حيوية من طراز مختلف هذه المرة. كل شيء فيها جديد على الفنان العربي وعلى المشهد الثقافي أيضا. بسببها وجد بعض الفنانين أن عليهم أن يشعروا بالتفاؤل. لمَ التفاؤل؟ ربما لأن الفنان العربي بعد عقود من سوء الفهم الثقافي والاقتصادي قد وصل إلى قناعة تقضي بان صفة فنان متفرغ، هي نوع من مبتكرات الوسائط الخيالية. ما من فنان عربي يعيش من فنه، إلا في ما ندر. في الجملة التي تقول: ان الفن ترف، مفارقة غريبة. ففي العالم العربي يقتني المترفون الأعمال الفنية (في العالم كله يحدث ذلك)، غير أن ذلك الترف في حالتنا لا ينتقل مثل عدوى إلى الفنان. تبدو فكرة التفرغ للفن أشبه بالاقدام على الانتحار. هناك اليوم في العالم العربي فنانون كبار يعيشون في حالة من الفقر الواضح. لمَ لا نعترف أن هناك من الفنانين العرب من يعيش تحت خط الفقر.
كانت الصلة بين الفنان العربي والقاعات الفنية في عمومها لا تعبر عن ثقة متبادلة. غالبا ما كان أصحاب القاعات يستثمرون نجاحات الفنان لحسابهم الشخصي، كما لو أن الفنان يعمل من أجل أن يثرى الآخرون، في الوقت الذي يكتفي هو فيه بتمثيل دور الناسك، المتعفف، المسافر في أدعية معبد الخيال. في المقابل كان هناك الفن التجاري الذي تسعى الصالات الى تبنيه واشهاره من غير أن تغدر بممارسيه، لا لشيء إلا لأن أولئك الممارسين ينتمون إلى الفئة المتيقظة والحذرة التي لا يمكن أن يغمط لها حق. إذاً كان الفنان الحقيقي (المنذور لفنه باعتباره قضية) هو الضحية دائما. ضحية مزدوجة: من جهة، فان نظرة التقديس الساذجة التي كان الفنان العربي يلقيها على الممارسة الفنية قد جعلته يؤمن أن الأعمال الفنية لا تُقدر بثمن، فهي جزء من مشروع روحي، قد يدنسه التفكير المادي، ومن جهة أخرى فان سوق الفن (وهي هنا تعبير مجازي، فلا وجود لسوق فن حقيقية في الوطن العربي) لا تمتلك أدوات واضحة للقياس. ليست هناك معايير واضحة لمعرفة قيمة العمل الفني، لا على مستوى التاريخ ولا على مستوى الاضافة الفنية أو التجديد. الشيء الوحيد الذي أنا على يقين من وجوده: المزاج الجمالي السري الذي كان يلعب دورا في التقريب بين وجهات نظر الباعة والمشترين.
لم يكن الفنان سوى وسيط في تلك المعادلة السرية. ولكن ماذا يحدث لو امتنع الفنان عن الاشتراك في هذه اللعبة؟ سؤال سيكون مؤجلا فعلا نتيجة للظروف المأساوية التي يعيشها الفنان على المستوى الاقتصادي. يحتاج الفنان إلى الفتات الذي يٌلقى إليه ليعيش، ليرسم، لينحت، ليتأمل قدره الغريب.
في ظرف صعب من هذا النوع صار الفنانون ينظرون إلى الأرقام التي تضمنتها أخبار مزادات الاعمال الفنية كما لو أنها نبوءة السعد. هناك تغيير ممكن في المعادلة إذاً. فنان خليجي لا يمكن تصنيف مستواه فنيا بسبب ضعف تجربته يبيع لوحة بنصف مليون دولار. في الواقع السابق (الحالي) ما من فنان عربي حي تجاوزت أسعار أعماله العشرة الاف دولار. بين النصف مليون والعشرة الاف تقع مسافة درب التبانة، مجرتنا كلها. قال الفنانون: 'حلت البركة' من غير أن يفكروا جيدا. نسوا ان المزاد ما هو إلا واقع افتراضي وكل القيم التي تنتج عنه تتبخر ما أن تختفي المطرقة. ما من بائع وما من مشتر. في (آرت أبو ظبي) الأخير أصيب الأوربيون بصدمة حين أكتشفوا أن آمالهم ظلت حبرا على ورق، فصاروا يلعنون اليوم الذي قرروا فيه القدوم إلى هذه الصحراء القاحلة. فجأة عادت أبو ظبي إلى الصحراء لا لشيء إلا لأن الأخوة السماسرة القادمين من أوربا سيعودون إلى بلدانهم بجيوب خاوية.
الفنان العربي الحقيقي لا يمكنه أن يفهم مزاج وروح المزادات. بل أنه لا يعرف أن الفن الحقيقي لا يصلح أن يكون مادة للتسويق في تلك المزادات، إلا إذا كانت الأعمال المعروضة للبيع قد اكتسبت بعدا تاريخيا، وذلك أمر مختلف، يقع خارج نطاق حديثنا. أما المؤامرات الخفية التي هي جزء أساسي من طبائع هذا النوع من النشاط التجاري، فهي تجري بغض النظر عن نوع المادة المعروضة لاستفزاز غريزة التنافس لدى المشترين. ما من شيء حقيقي وما من حقيقة مثالية يمكن اعتمادها هنا. هناك الأهواء وهناك الشائعات وهناك الأوهام التي تنطوي على قدر عظيم من الجشع. في حالة أخرى يمكن لرجل الأعمال الذي اشترى لوحة من فنسنت فان كوخ بمئات الملايين من الدولارات أن يسحق فنسنت نفسه بقدميه من غير أن يرف له جفن.
ما يجب أن نستوعبه جيدا ان المزادات لا علاقة لها بالشأن الفني.
بالنسبة للمتنافسين في تلك المزادات فان العمل الفني لا يعني شيئا في حد ذاته. فكرة الانتصار على الآخر هي الأهم. كان يمكن للآخر أن يتفوق علي لو أنه رفع السعر قليلا. خيال يذهب إلى الرقم ولا يفكر بقيمة العمل الفني. لذلك فان سياقا منتظما من الأفكار لا يمكنه أن ينشأ في حالة من هذا النوع. هذيان يعبر عن تضارب في المصالح والحسابات لا يمكنه أن يشكل ميزانا عادلا.
لقد اضطربت حواس الفنانين بسبب ما أفرزته تلك المزادات من نتائج.
هذه المرة لم يكونوا على حق. فما من فنان حقيقي يرضى لأعماله أن تكون موضع مزايدة، إلا إذا كان ميتا. وبهذا يمكنني القول أن كثيرا من الفنانين العرب قد عرضوا أنفسهم للمهانة حين أرتضوا أن تعرض أعمالهم في تلك المزادات. ذات يوم في عمان قال لي شاكر حسن آل سعيد بعد أن استغفر ربه: 'لقد صرت أسعر لوحتي بالسنتمتر' ضحكت يومها من براءته وسألته: 'أي سنتمتر تقصد؟' نظر إلي بعمق وكان شفافا وقال: 'أنت على حق'.
لقد استولى المنافقون على الحقيقة.
في سوق الفن هناك شيء ضروري من النفاق، غير أن المزادات لا تنطوي إلا على النفاق خالصا. هذا هو الفرق بين أمرين لا علاقة بينهما بتاتا. في سوق الفن، وهو ما حُرمنا من التعرف عليه، يمكن أن تُسرق لكنك تظل موجودا باعتبارك شخصا معترفا به في المشهد المرئي. اما في المزادات فانك تُسرق من غير أن يتم الاعتراف بوجودك. ستكون موضع رهان، مثل حصان أعمى في سباق خيالي. هناك أرباح تجنى بسببك في الوقت الذي يكون فيه التعب هو حصتك.
الآن بعد أن تبين أن المزادات لا تترك من أثر وراءها سوى الهلع والأفكار المضللة، ألا يزال التفاؤل ممكنا؟ من وجهة نظري فان الفنان العربي قد ارتكب حماقة تاريخية، حين ظن أن السوق الفنية، يمكنها أن تنشأ تلقائيا بمعزل عن ارادته. ترك الأمر للوسطاء. ومن سوء حظنا أن معظم أولئك الوسطاء كان جاهلا وأميا، بحيث كانت لغتهم هي غير لغة الفن الذي يتاجرون به. تتحدث عن الفن فيحدثك أولئك الوسطاء عن الفلكلور والتراث الشعبي. كان الانفصال ولا يزال عميقا بين الفن ولغة السوق.
الآن، كما أعتقد عاد الجميع خائبين. صار علينا أن نفكر بطريقة مختلفة.