يحبّك الجميع لأنك الخاسر الوحيد بقلم الفن العربي في متاهة السوق
مَن يعطي ومَن يأخذ؟ سؤال اقتصادي حتى لو كانت مادته هذه المرة الفن. فحين تُعرَض القطعة الفنية للبيع، تتخلى عن كونها صورة مجردة من صور الفعل الروحي، لتكون سلعة، تخضع لقوانين تجارية كثيرة، من بينها قانون العرض والطلب. لذلك كان قيام سوق للفن العربي مطلباً جوهرياً من أجل التقليل من أضرار الفوضى التي تتصف بها العلاقة بين الإنتاج الفني والمقتني. وهي فوضى تفيد منها جهات عديدة، ليس من بينها الفنان.
استيقظ الرسّامون السوريون قبل بضعة اعوام على وقع ارتفاع أسعار لوحاتهم أضعافاً مضاعفة. فركوا عيونهم غير مصدّقين. مفاجأة سارة، غير أنها حدثت مثل معجزة. كما لو أن يداً قد امتدت إلى تلك الأعمال بعصا سحرية لتحولها من خلال لمسة خفية لقى نادرة، ووقائع ملغزة استثنائية لا يمكنها أن تقع إلا مرة واحدة.
أموال بشرط الوصاية
طبعاً يمكننا أن نتوقع أن المشمولين بتلك النعمة (هم قلة على العموم) قد صدّقوا ما جرى لهم. من حقّهم أن يتخيّلوا أن الميزان صار أخيراً يحتكم إلى شيء من العدل الذي كان مرجأ. فكرتهم عن العدل كانت يومذاك ناقصة بحكم استنادها إلى منافعهم الشخصية المحضة. مع ذلك فإن القاعة التي اجترحت تلك المعجزة كانت قد ألقت خطوات في الطريق الصحيح: أقدمت على طبع كتب مترفة عن الفنانين الذين خصّتهم بعروضها، سوّقت بضاعتها بطريقة لافتة ودعائية ومبهرجة، دفعت الأقلية المشمولة برعايتها الى الاستغناء عن العرض المجاني من خلال توقيعها عقود احتكار معهم لسنوات. كان من الممكن أن يظل كل شيء مستوراً وفي حدود العلاقة الثنائية بين الفنان والقاعة، لولا أن خمسة من أولئك الفنانين قد أعلنوا تمردهم الغاضب على تلك الوصاية: يوسف عبد لكي، عبد الله مراد، فادي يازجي، منير الشعراني، ياسر صافي. كان هناك إذاً خطأ في مكان ما. هذا ما عرفناه لاحقاً بعدما فضح عبد لكي كل شيء في مقال (بيان) نشره في إحدى الصحف اللبنانية. لقد اكتشف عبد لكي أن العلاقة لم تكن متوازنة وأن هناك خديعة من شأن الاستمرار في السكوت عليها أن يخلق واقعاً ثقافياً زائفاً. بالنسبة اليه فقد كان تاريخه النضالي (أمضى ربع قرن مشرداً بعيداً من وطنه لأسباب سياسية) يفرض عليه أن يقول الحقيقة، حتى لو كانت تلك الحقيقة تدين جزءاً من سلوكه، في لحظة خطأ مبهمة. وكما أرى فإن عبد لكي وقد كشف المستور أسدى لمتابعي التحولات الثقافية معروفاً كبيراً. ذلك لأنه قال لنا بجرأة إن علينا أن لا نصدّق كل ما نراه. هناك ما يجب أن نبحث عنه في المناطق الخفية. كان ارتفاع اسعار اللوحات يخفي أموراً خطيرة، لن تكون أخطرها، الوصاية على الفنان أو إلحاقه بالمؤسسة تابعاً ذليلاً.
علاقة من غير قواعد
ذات مرة اشتكت صاحبة قاعة عرض فني في عمان من أن أحد الرسّامين العراقيين كان قد اتفق مع زبائن عابرين على أن يبيعهم أعماله التي يشارك بها في معرض تقيمه في قاعتها بعد أن ينتهي وقت العرض. هذا يعني أنه سيُفقدها نسبتها المالية المتفق عليها. "ولكنكِ هل وقّعتِ معه أو مع سواه من الفنانين عقداً يحفظ حقوق الطرفين؟"، سألتُها. فلم تجب. بل كفّت عن الكلام وكرهتني. في كل العروض الفنية العربية يكون الفنان، وهو صاحب المادة المعروضة للنظر وللبيع، الطرف الأضعف. لطالما كنت شاهداً على ضياع الكثير من حقوق الفنانين، بطريقة أو بأخرى. بل أن الفنانين أنفسهم كانوا يساهمون في ضياع حقوقهم من خلال شعورهم المرضي بأن الخدمة التي تقدّمها اليهم القاعات الفنية من خلال احتضان أعمالهم وعرضها، هي هبة خاصة ينبغي عدم التفريط بها، حتى لو جرى ذلك على حساب حقوقهم. عام 1996 رأيتُ شاكر حسن آل سعيد في بيروت، وقد كان حينذاك من أكبر الفنان العرب الأحياء، يستغفر ربّه وهو يسعّر لوحاته. قال لي بلسان متعثر: "أنا مضطر إلى أن أضع أسعاراً عالية". أما صاحبة القاعة حيث كان يقيم معرضه، فقد فجعت بتلك الأسعار وطلبت منه أن يزيدها قليلاً لئلا يشعر الجمهور بتدني قيمتها الفنية والتاريخية بسبب أسعارها المخفوضة فلا يُقبل على اقتنائها. في ذلك الموقف كان آل سعيد نموذجاً للفنان العربي الذي لا يعرف شيئاً عن سوق الفن. ذلك لأنه لم يكن يرغب في النظر الى ما ينتجه باعتباره بضاعة تُعرَض للبيع. بالنسبة اليه فإن هناك بركة كبيرة تقع عليه لو قيِّض له أن يعثر على جهة تتبنى عرض أعماله. لم يكن لديه ولدى سواه من الفنانين أيضاً، أيّ معنى راسخ ومؤكد لمفهوم سوق الفن. صحيح أن الفنان العربي كان يقرأ ويسمع أخبار أسعار اللوحات العالمية المليونية، لكنه لم يكن يعتبر نفسه جزءاً من ذلك العالم الخيالي. كان هناك شعور عميق بالدونية، يقف حائلاً دون القيام بأي مقارنة تتسم بقدر ما من الإنصاف. الدليل على ذلك: لم يكن لدينا إلى وقت قريب فنانون متفرغون للعمل الفني. كان الفنان يمضي ساعات طويلة من يومه وهو يعمل موظفاً في مكان ما من أجل أن يغطي نفقات عيشه. الباقي من وقته يخصصه لفنّه. عقود، ونحن نتلقى فناً ينتجه هواة. ما من محترفين إلا في ما ندر. آل سعيد نفسه أمضى السنين العشر الأخيرة من حياته بعد تقاعده من العمل معلّماً في معهد الفنون الجميلة ببغداد، موظفاً في مؤسسة شومان بعمان. لقد كانت القاعات الفنية دائماً هي المستفيدة من هذه الظاهرة، حيث لم يكن الفنان ليجرؤ على أن يضع علاقته معها في سياق تجاري صحيح. أحدث هذا كلّه نتيجة سوء فهم؟
إلهام المفلسين
كان الفنان العربي (ألا يزال كذلك؟ أتمنى طبعاً) لا يرى في إنتاجه الفني إلا قبساً من وحي إلهي. لحظة العبقرية التي تملي واقعة ملهَمة يمكنها أن تغيّر العالم الذي يحيط به. لقد تمكنت خرافة الفن الذي يشكّل طوق نجاة للبشرية في مرحلة الطوفان، من خيال الفنان العربي ومن بقية آليات علاقته بمفهوم الفن. أسرته وتحكمت بعلاقته بما ينتجه من أعمال فنية. مقاربة هي في حقيقتها أشبه بالقربان. لذلك كان الفنان يشعر بالامتنان لمن ييسر له تقربه من مواقع إلهامه ورغبته في أن يكون مغيرا (الجمهور). شعور خرافي نتج من نقائية في الصلة بالفن واشتباك شخصي بالوصفات الدينية الجاهزة التي تعلي من شأن التخلي عن الأطماع الشخصية. كنا إذاً إزاء معادلة فكرية محيرة نتج منها نوع من فنان لا يعرف القيمة الاقتصادية لما يفعل.
لم يكن الفنان العربي ينتظر أموالاً من عمله. كان حامل رسالة. في ذلك الوقت كان هناك من يعتاش عن طريق الرسم: رسّامو المناظر الطبيعية والوجوه الشخصية. غير أن ذلك لم يكن إلا نشاطاً تجارياً يأنف الرسّامون الحقيقيون من الاقتراب منه، خشية ان يدنّس صلتهم بالإلهام. بعد سنوات سيكتشف الفنان العربي وقد صار منفياً (بعيداً من وطنه، من غير حماية اقتصادية) أن عليه هو الآخر أن يعتاش من فنّه. سيكون عليه أن يفكر هذه المرة بطريقة مختلفة. ولكن ما من سوق فنية حقيقية في البلدان العربية. هناك دكاكين وواجهات تنتفع من الفن، لكنها لا تشكل جهات آمنة يستند إليها الفنان في حالة ضيقه الاقتصادي. بمعنى أن تلك الجهات كانت تنتفع من الفن، غير أنها لم تكن على استعداد لكي تقدم أي دعم الى الفنان. كان الفنان هو آخر الجهات المستفيدة من معرض يقيمه. لذلك فإن ما فعلته القاعة الدمشقية كان فعلاً عظيماً في دلالته التاريخية المتأخرة، غير أن الإثارة غلبت وجاء حس الوصاية الجاهلة ليزيد الامور التباساً عليها ومن خلالها.
ضيوف لا يحبّوننا
منذ سنوات يتحدث الكثيرون ممن يشتغلون في تسويق الأعمال الفنية العربية، عن الفن باعتباره بضاعة كاسدة. في المقابل فإن قاعات الفن صارت تنتشر في غير مدينة عربية مثل نبات الفطر. يومياً تصلني رسائل إلكترونية من قاعات للعروض الفنية لم أسمع بها من قبل، شيء منها يبقي العين ساهرة على ما يمكن توقعه من أحداث تؤكد أن هناك طلباً مستمراً على الاعمال الفنية. ما من كساد إذاً. هناك سوق وهناك أرقام وهناك مستفيدون. ولكن مهلاً. علينا كما نصحنا عبد لكي أن لا نصدّق كل ما تراه العين. ففي دبي وأبو ظبي مثلاً، هناك اليوم عشرات القاعات الفنية الجديدة. لكن تلك القاعات كما يتضح لي من خلال نشراتها التي تصلني إلكترونياً، لا تعرض فناً عربياً. قاعات متخصصة بعرض إنتاجات فنية من كل مكان باستثناء البلدان العربية. هي إذاً جزء من الفقاعة. أماكن محلقة في عالم التجاذبات المالية ولا علاقة لها بالمحيط الثقافي. اما بالنسبة الى المزادات الفنية التي تشهدها المدينتان الخليجيتان وانضمت إليهما حديثاً العاصمة القطرية، رغبة منها في اللحاق بقشور الحياة المدنية، فهي كحال القاعات الجديدة لا علاقة لها بالمحيط الثقافي العربي، وحاجة ذلك المحيط إلى قيام سوق فن حقيقية. مؤسسات بخبراء أبالسة، شعرت أن هناك فائضاً مالياً في هذا الجزء من العالم وقررت أن تستولي عليه من طريق ممارسات تجارية مغلّفة بطابع ثقافي مغر وجذاب ولا يستدعي الاهتمام به تفعيلاً للعقل أو الذائقة الجمالية. في كل موسم تأتي تلك المزادات لتجني أرباحاً خيالية ويختفي بعد ذلك أي أثر منها، مثلما ستختفي يوماً ما تلك القاعات التي تزدري الفن العربي بعد أن تكون قد تأكدت من أن لعبتها لم تعد تحقق لها أرباحاً. أما أحوال الفن العربي فتبقى رهينة مزاج نفعي لا يرى في الفنان إلا ماكينة لإنتاج بضاعة، يستفيد منها الجميع ما عداه. هناك إضاءات حقيقية هنا وهناك من خلال قاعات صارت تبذل جهداً كبيراً في تقديم الفن العربي، غير أن تلك الجهود تبقى أقل من أن تكون بشارة بولادة سوق عربية للفن |