لنا الكثير من المعلومات التي ماتزال بالنسبة للكثيرين- وحتى المختصين- غير دقيقة وملتبسة, احمد مختار ليس بحاجة الى تعريف.. لأنه سيقدم نفسه ضمن مجريات هذا الحوار:
* تاريخ العود كآلة موسيقية بابلية يكاد يكون مجهولا لدى الكثير من الناس نريد أن تقدم للقارئ معلومات دقيقة عن نشأة العود ومتى استخدم أول مرة ولماذا?
سوف أتناول آخر ما وصلت إليه التنقيبات والأبحاث, وهنا لابد من الاشارة الى ان هذه التنقيبات والأبحاث تغير وتصحح المعلومات حسب ظهورها, أي أن المعلومات التي نمتلكها عن مكان العود مثلا ربما سوف تتغير بعد عشر سنين إذا ظهرت قطع أثرية أقدم تدلنا على مكان آخر, ذكرت هذا للايضاح, لأن البعض يعتقد أن أول وجود للعود ظهر في مصر أو حتى في ايران على سبيل المثال وهذا كان شائعا وصحيحا حتى منتصف القرن الماضي لكن الأبحاث والتنقيبات الجديدة والقطع الثرية أظهرت عكس ذلك, حيث إن الرقم الطينية التي عثر عليها في العراق وتعود الى العصر الأكادي كانت تصور مشهدا لعازف عود ذي الرقبة القصيرة. وهنالك رقمان طينيان في المتحف البريطاني الآن نشرهما السير بومر أول مرة في الاربعينيات. كذلك تذكر المصادر وخصوصا التي وصل إليها الباحثون الألمان مثل هلمان والانجليزي سمث والعراقي أنور رشيد أن أقدم ظهور لآلة العود كان في العراق القديم وذلك في العصر الأكادي (2350/2150ق.ب) أي قبل 4500 سنة تقريبا ودليل هذا الرأي وجود الختمين الاسطوانيين لدى المتحف البريطاني في لندن (BM28806-BM89096) حيث اطلعت عليهما شخصيا والذي يرتقي زمنهما إلى العصر الأكادي.
كما يعتقد ان العود قد استخدم في العصر الأكادي لأول مرة. ولان حجمه صغير ويسهل حمله أثناء السير ويمكن استخراج أكثر من نغمة من كل وتر, صار يستخدم في المواكب والعبادة والطقوس الدينية أيضا.
أما عن شكل العود فلم يكن العود على شكله الحالي بل كان زنده أطول وصندوقه الصوتي أصغر ووجهه الأمامي من الجلد وصندوقه الصوتي من الخشب ويحتوي على وترين حتى العصر البابلي القديم وبعد ذلك أصبحت له ثلاثة أوتار ولم يثبت علميا واضع الأوتار ومخترعها.ويحتوي على مفاتيح (ملاوي) تربط فيها الأوتار لكل مفتاح وتر على العكس من الآن لكل وتر مفتاحان, كانت أوتاره تصنع من المعدن على الأغلب, وكان العود يحتوي على العتب (الدساتين).(FRET)
كانت طريقة العزف عليه تتم باليد اليسرى لجس الأوتار من ناحية الزند (العنق) واليد اليمنى تستعمل للضرب على الأوتار في نقطة بالقرب من مقدمة الصندوق الصوتي. لم تكن الريشة مستخدمة آنذاك, بالنسبة لليد اليمنى (يتم العزف بواسطة الضرب بأصبعي الابهام والسبابة من اليد اليمنى).
وعن وجود العود في الحضارة العربية القديمة جدا هنالك منحوتة سبأية مؤرخة في القرن الثالث أو الرابع الميلادي, لا يختلف العود فيها تقريبا عن العود الحديث وهو يحتوي على ثقبين مدورين لتقوية وتضخيم الصوت الذي ينبعث من الالة أثناء العزف. وهذا الأثر يدحض وبصورة قاطعة رأي الباحثة (شليزنكر التي قالت إن العرب تعلموا العود واقتبسوه من الفرس في نهاية القرن السادس الميلادي) لأن هذا الأثر يثبت وجود العود عند العرب قبل التاريخ الذي تذكره السيدة شليزنكر بثلاثة قرون.
في هذه الفترة حدث تغير مهم للعود وهو تغير وجهه من جلدي الى خشبي بما ساهم في تغير نوع وقوة الصوت. وكان العود أكثر الملاهي شيوعا. وفي هذا الزمن عرفت له أسماء كثير كالمزهر والكردان والبربط والمتوتر والعود ولكن قاموس العرب الأقدمين استخدم اسم العود وهو أقدم اسم عرفه العرب, كان الضرب عليه فيما يظهر يتم بابهام اليد اليمنى من ناحية الصندوق الصوتي.
وكان العود الآلة الرئيسية التي استخدمت للغناء والتلحين والعزف المرافق للمغني, كما واستخدمه بعض الشعراء مثل الأعشى مع انشاد القصائد كما ذكر المسعودي (لم يكن الشاعر ينظم القصائد فقط بل كان عليه ان ينشدها ويرفق إنشاده بالعزف وكان العود الآلة الأهم آنذاك لمثل هذا النوع من الفنون حيث كان الشاعر موسيقيا أيضا.
وجاء النغم العظيم للعود في العصرين الأموي والعباسي ذلك لاستخدامه في جميع المجالات وبصورة رئيسية, اما تطور نظرية الموسيقى العربية والتطبيق النظري للكثير من النظريات الفلسفية والعلمية فقد أسهم في تطور استخدام آلة العود وجعله الآلة الرئيسية رغم وجود الكثير من الآلات الأخرى وذلك لأنه الوحيد القادر على تفسير العلاقة بين الموسيقى والعلوم الأخرى كما يذكر الكندي في أحد مؤلفاته. شكل العود لم يكن يختلف عن شكله في الجاهلية وظل بأربعة أوتار وتصنع جميع أجزائه من الخشب, لكن تم تطوير المادة التي تصنع منها الأوتار حيث أصبحت تصنع من امعاء شبل الأسد وليس من أمعاء سائر الحيوانات كالسابق. حسبما جاء في نفح الطيب.
ومثلما انتقلت الكتب والمخطوطات التي تحمل النظريات في كافة العلوم انتقل العود عبر بلاد الأندلس في القرن الرابع عشر. لذلك نجد أن كلمة (العود) العربية تستعمل في اللغات الأوروبية حيث إن كلمة العود انتقلت إلى أوروبا في العصور الوسطى وذلك بعد أن سقط حرف الألف وصعوبة تلفظ غير العربي لحرف العين فأصبحت الكلمة (لود) و(لوت), واللوت آلة اشتهرت كثيرا وكتب لها مؤلفون عظام في القرنين السادس والسابع عشر مثل فيفالدي وباخ وسكرلاجي.
* خلال تاريخ العود الطويل حدثت اضافات على آلة العود ما أهم هذه الاضافات? ومن قام بها? وما دور الفلاسفة العرب في ذلك?
# أهم الاضافات والتطورات التي حدثت للعود هي تغير وجهه من الجلد الى الخشب, وأول من قام بذلك هو النضر ابن الحارث حيث جاء من مكة الى الحيرة وأقام في بلاط اللخميين الذين اشتهروا برعايتهم وتشجيعهم للشعر والموسيقى, وتعلم العزف على العود في الحيرة, وقام بهذا التغيير قبل أن يعود الى مكة مكان ولادته الاصلي, الحدث الآخر هو تغير المادة التي تصنع منها الأوتار حيث صارت تصنع من الحرير بعدما كانت تصنع من أمعاء الحيوانات وذلك في العصرين الأموي والعباسي ولا يعرف شخص محدد أو أول من قام بهذا, اضافة الوتر الخامس الذي نظر له الكندي ووضعه على حساب السلم الموسيقي المعدل, لكي يتمم السلم ذا الديوانين (أي الأوكتافين) حيث نفذ ذلك عمليا زرياب الموسيقي الأشهر والمغني المعروف وذلك في منتصف القرن التاسع الميلادي, كما قام زرياب بعدة إضافات أهمها استخدام الريشة للعزف على العود بدلا من استخدام أصابع اليد اليمنى الذي كان شائعا منذ الوجود الأول للعود. أمر آخر اضافه زرياب هو المزج بين امعاء شبل الأسد والحرير في صناعة الأوتار التي يستخدمها. بعد ذلك ظل العود ذو الأربعة أوتار يستخدم أيضا وسمي بالعود القديم أما ذو الخمسة أوتار فقد سمي بالعود الكامل. في القرن الرابع عشر تمت اضافة الوتر السادس حيث جاء في مخطوطة (كشف الهموم والكرب في آلة الطرب) عن العود: (وهو أنواع بحسب عدد أوتاره فمنه عود ذو اثني عشر وترا ومعشر ومثمن) ونحن نعرف أن أوتار العود مزدوجة أي أن كل وترين يتساويان في اصدار نغمة واحدة. مما يدل على أن هنالك عودا ذا ستة أوتار مزدوجة في القرن الرابع عشر الميلادي. أما في القرن التاسع عشر فلقد ظهر العود ذو السبعة أوتار حسبما ذكر صاحب الرسالة الشرفية ميخائيل مشاقة (1880-1888) .
للفلاسفة العرب دور كبير في التنظير للعود.. خصوصا الكندي فقد جعل من العود الوسيلة التي تدرس على أساسها العلل الفلكية وربط بين أوتار العود ومزايا الانسان وجعل الموسيقى فرعا من علوم الفلسفة. واستخدمها للعلاج كما جاء في رسائله ومؤلفاته السبعة عن الموسيقى, وكذلك فعل ابن سينا والفارابي والصفي الدين البغدادي الذين جاءوا من بعده بعشرات السنين, حيث اتبعوا منهج وقواعد الكندي وأضافوا عليها بعض المزايا.
* هنالك الكثير من الآراء حول نشأة الغناء العربي قبل الاسلام.. وهذه الآراء متضاربة وفيها الكثير من الخلط.. هل لك أن تدلي برأيك في هذا المجال?
# الغناء قديم وجد مع النفس فهو صاحبها الحميم تفزع اليه حين الشدائد وتستعين به على استمالة السرور, ولم يكن الغناء في العصور القديمة كما نعرفه اليوم أي يسير على قواعد وضوابط بل كان عفويا ساذجا, وأول من أوجد له القواعد هو العالم اليوناني بطليموس. وكان أول من غنى في العرب من النساء قينتان لقبيلة عاد يقال لهما الجرادتان, وأول من غنى من الرجال في اليمن ذو جدن وهو ملك من ملوك اليمن واسمه الكامل علس بن يشرح, وهكذا كان غناء العرب في جاهليتهم ساذجا كتغني الحداة في حداء أبلهم, هذا الغناء البسيط كانوا يطلقونه على الترنم بالشعر واذا كان تهليلا أو قراءة سموه تغبيرا لانه يذكر بالغابر وأما التغبير فهو التهليل.
ويذكر المسعودي أن أول من أخذ في ترجيع الحداء مضر ابن نزار فانه سقط من على جمل فانكسرت يداه فحملوه وهو يقول وا يداه.. وا يداه وكان يمتلك صوتا جميلا وحسنا, اصغت الابل اليه واستأنست وجدت في السير فجعل الرجال هذه الحادثة مثلا لقولهم ها يدا.. ها يدا ليحدوا بالابل.
وبقي الناس في العراق والجزيرة على طريقتهم في التغبير حتى جاء الاسلام ودخول الأقطار والممالك وتداخلت الاقوام الأخرى مع العرب واستقر بهم المقام وتطورت حياتهم وعيشتهم وأصبحوا بحاجة الى طرق غناء أكثر تنوعا ورقة وأنسا بعد أن كانوا لا يطربون الا بقراءة الشعر الحماسي والحداء والتغبير, فصار غناؤهم على أنواع حيث تطور غناء الجزيرة والعراق قديما الى ثلاثة أنواع رئيسية مهمة وهي: النصب, والسناد, والهزج وتفرع عن ذلك أنواع أخرى, وكانوا يرافقون غناءهم قديما بالعود والطمبور والمعزفة والمزمار أما ايقاعيا فقد كان الدف الدئرة والقضيب والصناجات هي المستخدمة بكثرة في المنطقة.
وبعد ذلك ظهر في المدينة والحجاز المنغي طويس ونشيط وسائب خاثر فلحنوا الشعر العربي واجادوا فيه وطويس كان في المدينة وهو أول من غنى في الاسلام الغناء الرقيق وعنه أخذ الآخرون وأول صوت تغنى به في الاسلام هو:
قد براني الشوق حتى كدت من شوقي اذوب
وبقيت صنعة الغناء تتدرج في الارتقاء والتطور حتى بلغت درجة أهم في أيام الأمويين حيث ظهر الغناء المتقن على انها لم تكن كذلك ايام الخلفاء الراشدين رغم ان أيام الرسول صلى الله عليه وسلم كانت أكثر تطورا وأفضل حالا بالنسبة للغناء والمغنين حيث حكي ان الرسول صلى الله عليه وسلم قدم من سفر فصعدت النساء على سطوح المنازل يضربن بالدفوف ويقلن:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا الله داع
* لا شك أن موسيقى العرب وصلت الى مستواها الكبير في منبثق حضارة العرب وشكلت علامة فارقة في تاريخ موسيقى العالم لكن هل عرف العرب التدوين الموسيقي في ذلك الوقت?
# نعم انهم سبقوا الغرب في عملية التدوين بقرون متعددة, صحيح أن التدوين الغربي المعاصر أكثر دقة ويتميز بالسهولة والوضوح عن تدوين العرب لكن العرب سبقوا الغرب, وكانت حروف الأبجدية العربية هي احدى أدوات التدوين الموسيقي في ذلك الوقت. أما الارقام فتدل على عدد الأوكتافات (الدواوين) وجاء في كتاب الأغاني ان ابراهيم بن المهدي, سمع صوتا استرعى انتباهه, فكتب الى صاحب اللحن اسحق الموصلي يسأل عنه فكتب اليه اسحق: بشعره وايقاعه وبسيطه ومجراه واصبعه وتجزئته واقسامه ومخارج نغمه وموضع مقاطعه ومقادير أدواره وأوزانه.. فعرفه ابراهيم المهدي وغناه, كما وضع لحنه اسحق تماما, هذا يدلل على أن في هذه الفترة أي القرن الثامن الميلادي كان للعرب تدوينهم الخاص الذي سبق غيرهم من الأمم, بينما لا يدلنا التاريخ عن أي اشارة للتدوين في الموسيقى الغربية الا في وقت متأخر أي بعد القرن الثاني عشر تقريبا, ومن الباحثين الذين عملوا في هذا مجال تحويل طريقة التدوين القديم الى التدوين الحديث هم:
زكريا يوسف الباحث العراقي الكبير حيث حول بعض تمارين العود التي وضعها الكندي منذ نحو ألف ومئتي عام منوطا (مدونا ) بالرموز العربية, ونحن نعرفه الآن كما عرفه الكندي في ذلك الزمان.
- نوطة مجدي العقيلي جزء من موشحة, حولها من رموز النوطة العربية القديمة الى رموز الحروف الموسيقية الحديثة الغربية وعين ايقاعها وأوزانها.
* التأليف لآلة العود قليل جدا حتى في أوج تطوره في العصر العباسي مثلا لم يحفظ لنا التاريخ مؤلفات مهمة?
# الموسيقى الصرفة غير الغنائية لها مساحة أصغر بكل المقاييس وأهمها التأليف وذلك عبر تاريخ الموسيقى العربية ككل, فباعتقادنا ان السبب يعود الى كون العرب أهل شعر وكلمة أكثر ولا يتصورون الموسيقى بدون الشعر أعني بقي العربي يصر على أن تكون الموسيقى تابعة لمجريات الصورة الشعرية والايقاع الشعري في القصيدة, وذلك جعل النسبة الأكبر من التلحين يذهب الى الغناء, ذلك ان الآلات كانت تعتبر عاملا مساعدا للصوت البشري الذي كان هو المفضل سماعه عند العرب وهو المستساغ لأذن العربي حتى اليوم ونجد أن الموسيقى الغنائية تأخذ حصة الأسد. بينما عكس ذلك في بلدان أخرى مثل أوروبا وحتى الصين فللموسيقى الصرف او غير الغنائية دورها كما للموسيقى الغنائية?
* بعض الناس وحتى بعض المتخصصين لا يعرفون الفرق بين العازف والملحن وبين الموسيقى الصرف او الغنائية والموسيقى الغنائية هل يمكن شرح لنا ذلك ببساطة?
# سوف أحاول جاهدا أن أشرح ذلك ببساطة لان العمق بالحديث وبالمصطلحات الموسيقية سوف يضيع القارئ والتعبير بأدوات أخرى سوف يبعدك عن الدقة في الوصف والتعبير, ولكن سأحاول أن أقدم فكرتي عن الموضوع. التأليف هو ما يطلق على الموسيقى الصرف غير الغنائية, وهنا تكون الجملة الموسيقية مختلفة من حيث الشكل والبناء, ومن جانب أنها غير مرتبطة باللغة ومداخل الحروف ومخارجها والمد والحصر في بعض الأحرف العربية أي أن الجملة الموسيقية تبنى حسب قدرات المؤلف الموسيقية وخياله, والموسيقى الصرفة التي ينتجها المؤلف تكون ذات أفق مفتوح وأوسع وتعتمد الصورة والرؤية في التعبير عن الفكرة الموسيقية المؤلفة منها يكون فيها قوة تركيز عالية لانها تنقل الصورة بشكل تجريدي وبدون عوامل مباشرة أو غير مباشرة أخرى, وتقنع المتلقي وتترك له حرية التواصل مع الفكرة حسب وعيه وخبرته الموسيقية لذلك تجده- أي المتلقي- يصل أحيانا الى فكرتك وأحيانا أقل وفي بعض الأحيان يقوده خياله الى اوسع مما تقصد.
أما التلحين فهو يطلق على الموسيقى الغنائية أي الموسيقى التي تتبع الغناء وتلتزم بكل شروط اللغة مثلا, لا يجوز مد النوتة الموسيقية اذا كانت متزامنة مع حرف الشين لأن صوته يسبب ضوضاء داخل اللحن ولابد ان يتم المد في حرف آخر مثل الألف إذا شاء الملحن او المطرب اذا اراد الاستزادة, الملحن يعمل بشكل مباشر لان الكلام (وأقصد الشعر الغنائي فقط) مهما بلغ من الرمزية والعمق يبقى خاليا من التجريد, ومن هنا يكون الملحن ذا سقف محدود بسبب ارتباطه بالفكرة الموجودة بالقصيدة الغنائية. بالمناسبة حتى مجالات التلحين للاوبرا في الغرب لم تتخلص بعد من هذه الاشكاليات رغم التخلص من مشكلة التعامل مع الحرف واللغة والتجاوز الذي يحصل للبناء الشعري وحتى المعنى, من هنا لابد التفريق بين المؤلف والملحن وهذا ما يحدث في علم الموسيقى اليوم Musicology وفي كل الموسيقات المتطورة.
لابد من التفريق بين التأليف الذي يعني الموسيقى الصرفة والتلحين ويعني الموسيقى الغنائية, فالموسيقى الصرفة لم توجد في تاريخ الموسيقى العربية سوى حيز صغير قياسا الى الموسيقى الغنائية التي لها الدور الأكبر وذلك يعود إلى الثقافة العربية واعتمادها على الشعر ومكانته في حياة العربي تاريخيا. وطريقة الالقاء والتركيز على مخارج الحروف والتأكيد على المعنى الذي يتم بوضوح العبارة او الكلمة او اعتماد الايقاع المعتدل والبطيء. كل هذه وعوامل اخرى ساهمت في تكوين أسلوب التلحين الذي هدفه الأول الكلمة. بينما هدف الموسيقى الصرفة (غير الغنائية) هو الأفق لا التطريب وبناء جملة لا يعتمد على الكلمة ولا تحده الحروف اضافة الى استخدام عوامل أخرى على قدر عال من الأهمية في تكوين البناء الموسيقي مثل الصمت.
هذه واحدة من مشاكل التأليف وهي عدم التمييز بين الجملة الغنائية والجملة الموسيقية الصرف.. هذا على مستوى المؤلف والمتلقي معا حيث ان عدم وجود اذن متلق تعودت سماع موسيقى يساهم المتلقي في ايجاد عالمه الخاص من خلالها أو مشاركا المؤلف فيساهم في عدم الوصول الى ذلك التمييز الذي تحدثنا عنه.
وهنالك مشاكل أخرى مثل عدم الاهتمام بتعدد الأصوات والتآليف اللحنية بين الآلات الموسيقية وعدم إدراك سقف الآلات الموسيقية ومداها الصوتي حيث نجد قطعا كتبها مؤلفها من دون أن يحدد هل هي لآلة القانون أم العود أم للناي وحتى في مناهج التدريس هذه القطعة تعطي لجميع الآلات. اذ لكل آلة مداها الصوتي التي ربما تكون القطعة أوسع منه والأوتار المطلقة في القانون ليست هي التي في العود وهذا يغير كثيرا من روحية العمل وما يراد منه.
* نسمع أحيانا من يقول إن هذا العازف يتمتع بروحية عالية وأحيانا بتقنية عالية هل تستطيع أن تقدم لنا أمثلة عن عازفين يتميزون بهذه الصفات?
# التقنية العالية واسلوب العزف المتطور والقدرة على استخدام كل تقنيات العود وسيلة مهمة جدا ومفيدة للعازف لكنها تصبح سلبية اذا تحولت الى غاية ويكون العازف همه عرض امكانياته العضلية, لابد من توظيف كل ما تمتلك الى الروحية, في بعض الأحيان يحتاج العازف الى تقنيات بسيطة لانتاج جملة موسيقية ولكن الاحساس والدقة باصرار الصوت أو النغمة وموضع هذه الجملة الموسيقية يحدد جمالها أكثر مما تحدده التقنية, فالجمال هو الأهم لذلك هنالك عازفون تنبهر حين تراهم يعزفون ولكن لا تستطيع سماعهم عن طريق اسطوانة او شريط ومن العازفين الذين وازنوا وبدرجات عالية بين التقنية والروحية وهو اسلم ما يمكن التوصل اليه من قبل العازف, الفنان منير بشير فقد وصل الى تقنيات عالية لم يصلها غيره لحد الآن وفي نفس الوقت يحمل روحا عالية, وقد وصفته في احدى المقابلات بكاهن العود, خالد محمد علي في العراق يحمل هذه الصفات العالية أيضا, من تونس انور ابراهيم, عازف حساس جدا ولديه روحية وتقنية عاليتان وهنالك أمثلة اخرى.
* الارتجال في العود هل يشبه الارتجال في الشعر?
# اعتقد أن الارتجال واحد في كل الفنون وهذا اعتقاد, لانني لا اكتب شعرا, ولكن بما يخص العود والموسيقى, فالارتجال هو التعبير عن اللحظة الآنية التي يمر بها العزف من خلال ما يمتلكه من أدوات, كذلك نستطيع أن نصف التأليف ارتجالا متمهلا في بادئ الأمر ثم يدخل في قالب ما أو يثبت كجمل, هنالك علاقة كبيرة بين الارتجال الشعري والموسيقى تكمن في الصور الشعرية والموسيقية.
* عادة ما تكون الجملة الموسيقية المؤلفة لآلة العود طويلة قياسا للأخريات, هل يعود ذلك الى خصوصية آلة العود أم الى خصوصية العازف?
# انت تدفعني للحديث بشكل تخصصي أكثر وتجبرني على الدخول في العالم الصوتي للمؤلف الذي طالما كتبت عنه في عدد من المقالات.
لذا أقول ان النظام الصوتي الذي تفرضه الآلة, يلعب في بعض الاحيان دور المحرض لخيال وابداع المؤلف في تكوين الجملة الموسيقية, وانطلاقا من ذلك يمكن القول أن المؤلف يجب إن يراعي وبشكل جيد عملية البحث في الطبيعة التعبيرية لكل آلة منفردة ويكتب للموسيقى وفق ذلك وهذا ينطبق على آلة العود. لذا نجد في الموسيقى الغربية مؤلفات خاصة لآلة الكمان لا يمكن أداؤها الا على آلة الكمان لانها تحمل خصوصية هذه الآلة, ونجد مؤلفات أخرى خاصة بالفلوت والبيانو أيضا, بينما لا نجد ذلك في موسيقانا, اذا استثنينا مؤلفات العود الحديثة التي كتبت خصيصا لهذه الآلة. من جهة اخرى ادراك قوة الالهام في التأليف الموسيقي وقدرتها على البناء والتشكيل, تجعلك تعرف أن التطبيقات لدى المؤلف في معظم الحالات هي نوع من التلقائية المتميزة بمسحة من الالهام لذا لا يمكن للتأليف الموسيقي أن يكون مجرد تشييد مسبق الصنع نابع عن الالهام, باختصار أن طبيعة صوت الآلة والمؤلف يساهمان في ذلك.
* استمعت الى مؤلفاتك ووجدت أن القيمة التأملية تطغى على الكثير من القطع الموسيقية, هل يتعلق هذا بجوهر عملك كعازف أم ان الموضوعات التي تختارها تتطلب هذا النوع من التأليف?
# في الحقيقة حين التأليف اشعر بحاجة والحاح داخلي للتعبير عن صورة ما ربما تأملية او صوفية او شيء آخر, وهكذا تبنى القطعة ومنها ما يستمر سنين دون أن يكتمل مثل قطعة (رثاء النخيل) و(رحيل الطيور) و(مناجاة) ومنها ما ينتهي العمل به في أيام, لا أحدد أي موضوع مسبقا لأنتج قطعة تناسب ذلك الموضوع ولكن جوهر طبيعتي كمؤلف وعازف عود تنتج القطعة وموضوعها معا, وأيضا ما يؤثر بي في جميع مجالات الحياة والتجارب التي أمر بها والمواقف التي أعيشها حتى تصبح جزءا من مفرداتي وتصوراتي الموسيقية, مثلا ذكر لي أحد الأصدقاء أن الشعر السويسري لا يعرف كلمة (المنفى).. لأنهم لم يتعاملوا مع ذلك من قبل, ولم ينفهم احد. بينما تجد ذلك واضحا بشكل كبير في الشعر العربي فالموسيقى والتأليف كذلك مفرداتك وتصوراتك وهمك الداخلي يساهم في عملية التكوين والبناء. والبناء في الموسيقى لا يختلف عن أي بناء فني أو ابداعي آخر, صحيح أنني تعاملت مع بعض القصائد لشعراء مثل مظفر النواب, ومحمود درويش وبلند الحيدري وغيرهم, قصائدهم رسمت لي صورا وأوحت لي بشيء لم أدركه حتى ولادة القطعة الموسيقية.
* فزت قبل سنتين بالجائزة الاولى في بريطانيا عن الموسيقى غير الغربية, وقبل أشهر تم اختيارك ضمن 16 عازفا لانتاج اسطوانة للأمم المتحدة منظمة حقوق الانسان, كيف ينظر الغربيون الى آلة العود?
# الموسيقيون والمتخصصون ينظرون باحترام لهذه الآلة العريقة التي هي أصل الكثير من الآلات لديهم والبعض من عازفي الجيتار واللوت يأتون الى دراسة هذه الآلة ليعرفوا أصل آلاتهم واسرارها جيدا, ولكن على الصعيد العام لا يعرف عن هذه الآلة الكثير وليست شائعة جدا مثل آلة السيتار الهندية مثلا, ما عدا في فرنسا طبعا. ولكن بالنتيجة هم ينظرون الى الموسيقى التي تنتجها أي آلة وأهمية هذه الموسيقى تكمن بقيمتها الجمالية بغض النظر عن الآلة, مثلا وبكل تواضع هنالك الكثير من العازفين الذين زاروا بريطانيا وقدموا الكثير من الحفلات وبدعم من منظماتهم الحكومية والسفارات, ومنهم من عاشوا فيها لسنوات ولكن لم يحصلوا على شيء, ولم تبرز موسيقاهم بين الثقافات الأخرى.
|