ليست هي المرة الأولى يُكرّس فيها الغرافيت (الرسم على حيطان الشوارع وأرصفتها) ظاهرة فنية تهتم بها المتاحف والصالات الكبرى ويحوطها نقاد الفن بأبخرتهم الزرقاء. لا تزال ذكرى جان ميشال باسكيا ماثلة: الفتى الاسمر الذي لم يعش طويلا وصارت رسومه تباع بالملايين اثناء حياته بعدما تبنّاه فنان نيويورك اندي وارهول. ربما يشكل الاعتراف بفن الشوارع محاولة لتحدي الانواع الفنية المكرسة وإحراجها نقدياً، من خلال توسيع مدى الذائقة الجمالية. ربما يكون ذلك الاعتراف الرسمي نوعا من محاولة فهم ما يجري في الشارع، خارج حدود المؤسسة الفنية. ولا احد يخشى من ضرر يلحق بالفن. مع بانكسي وهو آخر الظواهر في هذا المجال، يعيش الفن لحظة يأس عظيمة، لحظة تتجاوز حدود المدرك الجمالي، بل تحطّ من قدره لتفتح المجال واسعا أمام هموم الناس العاديين المتعلقة بفكرة العيش في الفضاء المغلق الذي تصنعه الجدران. ولأن الغرافيت يشير إلى رغبة عارمة في التمرد الثقافي والسياسي، فقد وجد المتابعون في فن بانكسي صرخة ضمير انساني محتج وموجع.
يهبنا فن بانكسي (روبرت بانكس هو الاسم الحقيقي للفنان) فكرة عن جزء مهم مما يحدث من تحولات في السلوك والتفكير الفنيين في عالم اليوم. هذا الفنان المولود عام 1974 في بريستول (بريطانيا) هو شبح قادم من الشوارع الخلفية. شقّ اسمُه طريقَه إلى التداول العلني بعد عام 2000. فهو ابن الالفية الثالثة بامتياز.
رسّام الحياة اليومية
كان قد بدأ الرسم على الجدران الخارجية للبنايات المهجورة، في انفاق المرور، خلف المخازن التجارية، وفي منعطفات الشوارع، قبل أن ينتبه إليه المعنيون بالشأن الثقافي. لم يكن في نية ذلك الشاب أن يكون فنّه مصدراً لأمل يأتي من جهة مجهولة. كان فنّه مزيجاً من الرغبة في انتاج طريقة مختلفة للاحتجاج والتمرد ومن الاشفاق على الذات، تمتزج فيها الحكايات بعبث المعنى. لم يكن بانكسي يفكر في ما ينتجه خياله من علاقات مبنية على المفارقة، إلا باعتباره وسيلة للفت الانظار إلى قضايا تقع خارج الفن. قضايا يتسع مسرحها الثقافي ليستوعب مشكلات كثيرة تعاني منها مجتمعاتنا المعاصرة. وكما اتضح في ما بعد، فإن الفتى كان يلهو بوقائع هي أشبه بالالغام التي يتطلب تفكيكها خبرة من نوع ما. خبرة التقنيات الفنية لم تكن تنقصه، وهو الذي عرف كيف يطوّع تقنيات الحفر الطباعي لإنتاج رسوم كبيرة. معه اتيح مرةً أخرى للغرافيت أن لا يكون فن المنسيين الهاربين من القانون الذي يحظّر تلويث الاماكن العامة بالشخبطات العبثية. لقد جذبت رسومه انظار الناس فصاروا يبحثون عنها، لا في المتاحف ولا في الصالات الفنية، بل على الجدران. لقية مضادة جديدة في مجتمع سريع الملل، لا ترضي ذائقته الروائع الفنية التي تكتظ بها المتاحف، بقدر ما تكون فرصته في تعلم الجمال هي الأخرى قابلة للاستهلاك. فرسوم بانكسي هي من النوع الذي لا يُرى إلا مرةً واحدة. ذلك لأنها تهب فكرة ما، فيما يذهب كل شيء من حولها إلى العدم. ننعم بالفكرة التي تصدمنا، توقظ فينا احساساً ما، تهدم جزءاً من يومياتنا المبرمجة، تُخرجنا من سباتنا، تقول ما لم نسمعه منذ زمن بعيد. أفكار بانكسي تعتمد اسلوباً بصرياً خاطفاً، تذهب من خلاله إلى الأعماق لتترسب هناك. هو إذاً فنّ يفعل ما لا تقوى الكثير من الروائع المتحفية على فعله: تغييرنا فوراً. ولأن بانكسي يخاطب الناس العاديين فإنه يستعير مفرداته من حياتهم الثقافية المباشرة: أبطال أفلام الرسوم المتحركة، رجال الشرطة، الشخصيات الدينية، الكلمات والجمل الشائعة والأكثر استعمالاً، الأدوات المنزلية والمواد الشخصية. بانكسي رسّام صور ذات دلالة. المعنى هو أكثر ما يتوق إلى انجازه. لذلك فهو يستخرج معانيه من الأشياء والوقائع اليومية. إنه رسّام اليوم العابر الذي يقول الحقيقة.
الملك بطلا
"بانكسي الملك". حماسة رجل الشارع تصل الى ذروتها من خلال ذلك اللقب الاسطوري الذي أطلق على الرسام. فبانكسي هو ملك شوارع لندن فعلا. غير أن هناك من يعتبره بطلا. شيء عظيم من فكره ينحاز إلى بطولة من نوع غير استهلاكي في مجتمع صارت الصور تكرّس في مخيلته هيئة الرجل الذي يصنع بطولته من خلال العنف. عنف ضد الضعفاء، وعنف ضد الشعوب الأخرى. بانكسي يقترح علينا نموذج البطل الذي يكافح من أجل السلام وسيلةً لإسعاد الآخرين واستعادتهم لكرامتهم. سلامه لا يستثني أحداً من نعمه. موقف أصيل يظهر مثل فضيحة في ثقافة سياسية صارت تفرّق بين شعب وآخر في الحق في السلام والعيش المطمئن والحياة الهانئة. عام 2004 ذهب بانكسي إلى فلسطين فصدمه مشهد جدار العزل العنصري هناك. وجد مادته جاهزة وهو عدوّ الجدران اينما كانت وبأيّ ذريعة. رسم على ذلك الجدار المهين والبغيض مباشرة: سلماً يقود الى الأفق، فتاة صغيرة تحلّق عاليا وهي ممسكة بخيط بالوناتها الملونة التي سبقتها إلى الفضاء، ثقباً تظهر من خلاله مروج غناء، خطاً متقطعاً يشكل مربّعاً جاهزاً للقص شبيهاً بذلك الذي نراه في المجلات. "الجدار والسلم"، كتابه، كان حصيلة تلك الزيارة التي تركت أثراً مروّعاً في نفسه. لقّننا بانكسي درساً عميقاً في احترام كرامة الانسان. فرسومه تلك هي دعوة واضحة الى هدم ذلك الجدار العنصري. أقول "لقّننا" وأنا أتذكر تلك الرسوم البلهاء التي رسمها عراقيون على جدران الفصل الطائفي في بغداد بتمويل مباشر من سلطة الاحتلال التي اقامت تلك الجدران. لقد رسموا الملاحم السومرية وحكايات مستعارة من "ألف ليلة وليلة" ومناظر طبيعية، كما لو أنهم قرروا أن تلك الجدران التي مزّقت جسد مدينتهم العظيمة وجعلت منهم رهائن الفصل الطائفي، ستكون موجودة إلى الأبد. ما من نبرة معادية. ما من لطخة تشي بالكرامة الانسانية. بعد عشرين سنة من هدم جدار برلين، لم تصلنا الفكرة بعد: الجدار لا يصنع أملاً في حياة آمنة. بانكسي لا يزيّن الجدران برسومه، لا يزخرفها، بل يسخر منها ومن بناتها والقائمين على حراستها. هناك دائماً مسالك تقود أبطاله إلى فضاء يقع خارج الجدار.
خيانة المكان
جمالياً، لا يرقى فنّ بانكسي بذائقة المتلقي. فهو فنّ شعبي بسيط، سوقيّ ومبتذل، سريع التأثير، لا يحتاج المرء إلى العودة إليه. لكن بانكسي لا يرسم من أجل أن يرتقي بحساسية الناس الجمالية بل من أجل أن يحرر الناس من سلطة العنف. واقعيته النقدية هي مزيج من الاساليب الفنية المتمردة: يأخذ من الدادائية موقفها العبثي الهدّام من السلطة، من السوريالية دعاباتها السوداء، من الواقعية دقّتها في المحاكاة، ومن الفن الشعبي الـ"بوب" حيوية إقباله على المواد الاستهلاكية. لكن، ألا يشكل صدوده عن الفن كما نعرفه نوعاً من الغواية المخطَّط لها؟ يذهب بانكسي الى نيويورك لتستقبله كبرى قاعاتها باعتباره عبقرياً ورجل اللحظة الثقافية، وهو تصرف مبالَغ فيه، لكن نيويورك هي نيويورك دائماً. تصر تلك المدينة على أن تصنع تاريخاً عبثياً للفن شبيهاً بتاريخها: الرسالة الوحيدة التي ترتجل مفرداتها من فكرة العيش المباشر. عرض بانكسي هناك صورة ماريلين مونرو. لم تكن ماريلينه سوى نسخة معدلة من ماريلين مثاله الرهيب اندي وراهول. وعلى الرغم من أن بانكسي لا يرسم إلا لوحات كبيرة الحجم، هو الحجم الذي استلهمه من جدران الشوارع، غير أن وقع تلك اللوحات وهي معروضة في قاعة، هو غير وقعها مرسومةً على جدار لندني عتيق. خطأ المكان يكاد يكون قاتلاً. وكما أرى، فإن بانكسي سيضطر إلى خلق فن مختلف ليكون مكرَّساً على مستوى القاعات والمتاحف الفنية. سيكون عليه أن يبدأ من جديد. أن يكون آخر، غير بانكسي الذي عرفته الشوارع. رسائله المباشرة لا تنفع في كل مكان. أتذكر قصائد مظفر النواب الفصحى التي ألهبت مشاعر الجماهير، هل يمكن قراءتها مطبوعةً في كتاب؟ المكان يخذل، غير أنه لا يخون حين يقول الحقيقة. رسوم بانكسي تنفي ضرورتها حين تنضمّ إلى الفن الذي يراكم خبرات عزلته النخبوية. بوصلة نيويورك تعمل وفق تقنية أخرى دائماً. وهذا ما يدفع الفن ثمنه دائماً. فبانكسي الذي هو ملك فن الغرافيت حقاً هو بحسب ما أعتقد، فنان فقير إذا ما عُرضت أعماله إلى جانب أعمال عباقرة الفن في زماننا |