نظرة منه تكفي لكي يحل الصمت. إنه يعمل. ما الذي يفعله الرسام حين يعمل؟ كنت أنظر إلى رافع الناصري من بعيد. لم يكن هو نفسه دائما. يبدو منتشيا كعادته، متأنقا ليوحي بان الاضرار ليست كبيرة. فعل التنقيب يعيد ترتيب الخطوات المتأنية. الخطوة التي فوق قد تنزلق إلى تحت. يحدث العكس أيضا. لا أحد يدري. الرسام يفتح الأطلس ليبعثر الخرائط على المنضدة. يضع قدما على الهند الصينية فيما تقع قدمه الأخرى على الارجنتين. كان الناصري بالنسبة لي دائما رساما عالميا. لم تكن رسومه نتاج ثقافة بعينها. كانت رموزه العربية ـ الاسلامية مستلهمة من لحظة العبور العظيمة. يهوى الناصري أن يكون هناك. في فرشاته. ما من رسام عراقي يثق بضربة فرشاته مثلما كان الناصري يفعل. تقع تلك الضربة دائما في المكان المناسب، بحجمها تماما يقع الألم المتأمل أيضا. لا أحد يفكر في الخسائر. ما يجلبه الرسام من العدم لا يمكن تعويضه فيزيائيا ولا مقاربته من خلال الوصف. لا أحد في إمكانه أن يفكر بدلا من الرسام. يُخيل إلي ان رافعا يوقف التفكير حين يرسم، فهو يصفي أفكاره قبل الرسم. لا يذهب إلى الرسم إلا خفيفا. عدته حواسه المباشرة. لا يخونها ولا تخونه. مثلما يذهب التقاة إلى نومهم تماما. ما من أحد يصلي في نومه.
'أقدم لك غدي قبل أن يقع'
كانت رسومه تسبقه مثل نبوءة. تخلت يده عن تلك العادة حين اضطرت إلى رسم يوميات بغداد، في محاولة منه لرؤية مدينته تحت القصف. عادت إلى الوراء قليلا. صارت يده تتذكر في الوقت الذي كانت فيه تتألم. أطلعني ذات يوم على دفتر يومياته المتأنقة فكانت سفرا حسيا بين لحظات الشهوة الخالدة. يبقينا الناصري أحياءا في لحظة تلصص اسطورية. لحظة تجلس الزمن كله على ركبتيها لتعلمه أن يكون جميلا. نحن نرى. ما الذ ما نراه. شيء منه يسبقه ليقول حقيقة ما يفكر فيه. الرسام لا يطعن في السن، رسومه لا عمر لها. سأحدثه عن الزمن في وقت لاحق. كلما التقيته يبدو متفائلا. قبل عشرين سنة أتذكر أني كتبت عنه وقد بلغ الخمسين من عمره. يومها كنت أظن ان الخمسين هي قمة الجبل. كان رافع يقف على تلك القمة. فنيا كان الرسام كذلك في قمته. كان تخطيه بالنسبة للفنانين الشباب حدثا اعجازيا. الآن بعد عشرين سنة أعتقد أن الأمر لا يزال مثلما كان قبلها. رافع لا يزال في القمة ولم يسبقه أحد. مستقلا يرتجل الناصري أسبابا جديدة لنظرته المتمردة. أعيدك إلى يديك. أنظر إليهما. أعيدك إلى فمك. أقبل المرآة. أعيدك إلى عينيك. أرى الشرق من جديد. هذا رسام شرقي يعتذر. لم ينس أحدا. يقول: 'لفد نسيت' من حقه أن يتعثر بعاطفته. غده الذي يسبقه هو من صنع أمسه الذي صار بعيدا.
سيكون علي أن اواجه مزاج الرسم كله. الناصري مثالي في مزاجه الفني. عن طريق صداقته تعلمت ما لم أتعلمه من الكتاب: اللغة التي تنظف نفسها بنفسها. الثناء على ما لا يتكرر، بالرغم من أنه ينبعث من المكان نفسه. المكان الذي ينشق عن جنات متخيلة وحدائق مغلقة على أسرارها ومدن فاضلة يمر بها المرء مرتبكا مرة واحدة ويعرف أنه لن يعود إليها ثانية. مزاج الناصري الغامض ينطوي في حد ذاته على غواية، تبدأ بالتأمل لتنتهي بالاشراق. يخرج المرء من تجربة النظر إلى تلك الرسوم نورانيا، بشعور عميق بانه تخطى خطيئته الكامنة. تعمل الرسوم على تنظيف روح متلقيها مثلما تنظف ذاتها. حتى في لحظة الحرج العاطفي تبدو تلك الرسوم متأنية في الانصات إلى لغتها الرسولية. تسعى دائما إلى أن تدوزن سلمها الموسيقي بما يجعلها قوية في مواجهة أي ارتباك محتمل. كان عمله الموسوعي (البوابات) سلسلة من الخلاصات الشعرية التي تهب المكان ملمحا تاريخيا، هو أقرب إلى الرؤيا منه إلى الواقعة المباشرة. لقد رسم من خلال أثره العابر، مدنا مر بها، لا ليكون شاهدا، بل ليخلص إلى فكرته: المدن تزول، اما الرسم فلا. العشبة التي بحث عنها جلجامش يستحضرها الرسم باعتباره وهما.
قلق رافع الناصري في انتظار الرسم لا يستمر طويلا.
هذا رسام يعمل. لقد اجتهد كثيرا لكي يتعلم أن يكون صانع رؤى. مبدئيا ظلت علاقته مع الطبيعة قائمة على نوع متشدد من الثقة العميقة. بالنسبة للبعض يبدو الناصري رسام مناظر طبيعية، كما بدا فنسنت بالنسبة لكثير من نقاد عصره. ولا شك أن رسوم الناصري تنطوي على مديح عالي النبرة للطبيعة. لا يؤنسن الرسام ما تلتقطه عيناه، يل يمضي في اتجاه المشهد الطبيعي سعيدا. ظل لسنوات مهتما في أن يرينا الأفق باعتباره دعاءا ايجابيا. في الحقيقة كانت فرشاته تعبر عن شكرها المتعفف. ستكون الهبة بحجم الواهب. وكان رافع كريما في ما جلبه من غنى، يقيم تحت اللغة الحسية المباشرة. غالبا ما كنت أتساءل: ترى هل تغيرت علاقتي بالطبيعة بسبب المدائح التي تسللت من رسوم الناصري إلى روحي؟ غير أنني صرت على يقين (بعد أكثر من ثلاثين سنة من النظر إلى رسومه) ان الطبيعة نفسها قد تغيرت بتأثير النظر إلى تلك الرسوم. أتذكر أنني كتبت ذات مرة ان الطبيعة تقلد الرسوم. وكنت أقصد رسوم الناصري بالتحديد.
في إمكان حقيقة علاقة رافع الناصري بالرسم أن ترشدنا إلى السر. كما أرى فان هذا الرسام قد اهتدى في وقت مبكر من حياته إلى الطبائع التي تشكل عنصر الهام دائم، للشيء ولما يوحي به ولمن يراه. نجح الناصري في أن يفتح الباب التي تفصل بين طبائع الطبيعة وطبائع الرسم على مصراعيها، فكان يتزود بقوته الروحي طازجا، نضرا ولينا من الجهتين. لم يكن وسيطا كما هي حال الرسامين الانطباعيين، بل كان رجل اسئلة، حامل الغاز، منفعلا بالبركة التي هبطت عليه. في مواقع كثيرة نجده يمارس فعل الثناء على طبائع الطبيعة، غير أن الأثر الذي تتركه فينا تلك المدائح تقود إلى الثناء على طبائع الرسم.
من بين كل الرسامين العرب كان رافع الناصري استثنائيا في حرصه على أن يكون الرسم خالصا. لجأ إلى طبائع الطبيعة بالقوة نفسها التي لجأ فيها إلى طبائع الشعر وكذلك إلى طبائع الموسيقى. من المؤكد ان خبرته باعتباره رساما شرقيا (درس الناصري الرسم في بكين بعد بغداد) قد جعلته قادرا على ان يرى الشعر في الطبيعة والعكس يصح أيضا. غير أن الناصري لم يقف عند حدود هذه الثنائية، بل ذهب بعيدا، حين صار يستدعي خبرة المواد المستعملة لتكون له عونا على ما يراه، فيحل ما لا يُرى محل الذي يُرى، من غير أن تختل المعادلة البصرية. لقد تفرغ رافع الناصري لمزاجه التصويري، هناك حيث غنى المادة يعوض ما تفقده الطبيعة من جمال. الآن بعد كل هذا الزمن يمكنني أن أفهم ما الذي يفعله الرسام حين يعمل. إنه يقاوم الطبيعة من أجل أن يراها بطريقة أفضل.
رسوم رافع الناصري وهبتنا عالما يمكن تخيله جميلا.
' شاعر وناقد من العراق يقيم في السويد