افتتح المتحف العربي الاميركي في ديربورن مؤخراً معرضاً لثلاثة فنانين عراقيين مقيمين في الولايات المتحدة. والمعرض يثير تساؤلات كثيرة اولها المكان الذي استضيف فيه وآخرها القيمة الفنية للاعمال المعروضة والنقطة الاهم ان هذا المعرض لا يمثل بأي شكل الفن العراقي المعاصر. والاسوأ من هذا كله ان المعرض يعكس محاولات متهالكة لتقديم البديل الجديد للفن العراقي المعاصر الذي نبع، بقدرة قادر، بعد الاحتلال الاميركي البريطاني للعراق عام 2003. هؤلاء القلة من الفنانين يدعون في اعمالهم الى ترسيخ وقبول الوضع الجديد والترحيب بواقع العراق المحتل. الفنانة ليلى كبه هي منظمة المعرض ومشاركة الى جانب الفنان محمد فرادي والفنانة ندى القرغولي. وقد افتتح المعرض اصلاً في صالة الرمانة في سوهو وهي صالة عرض يمتلكها فنان اسرائيلي اميركي من اصل عراقي يهودي وهو السيد عديد حلاحمي الذي كان قد غادر العراق مع عائلته الى اسرائيل في عام 1951 عندما كان طفلاً. ويثير قرار استضافة هذا المعرض اسئلة مهمة ومثيرة للقلق حول الاسباب الكامنة وراء قرار الاستضافة من قبل ذوي العلاقة في المتحف وكذلك امكانيتكم على تقييم الاعمال الفنية. فهناك ضعف واضح في الامكانية على التقييم الفني في اختيار هذا المعرض وهناك جهل واضح لفهم تأثير الفنون البصرية واهميتها في الجالية العربية. كذلك يثير موضوع استضافة هذا المعرض تداعيات سياسية تعكس عدم احترام الذهنية الفكرية للجالية العربية الاميركية. ومن الممكن ان يكون عدم الاحترام هذا ناتج من عدم القصد النابع من حالة الجهل الفني والثقافي التي يتمتع بها القائمون على المتحف. وان كانت الحال كهذه فهم ليسوا مؤهلين لادارة مؤسسة ثقافية يفترض فيها ان تمثل الوجه الثقافي والحضاري للجالية العربية. وقبل الخوض في التفاصيل لنستذكر خلفية المشهد الفني العراقي الحديث من خلال الدمار الشامل الذي يلحق بالعراق يومياً وحالة الفوضى التي سببها الغزو والاحتلال ضاع المشهد الثقافي والفني لبلد كان مفخرة للانجازات الفنية والثقافية والادبية في الوطن العربي خلال العقود التي سبقت الاحتلال. فقد كانت بغداد عاصمة للثقافة العربية وخاصة في الربع الاخير من القرن العشرين، وكان حال الفن التشكيلي العراقي منتعشاً ومتنوعاً بأساليب وتقنيات متقدمة امتلكها الفنانون العراقيون بكافة الاتجاهات والمدارس الحديثة. ومن خلال هذه التجارب الثرية تشكلت هوية للفن التشكيلي المعاصر جذورها ضاربة بعمق في ثقافات وادي الرافدين القديمة. الفنان العراقي القديم هو اول من ابتدع اساليب الفنون التشكيلية في الرسم والنحت واول من اسس لغة التعبير الصوري. وقد استطاع الفنان العراقي المعاصر ان يهضم هذا الموروث التاريخي ويغنيه بما يعرف عن طبيعة المجتمع العراقي المتنوع الثقافات والاعراق والاديان تلك الصفات التي لازمت الفرد العراقي عبر العصور وركزت تجربته الثقافية. وفي الفترة الحديثة من تاريخ العراق تكاثفت جهود الفنانين العراقيين، عرباً وأكراد وتركمان، مسلمين سنّة وشيعة ومسيحيين ويهود وصابئة ومندائين ويزيديين حيث ساهموا جميعهم في بناء صورة الفن العراقي التشكيلي المعاصر. وكانت حصيلة هذه الجهود هوية فنية فاعلة ومؤثرة ومصدر ابداعي للكثير من الفنانين الشباب في الوطن العربي. اضف الى هذا الثراء الفني حقيقة ان الفنانين العراقيين يتبعون اتجاهات سياسية متنوعة من شيوعيين الى قوميين عرب وبعثيين الى اسلاميين ومستقلين. من هذا الزخم الثقافي الفني برزت هوية متميزة في الفن العراقي المعاصر مستقاة من ملامح الثقافتين العربية والاسلامية. فالثقافة العربية تمثل التطور الاخير لثقافة الشعوب السامية وتشكل رابط يربط كافة القوميات والملل والجماعات في المنطقة، بينما تعتبر اللغة العربية التطور التاريخي للهجات السامية بطاقتها التعبيرية العالية. من جهة ثانية فإن الاسلام هو التطور التاريخي للاديان التوحيدية، اليهودية، والمسيحية وكذلك فهو يحتضن ويقارب ادياناً ثانوية اخرى كالمندائية والبهائية والدروز وغيرها. فاللغة العربية والدين الاسلامي يعرّفان ويحتويان على تاريخ كافة القوميات والتجمعات البشرية والثقافية تحت مظلة الثقافة السامية في المنطقة العربية في الشرق الاوسط. ومن هذه الخلفية نشأت في العراق حالة من التسامح والتفاهم الديني والتعددية قاربت المجتمع العراقي لحالة من الاعتدال والعلمانية حتى سقوط بغداد واحتلالها في عام 2003. ومع بداية الغزو الاميركي تساقطت البنية الثقافية العراقية وبسبب غياب السلطة والامن فقد تعرضت المتاحف للمداهمة والسرقة بينما كانت ابنية وزارة الثقافة والاعلام تتعرض الى قصف اميركي مدمر. نُهبت المتاحف والمكتبات وثم نهب وتدمير وإحراق الكثير من المخزون الثقافي العراقي في المتحف العراقي والمكتبة الوطنية والمكتبات المركزية للجامعات العراقية ودار الحكمة ومراكز حفظ الوثائق والمخطوطات القديمة. وشمل النهب والدمار مركز صدام للفنون الذي كان يحوي مجمل تاريخ الحركة الفنية التشكيلية الحديثة في العراق منذ تشكلها في اواخر القرن التاسع عشر وحتى سقوط بغداد في 2003. كان هذا التاريخ الفني محفوظاً في اجنحة المركز ذات الطوابق الاربعة بما يحويه من حوالي 7000 عمل من الرسم والنحت والتخطيط والطباعة والفخار والخط العربي والتصوير الفوتوغراقي، اضافة الى البحوث والكتب والنشرات والدوريات الفنية. ومع انقشاع غبار النهب والسلب وبعد اعادة ما تم اعادته وجرد المتبقى فان التقارير الاخيرة تشير الى ان المتحف العراقي لا زال يفقد اكثر من 15000 قطعة تاريخية من بينها 30 - 40 قطعة كبيرة الحجم بينما بلغ عدد الاعمال الفنية الحديثة التي اعيدت او استرجعت حوالي 3000 قطعة من اصل 7000 ولا زال مصير الآلاف المفقودة مجهولاً. من جهة اخرى فإن الاحتلال العسكري للعراق قد تسبب في الحاق اضرار كبيرة مباشرة او غير مباشرة بالكثير من المناطق الآثارية ... اما بسبب تواجد قوات احتلال عسكرية في تلك المواقع او تعرض الاخرى منها للنهب بسبب عدم وجود الحماية الوطنية لها كما هو الحال في آثار بابل واور ودمار الجزء العلوي من المنارة الملوية في سامراء. وكان لسياسة تكريس الطائفية في الدستور العراقي «الجديد» اثر مباشر في دمار التراث العراقي حيث ان هذا الاتجاه كرّس الصراع الطائفي والديني والقومي وكانت نتائجه الدمار الشامل لجامع وضريح الامام العسكري في سامراء وتفجير منارة عانة العباسية اضافة الى تعرض العشرات من الجوامع والابنية الدينية الى هجمات ودمار جزئي مستمر من اطراف مختلفة من مدن العراق. كانت سياسة الاحتلال وما تزال ترمي الى تهديم البنية الاجتماعية والثقافية للعراق من خلال زرع الصراعات الطائفية والفتن السياسية وانتزاع البنية الثقافية العامة المتمثلة بالثقافة العربية والاسلامية. وقد اتخذت الكثير من الخطوات في هذا الاتجاه الهدف منها ابعاد العراق عن هويته العربية والاسلامية.. وتحول العراق الى مرتع للتعصب الديني والطائفي وبيئة ملائمة للفكر الارهابي والتخلف وشيوع المخدرات والآفات الاجتماعية الاخرى كالدعارة واسواق الاعلام الترفيهي الجنسي. وقد شملت هذه الحملة قطاع الفنون التشكيلية حيث ان الكثير من الفنانين الواعين رفضوا الاحتلال وغادر غالبيتهم العراق ليقيموا ويعملوا في دول الجوار او في اوروبا وغيرها. اما الذين اختاروا البقاء فقد انكفؤوا على ذاتهم دون نشاط يذكر. وقد وفر هذا الوضع الجديد فرصة لرهط كبير من الفنانين المبتدئين ومقتنصي الفرص وقفزوا في واجهة المشهد ليقدموا انفسهم على انهم الوجه الفني الجديد للعراق بعد «التحرير». وهناك البعض من العراقيين المقيمين في الولايات المتحدة ممن انخرط في هذا الاتجاه وقدموا خدماتهم و«خبراتهم» في خدمة المحتل لاسباب سياسية او مادية وغيرها. اما موضوع تغطية الاعلام الاميركي والمحلي للثقافة العراقية بعد الاحتلال فانه يدل بوضوح على ضحالة فهم تلك المؤسسات. فمنذ الايام الاولى للاحتلال طالعتنا الصحافة الاميركية بصورة مضحكة للمشهد العراقي الثقافي والفني المحرر «الذي نهض من تحت اشلاء الحكم الدكتاتوري وسنين الظلام ليترعرع في ظل الديموقراطية الجديدة». وكان ابطال هذا الفن الجديد هم خليط عجيب من هواة فن الى طلبة مبتدئين الى انصاف مثقفين لا يمتلكون مقومات العمل الثقافي الابتدائية... وظهرت مواقع الكترونية كثيرة ومطبوعات ركيكة تروج لهذا الواقع الجديد وخصوصاً في الولايات المتحدة الاميركية. فقد بادر فنانون عراقيون مبتدئون الى تكوين جمعيات ونواد باسم الفن العراقي ونقابة الفنانين وجمعية الفنانين العراقيين واستباحوا القاباً ومواقع لا يرقون لها. من جهة اخرى صاحب هذه الظاهرة بزوغ رعيل من «مؤرخي الفن العراقي» و«نقاد الفن العراقي» وغالبيتهم ممن لا يعرف شيئاً عن تاريخ وثقافة وفن العراق واغلبهم من اصول عراقية او عربية ولدوا وترعرعوا في لندن وباريس وواشنطن وقدموا انفسهم على انهم الخبراء في الفن والثقافة العراقية صبيحة الاحتلال. وقام الاعلام الاميركي الباحث عن الاثارة والخبر الهزاز بتعريفنا بفنانين جدد مثل عصام الباشا وصوروه وهو يتسلق جدارية شعبية من تلك التي ملئت جدران العراق ايام حكم صدام حسين ... ويقوم بتغطيتها بألوان وضربات فرشاته السحرية وبطريقة رامبوية ليخرج منتصراً ومقدماً لنا الفن العراقي الناهض من تحت رماد «التخلف» الذي انتهى بالاحتلال. وبين ليلة وضحاها ينتهي تاريخ اكثر من ثمانين سنة من البناء الثقافي والحضاري لفطاحل الفن التشكيلي العراقي امثال جواد سليم وفائق حسن وخالد الجادر وخالد الرحال وشاكر حسن وسعاد العطار وحافظ الدروي وسعد شاكر ومحمد غني حكمت والعشرات غيرهم، ليظهر علينا مترجم مرافق لقوات الاحتلال يتحول بقدرة قادر الى فنان يلخص لنا تاريخ الفن التشكيلي العراقي ويختمه بفرشاته الرامبوية - الكاوبوية. وتأتي الصحافة الاميركية الغبية لتطوف بعصام الباشا وامثاله لاغية اعمدة الفن العراقي التشكيلي المعاصر المنتشرين في كافة انحاء العالم وفي العراق من امثال رافع الناصري، محمد مهر الدين، طارق ابراهيم، ضياء العزاوي، سعدي الكعبي، سلمان عباس، ابراهيم العبدي، والعشرات الآخرين، ومنهم كاتب هذه السطور. وتتمادى لعبة صناعة البديل المناصر للاحتلال بظهور نقاد فن اميركيين كالسيد بيتر هاستن فولك - الذي لا يعرف شيئاً على الاطلاق عن الفن العراقي المعاصر ليروج لعصام الباشا وامثاله. ويصاحب هذه الظاهرة ظهور قاعات عرض لاستقبال مثل هذه الفعاليات. ومن هذه القاعات صالة الرمانة لصاحبها السيد عديد حلاحمي وهو يهودي عراقي غادر مع عائلته الى اسرائيل عام 1951 ثم استقر مؤخراً في نيويورك وفتح صالة الرمانة لعرض اعماله النحتية وغيرها. وبعد احتلال العراق مباشرة تم تكليف السيد حلاحمي من قبل قوات الاحتلال بعمل نصب نحتي للشمعدان اليهودي من البرونز ونقل النصب في كانون الاول 2003 الى بغداد واقيم احتفال في قصر الرئيس السابق صدام حيث نُصب الشمعدان واحتفل بالهانكا. وفي عام 2005 قام الفنان حلاحمي بمشاركة السيد بيتر فولك بتنظيم معرض لاعمال فنانين عراقيين من المستويات المتوسطة لاعمال عصام الباشا وقاسم سبتي ودلير شاكر وغسان محسن وحيدر علي ومحمد الشمري ونزار يحي وهناء مال الله وعديد حلاحمي. تبعه معرض اخر لذات الفنانين وقام السيد بيتر فولك باقتناء اعمال اولئك الفنانين العراقيين المقيم اغلبهم في الاردن واوروبا والذين لا يعرفون تفاصيل واقع صالة الرمانة على الاغلب - وعرضها في صالة الرمانة تحت عناوين رنانة تدور حول «ولادة الفن العراقي الحديث من انقاض الحرب». وواضح جداً ان صالة الرمانة هي بمثابة معرض دائمي للفن العراقي الذي يمثل مرحلة ما بعد الاحتلال. ومن آخر نشاطات صالة الرمانة معرض ثلاثي «لفنانين» عراقيين مقيمين في اميركا ومتعاطفين مع احتلال العراق وهم ليلى كبة ومحمد فرادي وندى قرغولي تحت عنوات «تأملات فنانين عراقيين من بلدهم». وقد قام المتحف العربي الاميركي في ديربورن باستضافة هذا المعرض المقام حالياً والذي يستمر لنهاية كانون الثاني 2007. واذا كانت اعمال محمد فرادي وليلى كبة تحمل قيمة فنية معينة فإن ذلك المستوى لم ينعكس في الاعمال المقدمة في هذا المعرض البائس. اما ندى قرغولي فإن اعمالها ضعيفة ولا تتجاوز محاولات هاوٍ للرسم شأنها شأن آلاف الهواة الذين يحاولون التعيش من رسم الصور الشخصية والمناظر الطبيعية وباقات الورد. واذا كان لليلى ومحمد فرادي نصيب في النشاط العراقي فإن ندى ليس لديها تاريخ فني على الاطلاق. والسؤال المهم هو لماذا استضاف المتحف العربي معرضاً ضعيفاً كهذا او هل هناك اعتبارات سياسية خلف موضوع التعاون بين قاعة الرمانة التي تروّج لعراق محتل والمتحف العربي الذي يفترض به ان يعكس ضمير الجالية العربية. ويدور في الجالية همس وانتقاد مستمر للمتحف ومحتوياته من جهة والصيغة التي صمم بها وزينت دواخله بمفردات مجمعة من خليط ساذج وغير متجانس من الزخارف الاسلامية يدل على جهالة المصمم وضعف ادراك ذوي القرار في اختيار تلك المفردات التشكيلية في التصميم. تبقى المسألة الاهم وهي عدم وجود الكادر الفني المتمكن من ادارة وتقييم الاعمال الفنية والمستويات الاسلوبية التي يحق تسميتها انجازاً فنياً. فالمتحف اقيم باسم الجالية ويجب ان يتمتع القائمون على ادارة المتحف بالمعرفة العلمية والتاريخية والثقافية اولاً وقدرتهم على تمييز الغث من السمين وهو ما لا يتوفر في ادارة المتحف حالياً مما يفقده المصداقية المطلوبة ومما سيؤدي الى استمرار تقديم صورة وضيعة للفن العربي الاميركي لا تليق بالسمعة العالية التي يتمتع بها ابناء الجالية العربية في الولايات المتحدة.
ديربورن - د. هاشم الطويل
استاذ تاريخ الفن في كلية هنري فورد
|